حنا مينه شيخ الكتاب السوريين المعاصريين، بلغ السادسة والثمانين من عمره، ومازال خياله المبدع نشطا، وطاقته الخلاقة متوهجة، وقدرته الإنتاجية عالية، إذ تضافرت لديه خبرة نادرة بالحياة، وشهوة عارمة لاقتناص لذائذها، ووعى شقى بخلل أبنيتها الاجتماعية، ومحنة الطبقات المعدمة فيها، فأصبح منذ منتصف القرن الماضى من رواد الواقعية الاشتراكية فى الرواية العربية، ثم لم تلبث أن خفت حدة هذه النبرة منذ عقدين من الزمان، بأفول عصر الإيديولوجيات الطاغية من ناحية، وبعد عهده بسنوات البؤس، وتقلبه فى نعمة السلطة البعثية التى احتضنته من ناحية ثانية، لكنه كان قد دمغ مأساة صباه فى أقوى وأفضح سيرة ذاتية فى الأدب العربى، فى ثلاثيته الكبرى «بقايا صور» و«المستنقع» و«القطاف». وقد حافظ على إيقاع إنتاجه فى هذه السنوات حتى بلغ قرابة أربعين رواية، لا تخلو واحدة منها من ملمح بارز لعوالمه المفضلة ورؤيته المتبلورة لشجون الحياة والفن، إذ يختار أصواتا قريبة من قلبه وعمره، لكنه فى روايته الجديدة «امرأة تجهل أنها امرأة» يعود ليفضح شيخوخته، ويكشف عن أسرارها، بالجسارة ذاتها التى وظفها فى سيرته، فالراوى فى هذا العمل الأخير يكاد يتماهى معه، فهو قد عرف الدنيا فى جهاتها الأربع كان يقول عن نفسه «أنا مسافر بلا حقيبة». والسفر بلا حقيبة له مفهوم خاص عند المناضلين والسياسيين، وكان هو من هؤلاء المناضلين القدامى، وشهرته فى هذين المجالين هى التى صنعت مجده، إضافة إلى الكتابة التى أغنت هذه الشهرة، سواء فى اللاذقية، حيث النضال ضد المستعمرين الفرنسيين، وضد الإقطاع، وفى سبيل نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين فى الأرض، أو فى دمشق ضد كل صنوف القمع أو حطم الأقلام، ومحاولات استزلام المثقفين، إيمانا منه أن الكتابة فى تعارض مع السلطة، هذا التعارض قائم فى كل الأنظمة هذا موجز عقيدة «نمر صاحب» الذى يمثل الكاتب ويعبر عن منظوره فى هذه الرواية. وهو حريص على تعريف القارئ به منذ الصفحات الأولى قبل أن يصحبه فى رحلته إلى «أنطاكيا» بلواء الإسكندرونة فى تركيا، ولا نستطيع أن ننسى أنها مسقط رأس حنا مينه ذاته قبل أن تنفصل عن سوريا خلال الحرب العالمية الثانية، وهو يصف صوته الروائى بالفضول الذى لا يعد من قبيل عته الشيوخ، ولكنه من خصائص الكاتب «الذى يريد أن يعرف، أو يطلع من الخارجين من بيئته المحلية على تشكلات وتحولات هذه البيئة، يقينا منه أن طريق العالمية يبدأ بالمحلية، وإلا كان الطموح إلى الخروج من ربقتها باطلا، وظل السعى إلى المعرفة شكليا، مادامت المعرفة فى العمق لها مصدران: الكتب أولا والناس ثانيا. والتعلم من الناس دون الاختلاط بهم صعب المنال» هذه الشواغل الأدبية بالعالمية والمحلية، والاهتمامات المعرفية بمصادر الخبرة والتجربة بين الكتب والناس هى الملائمة لكاتب فى غسق حياته، وهى التى يعاقرها كاتبنا بصدق دون تكلف أو ادعاء، وإن كانت تسهل له رسم معالم شخوصه، وتوصيف تفاصيل حياتهم، ويكفى للتدليل على هذا النهج فى اختيار أبطاله أن بطل هذه الرواية كان فى حاجة عندما حط رحاله فى أحد الفنادق إلى من يعينه على فتح حقيبته وترتيب ملابسه فى صوانها بما لا يحدث عادة للأشخاص إلا بعد أن يتجاوزوا العقد الثامن من أعمارهم، وكأن كاتبنا لا يريد لقارئه أن يشك فى هذه الصلة الوثيقة، فيجعل بطله يجيب صاحبته التى تسأله عمن يكون بعد أن شهدت مظاهر حفاوة الناس به قائلا: أنا نمر صاحب، صحفى سورى أسكن دمشق العاصمة، لكنى من اللاذقية، هاجرت مع عائلتى من إسكندرونة عام 1939، وعملت أجيرا فى مهن مختلفة منها حلاق ونجار وبحار وحمال». وظيفة التماهى قد يكون هذا التماهى المتوحد بين البطل والمؤلف نتيجة لنوع من كسل التخيل، لكنه ضمان لصدق التمثيل للأحوال النفسية والجسدية للراوى، خاصة عندما تضيق عنده آفاق التجربة الحيوية، وتكاد تنحصر فى هذا الصراع الموجع بين القدرة والإرادة، بين الجسد والقلب، من خلال علاقة مركبة مع امرأة متوثبة، طافحة بالأنوثة والشهوة، لقيها على الحدود بين سوريا وتركيا، وهى تتحمل سوء معاملة رجال الجمارك نظرا لأنها تعمل فى تهريب البضائع، فساعدها ومنحها هدية سخية قربتها منه، فصحبها وقدمها لمدير فندقه على أنها مديرة أعماله، وتحت ستار شيخوخته البادية تغاضى الموظفون عن سكانها معه. وهنا تبدأ اللعبة الحرجة، وكما يقول الراوى: «كل لعبة تنطوى على مغامرة، وهو يدعى أنه مع المغامرة على موعد دائما، إلا أنه الآن فى أرذل العمر، والمغامرة فى مثل هذا العمر مؤداها إلى التهلكة، حتى لو كانت حساباته دقيقة، وكانت «رئيفة» صاحبته على مقاس هذه الحسابات، يضاف إلى ذلك أنه من القائلين بشباب الروح وشيخوخة الجسد، وقد شاخ جسده وظلت روحه شابة، وظل قلبه يهفو إلى ملاحة الوجه ووسامة الساعد عند المرأة، فكيف الحال إذا كان الصدر جميلا والنهدان كاعبان، وكيف يفعل ورئيفة بكل جمال جسدها، واتساق تكويناته تكشف له عن مفاتنها وتدعوه بعد أن تتمدد عارية أمامه أن يلمس الحرارة الجهنمية التى تتقد بداخلها» ولأن الشيخ لابد أن يخجل من عجزه يكون له أن يعوضه بادعاء الحكمة وإدانة من أطاعته بحكم أخلاقى يتهمها فى سره بالدعارة وإدمان الممارسة، وتعتاده حينئذ محفوظاته الأدبية ومعلوماتة الثقافية التى لم تغن عنه شيئا فى حومة التجربة التى فضحته، يتذكر ما حفظه عن المعرى وما كان يقوله له بدوى الجبل: «يا ناكر التفاح فى وجناتها لو ذقت بعض شمائل التفاح» وقد ذاق شمائل التفاح فى كل أطيافه، وأعطى صوابع يده اليمنى للنار غير المقدسة، وعندما قالت له فى الصباح «أنت حبيبى» قال فى نفسه: «أنت كاذبة يا فاسقة» يتذكر بطرس وصياح الديك وتوما الشكاك، وفلسفة الشك عند ديكارت التى أخذ نطفتها الأولى من «التلميذ الصالح»، وتقوم هذه التداعيات بدورها فى استعادته لشىء من الثقه بالذات، والتصالح مع الجسد، ومكاشفة الروح ومع قسوته فى الحكم على المرأة التى حاولت إمتاعه قدر استطاعتها، فإنه يعطيها الفرصة فى حواراته معها، وإشاراتها إلى سلوكه مع أقربائها كى تبرر سعادتها به: «فى الليلة الأولى كنت بالنسبة لى رجلا كسائر الرجال، بل أقل من الرجال الشباب، لكنك بعد ذلك تمايزت عنهم جميعا بالكرم، بالمعرفة، بالنباهة، بالهدوء، برفض العتب والعقاب، والأهم أنك لا تحكم على المرأة بماضيها، تحب عائلتها كما تحبها، تعطيها الحق فى أن تتصرف تلقائيا كأنها زوجتك أو مديرة أعمالك فى نظر الآخرين» كثيرة هى التفاصيل التى تتضمنها الرواية، لكن أصرح وأفدح ما فيها هو التصوير المجسم لعبث شيخ عاجز بجسد حسناء فاتنة وحيلها التى لا تنفد لإشباعه وإقناعه ورضاه، وإذا كنا لا نتوقع من الكاتب سوى رواية جيدة الصنع، محكمة السرد، شيقة الحوار، فإن بعض الخلل يعتورها فى التسلسل الزمنى لترتيب الفصل الحادى عشر، ولا أظنه يعود إلى محاولة للتجريب الحداثى، فحنا مينه برىء من ذلك، ولا يرتكب مغامرات فنية مثلما يرتكب أبطاله مغامراتهم العاطفية والغرامية، بل يستأنف سرده بعدها بالنسق المعتاد بإكمال ما بعد رحلته وعودته، وما بعد المكاشفة وتفاقماتها، منتهيا إلى تبرير كل شىء وإضفاء صبغة تأملية على المواقف لا ترفعها إلى درجة التفلسف، وتنحدر بها إلى مستوى الأداء الغريزى المحض، بل تظل فى تلك الغائمة من البوح الذى يلتزم بالصدق مع الشرط الإنسانى والتعبير عنه بحرفية وإمتاع.