كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا وما قبلها من أزمة «كوفيد 19» عن تداعيات سلبية على وضعية الزراعة وإنتاج الغذاء فى المنطقة العربية، حيث زادت الفجوة الغذائية وبخاصة فى المحاصيل الاستراتيجية من الحبوب قمح، ذرة، شعير إلى 60%، والحبوب الزيتية إلى 65% والسكر إلى 45% واللحوم بنسبة 35%، وانخفضت نسبة الاكتفاء الذاتى من السلع الغذائية فى المنطقة العربية من 74% عن الفترة 96/98 إلى 68% كمتوسط لعامى 2018/2019 (المنظمة العربية للتنمية الزراعية، 2019). مع اقتراب موعد مؤتمر المناخ 27 الذى سيعقد فى شرم الشيخ فى نوفمبر 2022 لابد من تناول الموضوع من مدخل يربط العدالة البيئية بالعدالة الاجتماعية، حيث يشير إلى انكشاف الإنتاج الزراعى فى المنطقة العربية فى علاقته بالأسواق التبادلية الخارجية، ومن ثم تعميق أزمة إنتاج الغذاء وانعكاس ذلك على انتشار نسب الجوع ونقص التغذية والتى وصلت فى مصر إلى 4.5 مليون نسمة، وفى المغرب 3.4 مليون نسمة، وفى اليمن إلى ما يقارب 13.2 مليون، وفى تونس نصف مليون نسمة (الفاو، 2021). • • • يعود السبب فى تفاقم المشكلة الزراعية وإنتاج الغذاء فى المنطقة العربية إلى استمرار نمط الإنتاج الذى يعتمد على تركيز الملكية الزراعية وتحرير أسواق المدخلات الزراعية باعتباره المدخل الوحيد لحل المسألة الزراعية والفلاحية أو ما يطلق عليه النمط النيوليبرالى. فنجد أن هناك تركيزا للحيازات الكبيرة كسمة مميزة لإدارة الأراضى الزراعية فى المنطقة العربية، على سبيل المثال بلد مثل تونس والتى يقطنها 11.6 مليون نسمة، 1% فقط من كبار المزارعين يملكون 22% من جملة الأراضى، نفس الحال فى المملكة المغربية حيث أقل من واحد بالمائة وبالتحديد 0.7% يحوزون 15.4% من جملة الأرض الزراعية، وفى لبنان 2% فقط من كبار الحائزين يمتلكون 33 % من إجمالى المساحة المنزرعة. وفى مصر نجد أن أقل من 3% من كبار الملاك يحوزون فيه على 37% من جملة المساحة الزراعية فى مصر. فى المقابل نجد أن 95% من جملة المنتجين الرئيسيين للغذاء فى المنطقة العربية هم من فقراء وصغار الفلاحين وأن نسبة ما يحوزونه من أراضٍ زراعية كمتوسط لا يتجاوز 40% من جملة المساحة الزراعية، فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن فقراء وصغار المزارعين فى تونس والذين تبلغ نسبتهم 54% لا يحوزون سوى على 11% فقط من جملة الأراضى الزراعية وفقا لآخر تعداد زراعى فى تونس. وفى المملكة المغربية نجد 53% من جملة المزارعين لا يحوزون سوى 12.4% من جملة الأراضى الزراعية. وفى لبنان نجد أنه وفقا لآخر تعداد زراعى أن 68% من الحائزين الذين تقل مساحات الحيازات الخاصة بهم عن 10 دونمات يستغلون 18% فقط من إجمالى المساحة المنزرعة. على الرغم من التفاوت فى الوصول للأرض الزراعية بين كبار ملاك الأراضى وفقراء وصغار الفلاحين تشير منظمة الإسكوا أن صغار المزارعين فى المنطقة يسهمون أكثر من كبار المزارعين فى الأمن الغذائى لاسيما فى المناطق الهامشية والمجتمعات الفقيرة، حيث نجد على سبيل المثال لا الحصر أن أصحاب الزراعات الصغيرة يساهمون بدرجة هامة فى المنتجات الغذائية، ففى تونس يساهمون ب33 % من إنتاج الحبوب، و28% لأنظمة الرعى، كما أن 59% من الأراضى الصالحة للزراعة يخصصونها لزراعة الأشجار، كما تساهم الزراعات الأسرية الصغيرة ب83.5% من مجموع الثروة الحيوانية، منها 67% من الماشية، و52% من الغنم، و59% من الماعز. على الرغم من الصعوبات المالية والهيكلية التى تعانيها التعاونيات (الشركات التعاونية) فى تونس إلا أنها تساهم ب50 بالمائة من إنتاج الحليب على المستوى الوطنى، وفى تجميع وتخزين 45 بالمائة من المنتج الوطنى للقمح، وتسويق أكثر من 80 بالمائة من الإنتاج الوطنى للكروم كما تساهم الزراعات الصغيرة فى تونس بنسبة 75% من إنتاج التمور، ونفس الحال بالنسبة لزيت الزيتون (مجموعة العمل من أجل السيادة الغذائية، 2019). وفى المغرب فإن 75% من المحاصيل الرئيسية من الحبوب (القمح الصلب واللين والشعير والبقوليات والعدس والحمص والفول)، هى بالأساس من المزارع الأسرية الصغيرة، ويأتى ما يقرب من 90% من الإنتاج الحيوانى يأتى من الزراعات الأسرية الصغيرة. فى مصر نجد زيادة مساهمة الزراعات الصغرى فى الحبوب والبقوليات والبذور الزيتية والألياف من 34.2% عام 1990 إلى 47.2% عام 2010 إلى 58% فى 2020. • • • فى اعتقادنا أن الخروج من نفق تلك الأزمة يتمثل فى اعتماد رؤية مغايرة فى السياسة الزراعية تقوم على نمط آخر يعتمد على الزراعة المستدامة وعدد من الركائز الأساسية التى تم طرحها خلال الندوة التى عقدتها منظمة غرين بيس ومنتدى البدائل العربى بلبنان، والتى كُتب هذا المقال فى إطارها، من بينها: • إدماج البعد الاجتماعى والبيئى فى المسألة الزراعية والفلاحية فى المنطقة العربية والذى يقوم على حق صغار المزارعين من الوصول للأرض الزراعية والقضاء على التفاوت بين المزارعين فى الوصول للأرض الزراعية. • الوصول لأسواق المدخلات الزراعية وبخاصة بذور الحاصلات الزراعية، حيث تتسم سوق بذور وتقاوى الحاصلات الزراعية باحتكار الشركات العالمية الكبرى لما تزيد على 70% من سوق بذور الحاصلات الزراعية مثال شركة مونسانتو، سينجنتا، سيمنس... إلخ. • ضرورة إنفاذ بروتوكول قرطاجنة للسلامة الإحيائية والذى جاء لحماية البلدان النامية خاصة من مخاطر التكنولوجيا الحيوية لما قد ينطوى عليها من تهديد للسلامة الصحية والإحيائية، ولكن حتى الآن لم يصدر عن الدول العربية مجتمعة تشريع للأمان الحيوى والذى نصت عليه المادة الثالثة من بروتوكول قرطاجنة، الأمر الذى أدى إلى مشكلات بيئية وزراعية كبيرة بالنسبة للعديد من المحاصيل الزراعية وبيئة الأرض الزراعية مثل التدمير الذى أصاب محصول الصبار فى المملكة المغربية، وكذلك ما تعرض له النخيل فى العديد من البلدان العربية من جراء سوسة النخيل الحمراء وبخاصة المغرب ومصر. • إعادة النظر فى الاتفاقية الدولية لحماية الأصناف النباتية الجديدة UPOV التى تفرض الملكية الفكرية على الأصناف النباتية، حيث تشترط اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبى ضرورة الانضمام لتلك الاتفاقية، وهى بمثابة التفاف على الاتفاقية الدولية الإطارية ضمن منظمة التجارة الدولية التريبس (TRIPS) والتى تم الاتفاق خلالها على عدم الأخذ بنظام براءة الاختراع فى حماية الأصناف النباتية الجديدة فى حالة عدم الاعتراف بحقوق المزارعين، كذلك تعمق من احتكارات أصحاب البراءات على الأصول الوراثية النباتية والتى تصل مدة حماية الصنف النباتى إلى 25 عاما، بالتالى من الأفضل والضرورى البحث عن نظم بديلة عنUPOV كما فعلت الهند على سبيل المثال. • الأخذ بالدورات البيئية الزراعية كمدخل للتنوع المحصولى واستدامة الأرض الزراعية، والتى تقوم على تناوب أكثر من محصول على بقعة الأرض الزراعية الواحدة بدلا من سياسة المحصول الواحد، ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يمتد إلى التخفيف من الجفاف والتصحر والتغلب على التفتيت الحيازى للأرض من خلال استخدام الدورة الزراعية فى التجميع المحصولى ومن ثم إمكانية استخدام تكنولوجيا الإنتاج الكبير.