رواية إبداعية لها قدرة فائقة على دمج التاريخ بلغاته المختلفة وثقافاته المتعددة فى نص أدبى شيق، تنسج خيوط الزمان والمكان لترصد معاناة الإنسان فى ظروف شديدة القسوة، حيث نجحت الكاتبة العمانية بشرى خلفان، فى روايتها «دلشاد.. سيرة الجوع والشبع»، أن تضع القارئ القلب تماما من تيمة تمركز حولها النص كله، وهى «الجوع» بأشكاله المختلفة، كمتوالية مستمرة يعانى منها البشر على مر الأزمان. «دلشاد»، الصادرة عن منشورات تكوين، والتى وصلت إلى القائمة الطويلة، فى جائزة البوكر العالمية للرواية، بدورتها لعام 2022، شهدت تحقق فكرة المزج بين «الحزن والشغف والتشرد والمغامرة والموت»، فى حكايات تدفقت على ألسنة شخصيات عربية وهندية وفارسية، عكست تعدد الثقافات فى «مسقط» مسرح الأحداث فى الرواية. تدور أحداث الرواية فى زمن سيطر عليه الفقر والمرض، حيث ترك «دلشاد» ابنته الوحيدة لمصيرها، وكان عليها أن تجد طريقها فى عالم من الأطماع تحكمه ذاكرة الجوع، حيث معاينة «الحياة الرواية» كوجهين لعملة واحدة، وقد نسجت الكاتبة من أبطالها وحكاياتهم ثلاثة أجيال، ابتداء بدلشاد مرورا بابنته مريم وصولا إلى حفيدته فريدة. أجواء الرواية تسير نحو استدعاء ملامح من واقع مضى فى النصف الأول من القرن العشرين بمسقط فى عمان، حيث أجواء ما بين الحربين العالميتين، والجوع الذى ساد حينها إثر الحروب والتدخلات الأجنبية والأوضاع الاقتصادية شديدة القسوة، ولم تمنع تلك الأجواء من أن تكون أبطال وشخصيات الرواية، من تلك النوعية التى ترافق القارئ فى حياته الواقعية طوال اليوم. وتتمحور الرواية حول لعبة قدرية خطرة لأبطالها، ما إن تبدأ حتى يجرفك سيل مآسيها لتبكى وتضحك وتشم روائح الموت والفقر، ثم تترك التيار يأخذك إلى دروب يرسمها القدر لشخصياتها، وقد عمدت فيها المؤلفة العمانية منذ اللحظة الأولى إلى التحدث بأصوات الجوع والشبع والحلم والخوف، ذكور وإناث يتناقلون ما بين الخيام بسبب وفاة ذويهم نتيجة الأوبئة والفقر والجوع. يعد أحد أهم الرؤى المتعلقة بالرواية، وهى قدرة المؤلفة على أن تقبض على لحظات من تاريخ عمان، وتنسجها ببراعة بين دفتى كتاب، جاء ضخما فى تكوينه، سريعا ومشوقا فى إيقاعه، لتعريف عديد القراء ببلاد ربما لم يسمعوا عن قومها كثيرا فى أزمنة محددة ومعينة، لنصبح فى النهاية أمام استعراض أدبى بانورامى، شديد الإنسانية عن تاريخ عُمان ما قبل اكتشاف الثروات البترولية. تتراوح ثناية «الجوع والغياب» على أحداث الرواية التى تدور عن الطفل مجهول النسب دلشاد، والذى يتعثر مبكرا فى حياته لعدم معرفة نسبه فيقاسى الويلات بسبب ذلك، قبل أن يصل لمحطة الجوع الذى ضرب مسقط كلها، ويكون لديه أبنة يخشى عليها من الفقر والذل، فيهبها إلى أحد المعارف فى خيمة تقيم فيها شخصية رئيسية وهى «لوماه»، ومع غياب دلشاد، تتعرض ابنته لتداعيات وآثار الحرب التى تطال الجميع فى تلك الفترة. وقد تخلل نصوص الرواية حديث باللهجة العمانية على ألسنة الشخصيات، ليضفى نوعا مع الاتساق بين فصول الرواية، ورغم العديد من المآسى التى طغت على أجواء الرواية، إلا أنها عكست قدرة استثنائية لمجموعة من البشر كانت لديهم فى الأوقات القاحلة، قدرة على الاختلاف والاندماج فى بلد متعدد الهويّات، وقد جاءت متلازمة «الجوع والشبع» لتصبح التعبير الأوضح عن الشعور بالحرمان العام بين كل هؤلاء. صورت الرواية حالة من التمازج العرقى المتعدد، حيث واحدة من أفضل الأساليب السلسة فى السرد التى تم توظيفها لإيضاح كيفية اجتماع لأضداد وانصهارهم وتعايشهم، حتى وإن كان ذلك فى ظروف شديدة الصعوبة، مع ملاحظة بأن جميع أبطال العمل تآلفوا بقدر ما اختلفوا، وقد كان لهم صوتا ولسانا واحدا وإن تم التعبير عنه بتقنية تعدد الأصوات والأسماء، فى حين بقيت اللغة واحدة. وقدمت المؤلفة ما يقارب ال 500 صفحة كعمل ضخم، يتسع للحياة التى عاشها البشر حينها وحكاياتهم وكفاحهم، مع وعد منها فى نهاية الرواية بأن يكون هناك جزء ثانٍ خاص ب«الشبع» بعدما تناولت تيمة الجوع على نحو أجادت فيه واستحقت عليه الوصول إلى قائمة البوكر العالمية. وتستدعى الكاتبة العمانية مفارقة أن العامل الاقتصادى هو المعيار الذى يستند عليه البشر فى كافة الأزمان لتحديد مصائرهم ورسم حياتهم الاجتماعية وتحديد شكلها، وما يمكن أن تئول إليه الأمور صحيا وثقافيا إثر التأثير المباشر لعامل الاقتصاد فى نحت طبيعة العلاقات بين البشر ولغتهم ومعيشتهم، حتى وإن لم يكن ذلك واضحا بشكل فج فى هيئة أرقام وحسابات ومؤشرات مالية، دون إغفال أن العمل الذى تتضافر فيه تلك الأبعاد الاقتصادية والتاريخية التوثيقية، جاء فى قالب روائى شديد الإمتاع والتشويق. لم تجد الكاتبة العمانية صعوبة فى توفير وإتاحة المساحة الإبداعية الكافية أمام الشخصيات لكى يعبروا بواقعية شديدة عما بداخلهم، من مشاعر وعواطف وذكريات تخدم البناء الروائى نفسه، بطريقة ومقدار لم يشعر معها القارئ بأن هناك احتشادا زائدا عن اللازم للتفاصيل فى عمل بهذا العدد الكبير من الصفحات. وقد برهنت رواية «دلشاد» على عدم صواب النظرية التى ترتكن إلى أن كل ما هو من الماضى جميل بالضرورة، وأن الحنين الذى قد يجعل الأمور محببة إلى نفوسنا، يتجاهل طبائع الأمور وقتها، التى ربما تصل حد الفظائع، وأن نجاح الكاتبة بشرى خلفان فى تقريب الصورة الينا عما عاشه الآباء والأجداد فى منطقتنا العربية، تجعلنا نصارع ظواهر الجهل والجوع والمرض بأقصى ما لدينا لتشكيل مستقبل لا يدنو من الماضى الذى كان مأسويا بقدر كبير. استغرقت الكاتبة العمانية بشرى خلفان عام أو يزيد عن ذلك بقليل، فى كتابة «دلشاد سيرة الجوع والشبع»، والتى تبلورت لديها فكرتها فى العام 2017، قبل أن تبدأ فى تكوين عالمها الروائى شيئا فشيئا نهاية سبتمبر 2019، حيث استندت فيها إلة ما يقال من حكايات مسقط القديمة، وما تناقلته الألسنة والمدونات عن جوعها الشديد وظروفها شديدة الصعوبة حينها. وتجدر الإشارة إلى أن بشرى خلفان قاصة وروائية من سلطنة عُمان، ولدت فى عام 1969. تمتد تجربتها الإبداعية فى كتابة القصة والرواية والمقال لأكثر من ربع قرن. كتبت المقال الأسبوعى، وحازت على جائزة جمعية الكتاب والأدباء العُمانية لأفضل إصدار للنص المفتوح عن «غبار» (2008). ترأست بشرى خلفان لجنة الأدب والإبداع بالنادى الثقافى، مسقط، فى الفترة من 2010 وحتى 2012، كما أدارت مختبر السرديات العُمانى، كعضو مؤسس من 2014، أقامت العديد من ورش العمل فى الكتابة الإبداعية داخل عُمان وبلدان الخليج العربى.