كثرت في السنوات القليلة الماضية التقارير التي تضع مصر ضمن الدول الأكثر عداءً للإنترنت في العالم ، كان أحدثها التقرير الصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود" غير الحكومية يوم 12 مارس الحالي بعنوان "أعداء الإنترنت" ، والذي وضع مصر مع 11 دولة أخرى اعتبرتهم المنظمة أعداءً للإنترنت في العالم هي: السعودية ، بورما ، الصين ، كوبا ، إيران ، كوريا الشمالية ، تونس ، تركمنستان ، أوزبكستان وفيتنام. المعيار الذي على أساسه اختارت "مراسلون بلا حدود" هذه الدول تحديداً أنها دول لم تكتف فقط بالرقابة ومنع المستخدمين من الوصول للمحتوى الذي تراه هذه الدول غير مرغوب فيه على الشبكة ، لكنها أيضاً تمارس أنواعاً من (القمع المنظم) لمواطنيها من مستخدمي الإنترنت ، حسب وصف التقرير. أما عن التفاصيل الخاصة بمصر ، فقد أبرز التقرير السيطرة شبه الكاملة للحكومة على البنية الأساسية للإنترنت في مصر وتعزيز الحكومة المصرية لرقابتها على الإنترنت منذ بداية 2007 في إطار ما يعرف بالحرب على الإرهاب ، والتي كان من نتائجها ضرورة الحصول على البيانات الشخصية في الكثير من مقاهي الإنترنت بناءً على تعليمات من الأمن ، أو بالرقابة على شبكات الإنترنت اللاسلكي Wi Fi في الأماكن العامة منذ الصيف الماضي ، والتي أصبح الولوج إليها يتطلب إدخال رقم البطاقة ورقم التليفون المحمول وغيرها من الإجراءات التي لها تأثير مباشر على حرية التعبير حسب وصف التقرير أيضاً. يؤكد التقرير على أن حرية التعبير لا تزال موجودة في مصر على عكس دول أخرى في القائمة مثل السعودية وسوريا ، وأن الويب أصبح مساحة للعمل وتحديداً من خلال الشبكات الإجتماعية والتي بدأت تحل محل النقابات العمالية التي تعاني أنشطتها من التدخل الحكومي تحت مظلة قانون الطواريء. ويضرب التقرير مثالاً بمجموعة واحدة على شبكة فيس بوك انضم إليها أكثر من 65,000 عضو وهي المجموعة الداعية إلى إضراب أبريل 2008. وحيث أنه لا يوجد قانون لتنظيم الإنترنت في مصر ، فإن وزارة الداخلية قد استحدثت عام 2002 إدارة للتحقيق في جرائم الإنترنت ، وكنتيجة لهذا قام الأمن باعتقال حوالي 100 مدون عام 2008 بتهمة "تهديد الأمن القومي" ، منهم من تعرض للضرب أو الاحتجاز لأيام طويلة أو حتى الحصول على أحكام قضائية بالسجن. وهنا ينتهي كلام "مراسلون بلا حدود" عن عداوة مصر للإنترنت. قد يرى البعض أن وضع مصر في قائمة كتلك شيء مجحف في ظل الجهود الحكومية أيضاً ، والتي ساعدت على تسهيل الحصول على أجهزة الكمبيوتر ، والتي أدت إلى وصول مستخدمي الإنترنت في مصر إلى أكثر من عشرة ملايين مستخدم العام الماضي كأحد أكثر الدول نمواً في أفريقيا من هذه الناحية ، بالإضافة إلى التزايد الدائم لأعداد المشتركين في خدمة الإنترنت فائق السرعة ADSL ، وأن هذه الإجراءات التي تقوم بها الحكومة لرقابة والتحكم في الإنترنت هي للصالح العام - مع افتراض أقصى درجات حسن النية - وهي الفكرة التي لا أتفق معها إطلاقاً. ولكن دعونا نفكر سوياً ، ما هي الأشياء التي قد تجعل من بلد مثل مصر عدو للإنترنت بخلاف ما ورد في تقرير "مراسلون بلا حدود".. هل هو مثلاً غياب الحكومة عن الإنترنت رغم تحكمها فيه؟ الرد سيكون أن حكومتنا (ذكية) وأن لديها عشرات المواقع الحكومية التي تقدم معلومات وخدمات مجانية للمواطنين الطامحين إلى (الذكاء). ولكن قليل من الخبرة مع هذه المواقع ستخبرك أنها تعاني من فقر وعشوائية وعدم تحديث للمعلومات الواردة بها - والأمثلة كثيرة لمن يريد - وعدم واقعية خدماتها التي تعلن عنها الحكومة مراراً ، فهي إما لا تعمل لسبب ما أو أنها تتطلب مثلاً استخدام بطاقة ائتمانية لدفع قيمة أحد الخدمات ، وهو الشيء غير الواقعي في حالة بلد لا يمتلك معظم مواطنيه الكاش حتى يحملوا الفيزا كارد. لتكتشف ببداهة أن منظومة المواقع الحكومية ليست أكثر من (يُفط) كالعادة لا تحمل أبداً مثل ما تدعي أنها تحمله ، والله وحده يعلم حجم المبالغ التي أنفقت وتنفق عليها ، هذا غير المساعدات من الشركات والحكومات الأجنبية لدعم حكومتنا الذكية. فأنا أفهم أن من يتحكم في منظومة مثل الإنترنت ويمنع الوصول لبعض محتواها ، أن يقوم بتقديم البدائل. فما الذي يمكن لشباب البلد فعله أو معرفته على الإنترنت أكثر من الدردشة واللعب ومتابعة ما يذهب العقول والقلوب من مواقع إباحية وأفكار من الشرق والغرب ، ما الذي قامت به الحكومة الذكية لأرشفة ووضع تراث وتاريخ وثقافة وإبداعات أبناء البلد على الإنترنت ، وتقديمها لعامة الناس كباراً وصغاراً وليس للمتخصصين والأكاديميين فحسب. كيف تخطط الحكومة لمنظومة تعليمية قادرة على إنتاج كوادر تقنية وفنية وإدارية تقود هذه الصناعة التي تدر المليارات بدلاً من هذا التخبط الذي تعانيه الصناعة ونقص الكوادر المؤهلة لها. لماذا لا تدعم الحكومة البرمجيات حرة المصدر وتضعها في مناهج البرمجة في المدارس والمعاهد والكليات لتمكين المزيد من المصريين من الإبداع في هذا المجال بدلاً من الشكوى الدائمة من سرقة المصريين للبرامج وإنفاق الملايين سنوياً للحصول على برامج لها بدائل مجانية تنتشر في العالم انتشاراً لا سابق له ، لصالح من؟! متى تكون لدينا النوايا الصادقة والآليات النافذة للاستفادة الحقيقية من الإنترنت وتحويله من وسيلة اتصال إلى وسيلة معرفة كما تفعل دول وشعوب كثيرة ، بدلاً من التباهي بأرقام وإحصاءات نعرف أن دلالاتها ليست بتلك الروعة ، وبدلاً من محاولات مُرة للتأكيد على أن مصر ليست بالبلد العدو للإنترنت وحرية التعبير والتحضر والمدنية.