لم يكن عشق عادل إبراهيم للأدب والصحافة هاجسه الوحيد الذى اصطحبه معه من بلده الجنوبى إلى العاصمة، فذكريات موت شقيقه يسرى بعد اعتقاله بتهمة انتمائه للجماعة الإسلامية، والعديد الذى لم يفارق لسان أمه المكلومة التى فقدت إحدى عينيها حزنا، ووالده العجوز الذى تكالبت عليه آلام الجسد والفراق، فيستغيث «يا ربى عملت إيه فى دنيتى؟ الواد يروح منى والولية عينها تروح والعيا يمسكنى فى رجليه.. حسبى الله ونعم الوكيل.. راضين بحكمك يا رب». ميراث «البلد» الثقيل والأفكار الأصولية التى كان يرفضها ونمت داخل بيته، وملامح شقيقيه يسرى المتشدد وجمال الغارق فى طموحه المادى، لم تغادر جميعها خواطر عادل بطل رواية «زهرة البستان» لكاتبها خالد إسماعيل، التى صدرت عن دار ميريت فى 179 صفحة، والذى قرر أن يجوب عوالم القاهرة المتشابكة منقبا داخلها عن خلاصه، وهو الاعتراف بموهبته فى الكتابة بالتماس كل دروبها واقتفاء آثار قاماته وعلى رأسهم معشوقه الروائى الكبير يحيى الطاهر عبدالله، فيصف الكاتب أولى لحظات عادل القاهرية «كنت فى ندوة جريدة «المساء» 24 شارع زكريا أحمد، أحمل الأجندة التى كتبت فيها القصص وعلبة السجائر السوبر، فى جيبى 50 جنيها، وشنطتى فيها أوراق وقلم جاف، وقصص نشرتها فى «المساء»، عندما كنت طالبا فى الجامعة، والأجندة فيها قصص لم أنشرها، ومسجل فيها عناوين وتليفونات أدباء وزملاء درسوا معى فى الجامعة، وساعدتهم ظروفهم على الانتقال إلى القاهرة». كان عادل واعيا بالأبواب التى يريد طرقها من أجل تقديم نفسه أدبيا، فهو لم ينس يوما ما قاله له «حسن عبود» القاص السوهاجى وهو المسئول عن صفحة الثقافة فى جريدة «صوت سوهاج» إن اعتراف أدباء مقهى «زهرة البستان» بموهبته هو الضمان الأول له، لأن يصبح أديبا، وأضحى هذا الأمر من الأهمية لعادل إبراهيم بحيث أصبح اعتراف «زهرة البستان» به هو الحلم الكبير الذى يطارده فى صحوه ومنامه، وكان «على نصار» هو أول من قاده إلى هذا المقهى بحسبه أحد زبائنه المخلصين الذين يكتبون الأدب، وبدأت علاقته بنصار بعد التقائه فى ندوة جريدة المساء التى ألقى فيها إحدى قصصه، وتطورت إلى الحد الذى استقبله فيه على نصار فى منزله بوصفه مغتربا لا يملك حتى ثمن المبيت، وتعرف عند هذا القاهرى على خبرات جديدة لم يكن قد ورد عليها من قبل كشرب الخمر، والاصطدام برائحة العفن التى كانت تفوح من هذا البيت التى لم يستطع رغم أنه ليس صاحب مكان أن يخفى استياءه منه لعلى نصار الذى جاء رده « إنت أول مرة تخش بيت مثقف قاهرى، وأول مرة تتعرف على القاهرة بشكل حقيقى، كل اللى بتشوفهم دول لابسين بدل وحاطين برفانات، مدهونين وبيلمعوا.. دول كلهم مش مثقفين دول مباحث، الحكومة طالقاهم علينا، يقعدوا معانا ويتكلموا ويشربوا بيرة وبعد كده، كل حرف وكل كلمة نقولها يكتبوها فى تقارير ويسلموها للضباط اللى مشغلينهم، مفيش واحد م اللى أنت بتشوفهم دول مناضل حقيقى ولا ثورى حقيقى، كلهم بيهربوا ويهبشوا وقاعدين فى شقق نضيفة، دول شوية مدعين، ماتغركش المظاهر». وظلت الرواية تتتبع على نصار المؤمن بالشيوعية الذى شهدت حياته التطور الأكبر عبر تاريخه بارتباطه ب«لندا بدروس» التى فتحت له باب «الفلوس» من خلال عمله فى مركز «رعاية أطفال الشوارع للتنمية»، وبعد ذلك اغتيالهما ليصبحا بطلا شائعات «زهرة البستان» ما بين القول بأن سفرهما خارج مصر إلى العاصمة البريطانية كان بمباركة أجهزة الأمن المصرية، وما بين القول بأنهما تخصصا فى دراسة موضوع الجماعات الإسلامية مع «الأمريكان» وعملوا مركز أبحاث متخصص فى دراسة الجماعات الإسلامية، وأن لندا كانت تشارك فى الاحتفالات التى كانت تقيمها السفارة الإسرائيلية خاصة تلك التى بمناسبة إعلان تأسيس دولة إسرائيل، إلا أن النعى الأكثر صيتا هو اعتبار الرفيقين المناضلين على نصار ولندا بدروس قد قررا الإقامة فى العاصمة البريطانية ليتصديا لدعاة الفكر الوهابى المعادى للمرأة والحرية ودفعا حياتهما ثمنا للحرية. توطدت علاقة عادل ب«زهرة البستان» وروادها حتى أنها كانت إحدى بواباته لدخول عالم الصحافة وكسب العيش بعد أن قضى ليالى طويلة مسكونا بالفلس، والتقى بالكثير من الوجوه التى ألقت ببصمتها على مساره منهم الصحفية «أمل كامل» التى قادتها طموحاتها للزواج من «سيد مرزوق» 60 عاما، بعلاقاته وتأثيره فى وزارة الثقافة والمركز الثقافى الإسبانى، وحدّث عادل نفسه مرة «لم أحزن لقرار أمل كامل الخاص باختيارها سيد مرزوق زوجا، لأن تفكيرى فيها، هى التى دفعتنى إليه وقلت لنفسى» مفيش مانع الواحد يجرب»، ولم أغضب عندما قالت إنها أعطت قلبها للفنان «سيد مرزوق» أو أنها اختطف قلبها، لأننى كنت أتعامل معها وأنا مرتبك، فأنا آكل وأشرب وأدخن على حساب الأصدقاء، والأعمال التى التحقت بها كلها كانت مؤقتة، أطول مدة قضيتها فى مكتب جريدة عربية دامت شهرين، وتنقلت من بيت «حامد بسيونى» إلى بيت «على نصار» إلى شقة الدكتور «نظمى عبدالرحيم»، فوجدتنى أنغمس فى عوالم الأصدقاء، وحكاياتهم وأفكارهم، والكتب الموجودة فى مكتبة على نصار وضعتنى فى حالة فكرية مختلفة عن الحالة الفكرية التى كنت عليها، جئت من «البلد» وأنا أسعى إلى الاستقرار، وتحقيق حلم الكتابة والإبداع والهدف الأهم وراء اختيارى القاهرة مكانا للإقامة هو الهروب من البلد».