لا تبخل إسرائيل عن دفع الغالي والنفيس من أجل استرداد رفات أحد جنودها أو الإفراج عن أسراها، وفي حالات كثيرة أنكسر كبرياؤها واضطرت إلى توقيع صفقات تبادل للأسرى كانت تصفها دوما بالمؤلمة غير أنها في مقابل ذلك ربما تكون الدولة الوحيدة في العالم التي تحتجز جثامين الأسرى والشهداء لفترات فاقت 40 عاما وتصر على ضرورة أن يكمل الشهيد مدة محكوميته التي تصل في حالات عدة إلى عشرات المؤبدات. ومنذ احتلالها للأراضي الفلسطينية،لا تزال إسرائيل تحتجز مئات من جثامين الأسرى والشهداء الفلسطينيين والعرب في مقابر غير إنسانية تقع في مناطق عسكرية مغلقة وتمنع زيارتها تسميها مقابر الأرقام كنوع من الاستهانة بإنسانية من دفنوا فيها، رغم أن العالم انتهى من هذا النوع من الجرائم اللاإنسانية منذ مطلع القرن التاسع عشر وهو الزمن الذي كانت فيه بريطانيا تمارس عقوبة تقطيع جثمان المتهم في بعض الجرائم بعد إعدامه. ويعلق سالم خلة منسق الحملة الوطنية الفلسطينية لاسترداد جثامين الشهداء والمفقودين الفلسطينيين والعرب - في حديث لموفد وكالة أنباء الشرق الأوسط إلى رام الله - على هذه العنصرية الإسرائيلية بالقول إن إسرائيل تعد الدولة الوحيدة في العالم التي تعاقب الشهداء والأسرى بعد موتهم وتحرم عائلاتهم من دفنهم وفقا للتقاليد الدينية المرعية في هذا الخصوص منتهكة بذلك اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 وملحقاتها والتي تكفل للموتى تكريمهم ودفنهم.ويتساءل مستنكرا: إذا كانت إسرائيل تزعم للعالم أنها تحتجز آلاف الأسرى الفلسطينيين لأن أياديهم ملطخة بالدماء، فماذا ستقول للعالم بشأن احتجاز جثمان شهيد توفي قبل 40 عاما"؟. ويكشف خلة أن اللجنة رصدت حتى نهاية عام 2009 عدد 302 حالة لجثامين شهداء مجهولة المصير ومحتجزة في مقابرالأرقام الإسرائيلية ويرفض الاحتلال الإفراج عنها أو الكشف عن هويتها بشكل كامل ويحيط الموضوع بالسرية إلى حد كبير،مشيرا إلى أنه ما زالت هناك مئات الجثامين المحتجزة الأخرى التي تسعى اللجنة إلى توثيقها تمهيدا للمطالبة باستردادها. ويوضح أن أغلب هذه الجثامين تعود لأشخاص نفذوا عمليات تفجيرية داخل إسرائيل أو في مواقع عسكرية إسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ العام 1967 وحتى الآن،كما تشمل مدنيين فلسطينيين حاولوا العودة للأراضي الفلسطينية المحتلة للالتحاق بعائلاتهم ولقوا حتفهم أو انقطعت أخبارهم بعد دخول الحدود،فضلا عن عشرات المعتقلين الذين كانوا محتجزين في سجون الاحتلال واستشهدوا داخلها. ومقابر الأرقام السرية الإسرائيلية عبارة عن مدافن بسيطة محاطة بالحجارة بدون شواهد، ومثبت فوق القبر لوحة معدنية تحمل رقما معينا، ولهذا سميت بهذا الاسم لأنها تتخذ الأرقام بديلا لأسماء الشهداء، ولكل رقم ملف خاص تحتفظ به الجهة الأمنية المسئولة ويشمل المعلومات والبيانات الخاصة بكل شهيد.. ولكون هذه المقابر عبارة عن مدافن رملية قليلة العمق فان ذلك يعرضها للانجراف بسبب التغيرات المناخية،ما يؤدي إلى ظهور الجثامين منها لتصبح عرضة لنهش الكلاب الضالة والوحوش الضارية. ويقول سالم خلة منسق الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء والمفقودين الفلسطينيين والعرب إن إسرائيل تعاملت بإهمال مع قضية جثامين الشهداء من حيث التوثيق والتعريف خلال الفترة بين عامي 1968 و1972ما تسبب في فقدان الأدلة اللازمة لتحديد هوية الجثث وأماكن المقابر اليوم. ويضيف أن ذلك دفع سلطات الاحتلال إلى اشتراط تحليل الحامض النووي للتعرف على جثمان الشهيد أو الأسير على نفقة الأهل الراغبين في استرجاعه وهو ما يصعب تحمله على معظم العائلات الفلسطينية من أسر الشهداء لتكاليفه الباهظة.وكشفت تقارير إعلامية إسرائيلية وغربية النقاب في السنوات الأخيرة عن أربع مقابر أرقام توجد جميعها في مناطق عسكرية مغلقة الأولى مقبرة تقع قرب جسر بنات يعقوب عند ملتقى الحدود الإسرائيلية السورية اللبنانية، ويرجح وجود ما يقرب من 500 قبر فيها لشهداء فلسطينيين ولبنانيين غالبيتهم سقطوا في العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982 وما بعد ذلك. والمقبرة الثانية تقع في غور الأردن بين مدينة أريحا وجسر داميه ويحيط بها جدار له بوابة تعلوها لافتة مكتوب عليها بالعبرية مقبرة لضحايا العدو" يوجد بها نحو 100 قبر تحمل أرقاما من 5003 إلى 5107، ولا يعرف إن كانت هذه الأرقام تسلسلية لقبور في مقابر أخرى أم كما تدعي إسرائيل بأنها رموز تشير إلى بيانات خاصة بكل جثة ولا تعكس عدد الضحايا في هذه المقبرة أو غيرها من المقابر. وتسمى المقبرة الثالثة ريفيديم في غور الأردن، أما الرابعة فتعرف بمقبرة شحيطة وتقع في قرية وادي الحمام شمال مدينة طبرية الواقعة بين جبل أربيل وبحيرة طبريا، وغالبية الجثامين فيها لشهداء معارك منطقة الأغوار بين عامي 1965 و1975 ..وينتشر في الجهة الشمالية منها نحو 30 ضريحا في صفين طويلين،فيما ينتشر في وسطها نحو 20 ضريحا. ويقول سالم خلة منسق الحملة الوطنية الفلسطينية لاسترداد جثامين الشهداء والمفقودين إن روح الانتقام والعنصرية والبراجماتية الإسرائيلية تتجلى في أبرز صورها في احتجاز جثامين الشهداء ومنع إعادتهم إلى ذويهم لتحقيق مجموعة من الأهداف في آن واحد أولها الردع،حيث تعتقد سلطات الاحتلال أن احتجاز الجثث يردع الآخرين عن القيام بأي أعمال ضد إسرائيل وجيشها ومواطنيها، وثانيها تخوف إسرائيل من تحول جنازات هؤلاء الشهداء إلى مهرجانات سياسية شعبية تمجد ما قاموا به ما يشجع آخرين على تقليدهم،فضلا عن استخدام هذه الجثامين في صفقات تبادل الأسرى كما حدث مع حزب الله اللبناني. وأطلقت إسرائيل بموجب صفقة لتبادل الأسرى مع حزب الله في 16 يوليو 2008 سراح سمير القنطار أقدم أسير عربي في سجونها والذي اعتقل لنحو 30 عاما،وثلاثة أسرى لبنانيين آخرين، وأعادت رفات 200 جثة لمقاتلين فلسطينيين ولبنانيين. وبالمقابل إستعادت جثتي الجنديين أيهود جولدفاسير وإلداد ريجيف اللذين وقعا في أسر الحزب في 12 يوليو 2006 .ويشير سالم خلة إلى أن حكومة إسرائيل تدعى بواسطة ممثليها القانونيين في الالتماسات المنظورة أمام المحكمة العليا الإسرائيلية لاسترداد جثامين الشهداء أن الاحتفاظ بهذه الجثامين يمكن أن يعزز موقفها في صفقات تبادل الأسرى مع حركة حماس، وعلى هذا الأساس فان المحكمة المسيسة لم تتطرق لمسألة شرعية الاحتفاظ بالجثامين كورقة مفاوضات وسكتت على هذه المسألة بحيث لا يتم رد الالتماسات من ناحية ولا البت فيها من ناحية أخرى. وكشفت صحيفة يديعوت أحرونوت في 23 يونيو الماضي أن وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك شكل لجنة لوضع معايير في قضايا تبادل الأسرى أطلق عليها اسم "لجنة تحديد أسس مفاوضات تبادل الأسرى أو لجنة شمغاز نسبة إلى أحد أعضائها الثلاثة مائير شمغاز القاضي السابق في المحكمة العليا. ووفقا للصحيفة فقد أوصت اللجنة بأنه في مقابل كل أسير إسرائيلي يتم الإفراج عنه وهو على قيد الحياة يتم الإفراج عن عدد محدود من الأسرى الفلسطينيين، وأنه عند استلام جثث جنود إسرائيليين يتم الإفراج عن جثث شهداء فلسطينيين فقط. وتم الإعلان عن تأسيس حملة استرداد جثامين الشهداء والمفقودين الفلسطينيين والعرب في مايو 2008،وأطلقت رسميا في 27 يوليو من العام نفسه،وفى وقت لاحق اتخذ مجلس الوزراء الفلسطيني قرارا باعتبار يوم السابع والعشرين من شهر أغسطس من كل عام يوما وطنيا لاسترداد جثامين الشهداء والكشف عن مصير المفقودين.وعن أهداف الحملة، يقول سالم خلة إنها تركز على قضية احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين والعرب فيما يسمى مقابر الأرقام باعتبارها من الانتهاكات التي لم تلق اهتماما بنفس الدرجة التي لقيتها الانتهاكات الأخرى مثل قتل المدنيين والإعدام خارج نطاق القانون والاحتجاز التعسفي وهدم المنازل وبناء المستوطنات ومصادرة الأراضي. ويوضح أن الحملة تستهدف تمكين ذوى الضحايا من الشهداء الفلسطينيين والعرب من استرداد جثامين أحبائهم وتشييعهم ودفنهم وفقا للتقاليد الدينية وبما يليق بكرامتهم الإنسانية والوطنية والكشف عن مصير المفقودين.وأضاف أنه لتحقيق ذلك الهدف عملت الحملة على جمع البيانات والمعلومات عن كل حالة وتوثيقها وخلق رأي عام فلسطيني وإقليمي ودولي داعم ومساند،وبناء شبكة من المنظمات الفلسطينية والعربية والدولية المدافعة عن حقوق الإنسان للضغط على حكومة إسرائيل للوفاء بالتزاماتها كدولة احتلال بموجب القانون الدولى واتفاقيات جنيف،بالإضافة إلى المتابعة القانونية لدى الجهات القضائية الإسرائيلية ذات الاختصاص وعلى رأسها المحكمة العليا. وردا على سؤال حول إنجازات الحملة منذ إطلاقها، يقول سالم خلة إن المحكمة العليا الإسرائيلية وافقت في مطلع ديسمبر الماضي على إلتماس تقدمت به الحملة عبر مركز القدس للمساعدة القانونية للسماح لعائلة الشهيد مشهور طلب العاروري المحتجز في مقابر الأرقام منذ 33 عاما من الوصول إلى قبر ابنها للتأكد من هويته عبر فحص الحامض النووي ليتم بعدها نقل الجثمان لقريته لتشييعه ودفنه وفقا لتقاليد الشريعة الإسلامية.غير أن جيش الاحتلال طلب مهلة كانت من المفترض أن تنتهي في مطلع فبراير الجاري لكنه عاود طلب مهلة إضافية لتبليغ المحكمة بإجراءات تسليم جثمان الشهيد لدفنه في مسقط رأسه في قرية عارورة. ويؤكد خلة أن الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء والمفقودين تركز في الوقت الراهن على حالة العاروري للبناء عليها حال تنفيذها في المطالبة بإعادة جثامين باقي الشهداء والأسرى، وهناك 10 التماسات جاهزة بالفعل للتقديم إلى المحكمة العليا الإسرائيلية،مشددا على أن الحملة ستواصل النضال حتى تشيد "قبرا" لكل شهيد وشهيدة.