منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير الماضي، سعت فيتنام إلى النأي بنفسها عن صراع القوى الكبرى في شرق أوروبا عبر التأكيد على أنها "لا تنحاز إلى جانب" أحد في هذا النزاع. وذكرت مجلة "ذي ديبلومات"، المتخصصة في الشؤون الأسيوية، أن فيتنام، حليف الاتحاد السوفييتي السابق، امتنعت عن التصويت على قرار للأمم المتحدة يدين الحرب الروسية ضد أوكرانيا، ودعت رسميا جميع الأطراف إلى ضبط النفس، وصوتت ضد تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. لكنها بعد ذلك، وتحديدا في شهر مايو المنصرم، قدمت مساعدات إنسانية بقيمة 500 ألف دولار أمريكي إلى "المتضررين من الصراع في أوكرانيا". وبالرغم من أن المساهمة الفيتنامية متواضعة نسبيا، إلا أنها تُظهر تعاطف فيتنام مع الأوكرانيين، علاوة على ذلك، تهدف هذه المساعدات إلى تهدئة مخاوف واشنطن بشأن تراخي موقف "هانوي" إزاء الحرب الأوكرانية. وبينما يتشكك بعض المحللين السياسيين في قدرة فيتنام على الحفاظ على هذا التوازن في علاقاتها مع القوى الكبرى، يتوقع البعض أن ينتهي بها الأمر إلى مواجهة المعضلة الاستراتيجية ذاتها التي تحاول تفاديها منذ البداية، حيث جاءت خطابات كبار الساسة في فيتنام لتكشف النقاب عن الموقف الفيتنامي من الأزمة الأوكرانية وطبيعة العلاقات الفيتنامية مع القوتين العظميين المنخرطتين في الصراع. ففي خطاب ألقاه رئيس الوزراء الفيتنامي، فام مينه تشين، في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن في الحادي عشر من مايو الماضي، أكد أنه "في عالم يعج بالاضطرابات والتنافس الاستراتيجي، والكثير من الخيارات المطروحة، اختارت فيتنام أن تبقى على الحياد؛ فقد آثرت أن تنتصر لقيم العدل والإنصاف والخير، مع الاستناد إلى مبادئ القانون الدولي وميثاق الأممالمتحدة". ووفقا لمجلة "ذي ديبلومات"، فقد أكدت رسالة رئيس الوزراء الفيتنامي التزام بلاده بموقفها المحايد من الأزمة الروسية-الأوكرانية، وذلك رغم علاقتها الوطيدة مع موسكو، والتي يعود تاريخها إلى أواخر ستينيات القرن الماضي حين تلقت فيتنام الشمالية الدعم والمساعدات العسكرية والاقتصادية من جانب الاتحاد السوفيتي السابق. وترى المجلة أنه بتطبيق مبادئ تحليل الخطابات على كلمة رئيس الوزراء الفيتنامي، نجد أن الأخير كرر فيها كلمات مثل، الصراحة والثقة والمسؤولية أكثر من 60 مرة، ومن واقع رده على بعض الأسئلة التي وجهها له بعض الحضور، يتضح أن سياسة فيتنام الخارجية على المستوى النظري والعملي ترمي إلى تعزيز التعاون بدلا من المنافسة، والسلام بدلا من الحرب. فبالنسبة لقادة فيتنام، لا ينبغي على الإطلاق تفسير امتناع فيتنام عن التنديد بالموقف الروسي على أنه بمثابة تأييد للعملية الروسية العسكرية في أوكرانيا. وفي خطاب له أمام مؤتمر العلاقات الدولية الوطني في ديسمبر 2021، لخص أمين عام الحزب الشيوعي الفيتنامي الحاكم، نجوين فو ترونج، الفلسفة التي تستند إليها الدبلوماسية الفيتنامية بأنها تشبه "نبات الخيزران الذي يتسم بقوة جذوره ومتانة جذوعه ومرونة فروعه". كما سلط ترونج الضوء على ملامح السياسة الثاقبة التي اتبعها،هو تشي منه، الرئيس الأول لفيتنام الشمالية ورئيس وزرائها ومؤسس الدولة الفيتنامية الشمالية، وأهمية احترام موقف بلاده الاستراتيجي من دول الجوار ومختلف القوى العظمى فيما يخص الحفاظ على كرامة الشعب الفيتنامي وتبني ما يلزم من التدابير "الصارمة والناعمة" لضمان تحقيق المصالح الوطنية العليا للشعب الفيتنامي. وبحسب "ذي ديبلومات"، فإن الطريقة التي صاغ بها القادة الفيتناميون العلاقات الخارجية لبلادهم تنبئ عن التفسيرات الدقيقة لبيئتها الخارجية. فعلى الرغم من أن فيتنام تراقب عن كثب نقاط التوتر الأمنية، بما في ذلك الموجودة في أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي، إلا أنها سعت إلى تعظيم نفوذها الجيوستراتيجي من خلال العمل بنشاط لتعزيز قدرة مجموعة "آسيان" على الصمود من خلال مبادراتها ومشاركتها الفعالة. كما تبنت فيتنام تعددية الأطراف كشعار لسياستها الخارجية، وأقامت 30 شراكة استراتيجية وشاملة مع دول أجنبية. بالإضافة إلى ذلك، عملت فيتناموالولاياتالمتحدةالأمريكية على تعزيز الثقة والتفاهم المتبادلين، وعززا علاقاتهما في مجالات الدبلوماسية والاقتصاد والدفاع. ومثلت زيارة رئيس وزراء فيتنام، مينه تشين، الأخيرة لواشنطن نجاحا بارزا لهانوي، حيث جرى الإعلان عن العديد من المخططات والفرص التي تعزز العلاقات الوثيقة بين البلدين. ورغم ما سبق، وفي الوقت ذاته، ترتبط فيتنام ب"شراكة استراتيجية شاملة" مع روسيا، العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي. وعلى الرغم من أن الحرب في أوكرانيا مازالت مستمرة، إلا أن روسيا تعد عاملا مهما على الساحة العالمية، فضلا عن كونها شريكا دفاعيا رئيسيا لفيتنام، التي تشتري أكثر من 80 في المائة من معداتها العسكرية من موسكو. ففي ديسمبر الماضي، وقعت فيتناموروسيا اتفاقا عسكريا تقنيا لتوسيع التجارة العسكرية والعلاقات التكنولوجية بينهما بشكل أكبر. كذلك فإن فيتنام، فيما يخص الأمن في بحر الصين الجنوبي، بحاجة أيضا إلى روسيا؛ نظرا للدور الدبلوماسي المحوري الذي تلعبه موسكو في إطار التعاون الثلاثي الذي يجمع بين فيتنام وبين الصينوروسيا في هذه المنطقة. وفيما يتعلق بعزل روسيا اقتصاديا، لا يبدو هذا الأمر، حتى مع الوصول إلى اتفاق بين موسكو والدول الغربية أو مع انسحاب روسيا من أوكرانيا، بالهدف الذي تصبوا إليه الولاياتالمتحدة وحلفاؤها في أوروبا. وبالنسبة لفيتنام، التي حافظت على روابط راسخة مع روسيا وعلاقات استراتيجية مع الولاياتالمتحدة، فإن إدانة روسيا أو الانضمام إلى العقوبات التي تقودها الولاياتالمتحدة ضد موسكو ليس خيارا حكيما. بيد أن عزلة روسيا من قبل الكتلة الغربية واعتماد فيتنام على صناعة الدفاع الروسية يشكلان تحديا لاستراتيجية فيتنام في البقاء على الحياد من الصراع الأوكراني؛ لسببين: أولهما أن فيتنام تحتاج إلى الدعم الدبلوماسي والمساعدات السياسية من روسيا، التي لا يزال مقعدها الدائم وحقها في النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي ضروريين لهانوي. أما السبب الثاني، فعلى الرغم من أن فيتنام سعت إلى تنويع مشترياتها من الأسلحة، إلا أنه من غير المحتمل أن تكون فيتنام على استعداد للتحول إلى شركاء آخرين للحصول على أسلحة هجومية، على المدى القريب، بما في ذلك الولاياتالمتحدة، فقد جعلت الأسعار المناسبة للمعدات العسكرية الروسية وخيارات السداد المريحة من موسكو شريكا مثاليا لمشتريات الأسلحة. لكن فيتنام قد تجد نفسها في موقف هش بسبب مشكلات الصناعات الدفاعية الروسية، خاصة بعد الأداء الصادم والضعيف للأسلحة الروسية في ساحة المعركة الأوكرانية. ومع تنامي التهديد الصيني في منطقة بحر الصين الجنوبي وإمكانية تقليص روسيا من مبيعات السلاح لفيتنام؛ قد تجد الأخيرة نفسها مضطرة للجوء إلى الولاياتالمتحدة، خاصة وأن واشنطن يمكنها أن تستخدم ما يُعرَّف ب"قانون مواجهة خصوم الولاياتالمتحدة من خلال العقوبات" (CAATSA)، لإقناع فيتنام بتقليل اعتمادها على السلاح الروسي، والاستعانة بها كبديل لموسكو. وإذا حدث ذلك؛ فمن المحتمل أن تضعف علاقات هانوي مع موسكو وتجد فيتنام نفسها في موقف إشكالي في علاقاتها مع الصين، أو على الأقل أن يشكل ذلك ضغطا على هدف فيتنام المتمثل في الحفاظ على التوازن الاستراتيجي في العلاقات بين القوى الكبرى. واختتمت "ذي ديبلومات"، بأنه من المرجح أن تستمر فيتنام في السير، لسنوات قادمة، على حافة الهاوية بين النفوذ الروسي والأمريكي مع السعي للحفاظ على تحقيق توازن متعدد الأقطاب في علاقاتها الخارجية. ويبدو أنه من غير المحتمل حدوث تحول جذري في علاقات فيتناموروسيا، في ظل اتباع فيتنام للتحلي التقليدي بالحكمة إزاء القضايا الخلافية أو صراعات القوى الكبرى. ومع ذلك، وفي لحظات الاضطرابات، سيظل موقف فيتنام من التزام الحيادية بين موسكووواشنطن محل اختبار، وستكشف الأيام المقبلة عن مدى نجاح استراتيجية فيتنام في الحفاظ على علاقات متوازنة مع الولاياتالمتحدةالأمريكيةوروسيا.