وافق 18 أبريل يوم التراث العالمى واختير موضوع «التراث والمناخ» كتيمة أساسية لاحتفالية 2022. ولأهمية موضوع التغير المناخى، وخاصة أن مصر ستستضيف فى 718 نوفمبر القادم المؤتمر العالمى UN Climate Change Conference 2022 لتغيير المناخ (UNFCCC COP 27) يجب علينا أن نأخذ فى الاعتبار الدروس المستفادة للبشرية جمعاء من تأثير التغيير المناخى على الحضارة المصرية، والاهتمام بشواهد تأثير التغير المناخى كمزارات تثقيفية وتعليمية (خاصة خلال المؤتمر)، واحتمالات تأثير التغيير المناخى على عناصر التراث وعلى السياحة التراثية، خاصة كمساهمة من مصر فى هذا المؤتمر العالمى المهم كنموذج لباقى الدول بخصوص استثمار التراث كمنصة لتعميق الوعى بالتغير المناخى وتأثيره على البشر فى الأزمنة السالفة من خلال عروض متحفية وزيارات إلى مواقع مختارة تبين العلاقة بين تغير المناخ وسيرورة الحضارات. وفى هذا الصدد نشير إلى أن مصر بطبيعة موقعها الجغرافى على حافة حزام الأمطار الموسمية ITCZ التى تتحرك من المنطقة الاستوائية جنوبا فى الأزمان الباردة لتحيل مصر إلى صحراء أو شمالا فى فترات الاحترار لتصبح مصر أشبه بشمال السودان حاليا. وهو ما حدث بعد نهاية العصر الجليدى الأخير عندما اخضوضرت الصحراء وانتشرت فيها البحيرات ومصادر المياه كما يدل على ذلك رواسب البحيرات وانتشار مواقع آثار ما قبل التاريخ حتى واحة سيوة شمالا وتواجد تصاوير الفيلة والزراف على صخور المناطق الجبلية. وتدل الشواهد على أن انحسار الأمطار أدى إلى اختفاء البحيرات منذ نحو 7 آلاف عام وغلبة التصحر وتراكم الكثبان الرملية واعتماد من تبقوا على المياه الجوفية فى منخفضات الواحات. وواكب التصحر نزوح سكان الصحارى إلى مصر وظهور أول مستوطنات زراعية على حواف الدلتا والفيوم كبداية للتحول من الصيد وجمع النباتات إلى الزراعة التى تعتمد على الرى من مياه النيل. وبذلك ارتبط مصير المصريين بحجم الفيضانات التى تعتمد بدورها على موقع حزام الأمطار الموسمية بالنسبة لمصادر النيل فى إثيوبيا والهضبة الاستوائية، والذى يخضع لتغيير حرارة الأرض. ولذلك كان الاهتمام الفائق بحجم الفيضانات لما كان لها من تأثير قوى على الاقتصاد كما يدل على ذلك أقدم سجل تاريخى على حجر باليرمو وتوجد منه 4 قطع بالمتحف المصرى. كما يدل على ذلك أيضا مقاييس النيل بالمعابد المصرية. وتدل الشواهد على ظهور دولة مصرية موحدة بعد نحو 2000 عام من ظهور المجتمعات الزراعية، والمرجح أن ذلك تم من خلال تنسيق التعاون بين المجتمعات المتجاورة على طول نهر النيل لاستفادة الجميع من مياه الفيضان ومن تقديم المعونة عند الحاجة للجماعات المتضررة لمواجهة شح الفيضانات أو زيادتها المفرطة نتيجة للتقلبات المناخية أو حركة مجرى النهر عبر السهل الفيضانى. نجحت الدولة القديمة المعروفة بأهراماتها خلال مئات السنين فى ضمان ازدهار البلاد حتى وقع ما لم يكن فى الحسبان نتيجة لجفاف عالمى فجائى منذ 4200 عام مما أدى إلى انهيار الدولة ونحو 200 عام من التفكك والفوضى والصراعات. انتهت هذه الفترة العصيبة بظهور الدولة الوسطى التى اعادت لمصر وحدتها من خلال مشروعات مائية قومية، واعادة تنظيم الجهاز الإدارى للدولة، وإرساء أسس منظومة اخلاقية تقوم على أن الحاكم مبعوث إلهى ليضمن حياة كريمة للجميع بمن فيهم الفلاحون، ورعاية اليتامى والأرامل والمعوزين، ورفع الظلم عن المستضعفين التى أصبحت أساس نصوص كتب الحكمة وكما فى قصة «الفلاح الفصيح». ومن الآثار الباقية من إنجازات ملوك الدولة الوسطى السد الذى شيدوه فى الفيوم للتحكم فى مياه الفيضانات عبر بحر يوسف التى كانت فيما سبق تملأ منخفض الفيوم بارتفاع يزيد على 6070 متر فوق مستوى بحيرة قارون الحالى. وكان شح الفيضانات قد أد إلى جفاف البحيرة. وكانت مهمة السد أن يسمح للمياه بالمرور لرى الأراضى ثم إغلاق فتحات السد لتكوين بحيرة تغذى قناة لرى الأراضى على حافة السهل الفيضانى من الفيوم إلى الجيزة. يمكن زيارة ما تبقى من هذا السد وهو أول مشروع قومى مائى فى العالم وما صاحبه من أهرامات ومدن فى اللاهون وهوارة. كما يمكن أيضا زيارة اقدم سدود العالم من عصر الأهرامات فى وادى جراوى بمنطقة حلوان الذى صمم لحصد امطار الوادى ومنع أخطار السيول. وقد أثبتت دراسات وجود رواسب من قاع بركة قارون على فترة الجفاف التى ساهمت فى انهيار الدولة القديمة. ولا نغفل من الناحية التاريخية الشدة المستنصرية فى العصر الفاطمى نتيجة شح الفيضانات فى فترة جفاف عالمى اخرى يمكن التعرف عليها من الوثائق التاريخية وسجلات مقياس النيل بالروضة وهو من أهم مصادر التعرف على تغيير المناخ منذ القرن السابع ميلادى. ومن منطلق التراث الطبيعى، يقدم متحف محمية وادى الحيتان تأثير تغيير المناخ منذ 60 مليون عام على جغرافية مصر وتطور الكائنات بها، وهو من أول المتاحف المعنية بالمناخ فى العالم. بالإضافة إلى ما تقدمه الآثار من معلومات مفيدة عن تغير المناخ وتأثيره على المجتمعات البشرية والحضارات، علينا أن ان ننتبه للآثار المعرضة لارتفاع سطح البحر وللسيول فى مخرات الوديان، وهناك ادلة لذلك فى مقابر وادى الملوك بالأقصر. كما أن لتغيير المناخ بالتأكيد تأثير على السياحة بصورة مباشرة من خلال تأثير الطقس على مقاصد زيارات السائحين مما يستدعى دراسة علمية مفصلة عن تأثير التغييرات المناخية المحتملة على السياحة فى مصر، والتى تشمل أيضا التأثير غير المباشر للتغيرات المناخية على وسائل النقل ومصادر الطاقة والمياه والانبعاثات الحرارية المحيط بالمواقع التراثية. وفى هذا الاطار قامت بعض الدول بدراسات مهمة فى مجال «السياحة المستدامة» وما يتطلبه من إعادة النظر فى سياسات ونظم السياحة لدعم التكيف مع تغيير المناخ ومنها تعزيز مشاركة الأهالى فى كل مراحل السياحة والمحافظة على البيئة وتأهيل البنية التحتية. د. فكرى حسن عالم الآثار واستشارى برنامج المياه العالمى