التقرير المنشور فى «الشروق» مؤخرا (4 فبراير) عن نشاط اللوبى المدفوع الذى تقوم به شركات أمريكية للترويج لمصالح أو شخصيات مصرية معينة فى الدوائر الأمريكية يثير الكثير من علامات التعجب، لا من حيث المبالغ المدفوعة، ولا حتى أنواع الترويج المطلوب، ولكن من ناحية دواعى النشاط فى هذه الفترة بالذات والنتائج التى يمكن أن يحققها. يقول التقرير إن المكتب الإعلامى للسفارة المصرية فى واشنطن تعاقد مع شركتين أمريكيتين للعلاقات العامة منذ 2008 لإرسال بيانات صحفية لوسائل الإعلام الأمريكية للتعريف بزيارات شخصيات مصرية للولايات المتحدة، من بينها السيد رشيد محمد رشيد، والسيد جمال مبارك، ود. حسام بدراوى ود. عبدالمنعم سعيد من الحزب الوطنى، والسيد منير فخرى عبدالنور سكرتير حزب الوفد، وأنهم متاحون أى راغبون فى إجراء مقابلات صحفية أو تليفزيونية، كذلك إعداد ملفات إعلامية للصحفيين عن مصر وبعض قضاياها. ومن بين الإنجازات التى حققتها إحدى الشركتين تقديم السفير المصرى سامح شكرى، عندما تولى منصبه الجديد فى عام 2008 إلى عضوين من أعضاء مجلس النواب الأمريكى! واللوبى ويعنى قيام أفراد أو جماعات أو منظمات أو شركات متخصصة بمحاولات التأثير فى قرارات السلطة التشريعية أو التنفيذية لصالح قضايا تعنيها هو من الأنشطة القديمة المشروعة فى الولاياتالمتحدة، وينظمها «قانون تسجيل الوكلاء الأجانب» الصادر عام 1938، والذى يلزم الوكلاء العاملين لصالح دول أجنبية بتقديم تقارير نصف سنوية لوزارة العدل عن نشاطهم واتصالاتهم ومنتجاتهم والمبالغ التى يتلقونها ومصدرها وأوجه صرفها. وقد عرفت الدول العربية فاعلية هذا النشاط من تأثير اللوبى الإسرائيلى غير المسجل على الكونجرس والإدارات الأمريكية المختلفة مند أوائل ستينيات القرن الماضى. ومن أبلغ الأمثلة الأخيرة لنفوذ اللوبى الإسرائيلى القرار الذى أصدره مجلس النواب الأمريكى فى 9 يناير 2009، فى ذروة عمليات الاقتحام الإسرائيلى لقطاع غزة وبينما الجيش الإسرائيلى يقصف السكان المدنيين بالفسفور الأبيض الحارق، وأعلن فيه المجلس بأغلبية 390 صوتا ضد خمسة أصوات أنه «يؤيد بقوة حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها ضد هجمات الصواريخ من غزة». والذين ينعون على الرئيس أوباما الآن خيبة أملهم بعد ما أبداه من نوايا حسنة تجاه المسلمين عامة وحقوق الفلسطينيين بشكل خاص فى خطابه بجامعة القاهرة فى يونيو الماضى قد نسوا خطابه فى نفس التاريخ عام 2008 أمام مؤتمر «ايباك» (اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشئون العامة) أكبر منظمات اللوبى الإسرائيلى وأخطرها شأنا، والتى يقول الخبراء إنها تتحكم فى ثلاثة أرباع الأصوات فى مجلس الشيوخ وأكثر من نصف الأصوات فى مجلس النواب. ولا يفوت أى قارئ ذكى أن يدرك أن مسئولو المنظمة هم الذين صاغوا كل كلمة جاءت فى خطاب أوباما أمام مؤتمرها العام حينئذ، وكان ذلك قبل يوم واحد من نجاحه فى الحصول على ترشيح الحزب الديمقراطى لانتخابات الرئاسة التى فاز فيها على منافسه جون ماكين فى نوفمبر من العام نفسه. ومن نماذج تأثير اللوبى الإسرائيلى القريبة تهديد الكونجرس الأمريكى فى يناير 2008 باستقطاع 100مليون دولار من المعونة السنوية الأمريكية لمصر بسبب تهاونها مع وقف التهريب إلى قطاع غزة عن طريق الأنفاق، بالإضافة إلى سجلها السيئ فى مجال حقوق الإنسان، مما دعا السيد أبوالغيط وزير الخارجية إلى اتهام إسرائيل وقتها بأنها تحاول الإضرار بمصالح مصر. وليس من المستبعد ربط ذلك التهديد بجهود مصر النشطة الآن لإقامة ما اصطلح على تسميته بالجدار الفولاذى تحت الأرض على شريط الحدود المصرية مع قطاع غزة، والذى يوصف بأنه عمل سيادى لحماية الحدود المصرية، مع تأكيد كل مسئول مصرى بين يوم وآخر أن مصر لا تخضع للضغوط الأجنبية. وللوبى الإسرائيلى ومنظماته العديدة فى الولاياتالمتحدة تاريخ طويل وناجح فى الدفاع عن مصالح إسرائيل وسياساتها وإحباط المطالب العربية الفلسطينية، بل وفى تحييد أى سياسة أو قرار أمريكى يعارض احتلال إسرائيل للأراضى العربية منذ هزيمة1967، أو يمس المعونات الأمريكية السنوية الضخمة لإسرائيل، أو قرارات تصدير السلاح للدول العربية. إسرائيل بحجمها السكانى تمثل 1/1000 من سكان العالم ومع ذلك تحصل سنويا على ثلثى المعونة الخارجية الأمريكية. ومن الأمثلة التاريخية على نفوذ اللوبى الإسرائيلى فى واشنطن الحملة التى جند فيها 76 من أعضاء مجلس الشيوخ المائة لإرسال خطاب مشترك للرئيس الأمريكى الأسبق جيرالد فورد يطالبونه فيه بالاستجابة «لاحتياجات إسرائيل العسكرية والاقتصادية العاجلة، وتأكيد أن الولاياتالمتحدة، انطلاقا من مصالحها القومية، تقف إلى جانب إسرائيل فى السعى نحو السلام فى الشرق الأوسط». كان هنرى كيسنجر قد عاد فى وقت سابق من محادثات اتفاق فصل القوات الثانى بين مصر وإسرائيل عام 1974 غاضبا بسبب تعنت إسرائيل فى المفاوضات واقترح على فورد «إعادة تقييم» السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط.. مما أسفر عن وقف شحنات الأسلحة لإسرائيل.. مؤقتا. لكن خطاب ثلاثة أرباع أعضاء مجلس الشيوخ كان له مفعول السحر إذ إن عملية إعادة التقييم انتهت إلى اعتماد الكونجرس مبلغ 2600 مليون دولار كمعونة عسكرية استثنائية لتعويض إسرائيل عن خسائرها فى حرب أكتوبر. إذا كان للوبى الإسرائيلى الأمريكى ومنظماته وناشطيه هذا النفوذ المفرط على صناعة السياسة الأمريكية بشكل أثار العديد من الأكاديميين والصحفيين الأمريكيين وبعض أعضاء الكونجرس.. فلماذا لم ينجح العرب فى تأسيس لوبى مضاد يدافع عن المصالح والقضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية التى تقتلها مؤتمرات القمة العربية بحثا وتأييدا كل عام؟ والعرب الأمريكيين فى كل الأحوال هم جزء من النسيج الاجتماعى والسياسى والإنتاجى فى المجتمع الأمريكى؟ الحقيقة أن العرب الأمريكيين قاموا بجهد وتنظيم ملموسين خلال فترة السبعينيات والثمانينيات بالذات فى هذا الشأن، وكان من أبرز تنظيماتهم جمعية العرب خريجى الجامعات الأمريكية، والجمعية القومية للأمريكيين العرب، بالإضافة إلى العديد من الجمعيات الإسلامية والاجتماعية والطلابية...لكن عوامل كثيرة أجهضت مثل هذه التنظيمات منها: غيبة القيم المشتركة بين الثقافتين الأمريكية والعربية، وخصوصا فى مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان. والعصا السحرية للوبى الإسرائيلى هى الإشارة دائما إلى أن إسرائيل دولة ديمقراطية بالمفهوم الليبرالى الغربى، وهو ما لا تستطيع دولة عربية واحدة أن تدعيه بمصداقية مقبولة، باستثناء الديمقراطية الطائفية الخطرة فى لبنان. تأكيد روابط التراث السياسى الدينى المشترك، من الدعم اليهودى لحركة الحقوق المدنية الأمريكية فى الستينيات إلى بعث التراث اليهودى المسيحى المشترك، ومحو آثار الاتهامات التاريخية بمسئولية اليهود عن دم المسيح. حدة الخلافات البينية العربية التى انعكست بشدة على تنظيم وتوجهات الجالية العربية بالمقارنة للتنظيم المتقن للوبى الإسرائيلى، رغم الخلافات الداخلية التى تظهر فى صفوف الجالية اليهودية الأمريكية أحيانا بسبب سياسات إسرائيل. محدودية اندماج العرب فى العملية السياسية وأنشطة اللوبى وانكفائهم على المصالح الاقتصادية الضيقة، والخوف من تأثير اللوبى الإسرائيلى على تلك المصالح. وبعد دلك جاءت هجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001 لتزيد الأمور تعقيدا وتدفع بالجاليات العربية والإسلامية إلى قاع المجتمع الأمريكى، حيث لا هم لها الآن إلا الدفاع عن نفسها ضد اتهامات الإرهاب. وأما محاولات اللوبى العربى المتواضعة فقد انحصرت إما فى مكاتب الجامعة العربية التى تحولت إلى مناصب لأصحاب الحظوة الذين يرغبون فى التمتع بالإقامة فى الخارج والتنقل بين حفلات الكوكتيل، أو سفارات الدول العربية التى تستأجر شركات العلاقات العامة للقيام بخدمات موسمية فى مناسبات خاصة لهذه الدولة أو تلك على إنفراد، سواء كان الموضوع صفقة أسلحة أو زيارة أمير أو وزير.. فالعلاقات العربية الأمريكية استقرت على وتيرة واحدة لا تنغصها تجاذبات الحرب الباردة، ولا خلافات على الحرب ضد الإرهاب، خصوصا بعد تحذير الرئيس الأمريكى السابق جورج دبليو بوش «إنكم إما معنا أو ضدنا» فى الحرب العالمية على الإرهاب.. حتى العنتريات الثورية الليبية تحولت إلى معارك لفظية وحركات مسرحية فى قاعات الاجتماعات. الولاياتالمتحدة تعرف ما تريده من الدول العربية فى الشرق الأوسط والخليج، وهو ضمان المصالح الأمريكية وتأمين قواعدها العسكرية، والصبر على طموحات ومغامرات إسرائيل العسكرية، وهى تعلم أنه ليس هناك فى العالم العربى كله من يجرؤ على مواجهة إسرائيل أو إثارة غضبها، وأن لها مطلق الحرية فى تصنيف الإرهاب والرد عليه.. والدول العربية تعرف ما تريده من الولاياتالمتحدة: حماية العروش والنظم، وعدم الخوض فى الموضوعات الحرجة كالديمقراطية وحقوق الإنسان وتداول السلطة.. والبترول يتدفق دون عائق لصالح الطرفين على أية حال. والعلاقات بين مصر والولاياتالمتحدة واضحة بشكل لا يحتاج إلى لوبى. الولاياتالمتحدة تريد من مصر الالتزام بالاعتدال والصبر على جموحات واستفزازات السياسة الإسرائيلية، وترويض المقاومة الفلسطينية، ومقاومة كل ما تصنفه الولاياتالمتحدة وإسرائيل على أنه تطرف، ومساندة إدعاءات الخطر الإيرانى، ومراقبة ما يوصف بالإرهاب.. أما مصر فهى تريد استمرار المعونة الأمريكية والرضا الأمريكى الذى يضمن استقرار النظام أمام كل التحديات، ومساندة التوريث السلمى لنظام الحكم، وتأكيد المصالح المشتركة للطرفين. وهذا يجعل اللوبى الإسرائيلى فى واشنطن المايسترو الذى يقود سياسات المنطقة واتجاهاتها، ويحبط الحقوق الفلسطينية المشروعة، ويلوح بالفزاعة الإيرانية فى وجه العرب الذين يقبلون بهذه المسلمات صاغرين.