تعد مقالة «تونى يودت» التى طالب فيها «بإنهاء إسرائيل لأسطورتها العرقية» «الشروق 12/12/2009»، تعبيرا عن رفض مجموعات كبيرة من يهود العالم للمفاهيم الصهيونية. وفى الواقع فإن من بين المشكلات المعقدة التى أثارها تأسيس دولة إسرائيل هى مشكلة العلاقة بينها وبين يهود العالم والمفاهيم التى تعمل على فرضها عليهم. إضافة لسعى إسرائيل المتواصل لتوظيف وضع الأقليات اليهودية المقيمة فى دول آخرى للتأثير على مواقف هذه الدول، وسياساتها تجاه النزاع العربى الإسرائيلى. فقبل إنشاء إسرائيل بخمس سنوات وقف بن جوريون أمام حشد يهودى بفلسطين ليعلن أن «يهود العالم يكونون شعبا واحدا فى العالم، شعبا لا وطن له إلا بالعودة إلى أرض الميعاد» (أى فلسطين)، وبعد أن تم إنشاء إسرائيل عام 1948 اعتقد الكثيرون أن العمل السياسى للحركة الصهيونية قد انتهى بإعلان قيام الدولة وتوقعوا أن تتوقف هذه الدولة بمجرد أن أصبحت كيانا قانونيا دوليا، عن الادعاء بوجود أى علاقة سياسية أو قانونية بينها وبين يهود العالم، إذ إن هؤلاء اليهود يعتبرون فى نظر القانون الدولى رعايا ومواطنين فى دول أخرى ويحملون جنسياتها. إلا أنه منذ اللحظة الأولى التى تلت إقامة إسرائيل جاء إعلان قيامها صدمة للكثيرين، فقد تضمن هذا الإعلان العديد من الإشارات، التى تعنى أن يهود العالم يشكلون شعبا متميزا له قوميته الخاصة به، وأن رسالتها الأولى تنحصر فى العمل على ضم جميع أبناء هذه القومية. كما نسب هذا الإعلان فى فقرته الثانية لوعد بلفور الصادر فى 2/11/1917 تأكيده على وجود «الشعب اليهودى» وحقه فى إقامة دولته. فالتفسير الصهيونى الإسرائيلى لعبارة «الشعب اليهودى» الواردة فى وعد بلفور على أنها تعنى كيانا سياسيا وقانونيا يشمل جميع يهود العالم، فيه الكثير من المغالطات، ويتعارض مع التحفظين الصريحين الواردين بهذا الوعد اللذين ينصان صراحة على أنه «لن يؤدى إلى ما من شأنه أن يضير بالحقوق المدنية والدينية التى تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن فى فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسى الذى يتمتع به اليهود فى البلدان الأخرى». ورغم ذلك توالى استخدام إسرائيل لاصطلاح «الشعب اليهودى» فى تشريعاتها وقوانينها ووثائقها الرسمية، فعلى سبيل المثال تضمن أول قانون أصدرته إسرائيل عام 1950 وهو «قانون العودة» أن دولة إسرائيل تعتبر نفسها من خلق وإبداع «الشعب اليهودى»، ووفقا لهذه النظرة فإن إسرائيل كما عبر بن جوريون لا تعتبر نفسها دولة لمواطنيها فقط، بل هى دولة لكل اليهود فى جميع أنحاء العالم، وبوسعهم جميعا أن يصبحوا مواطنين فيها طبقا لقانون العودة. وعندما تردد الصهيونية وإسرائيل أن اليهود فى العالم، رغم تعدد أعراقهم، يشكلون كيانا متميزا وشعبا منفصلا له خصائصه، إنما تجعل من نظرية الجنس أو العرق أساسا جوهريا لها، والنظرية العنصرية ليست غريبة على الحركة الصهيونية بل هى متأصلة فيها منذ قيامها. وقد وجد يهود العالم أنفسهم على هذا النحو منتمين بلا إرادة منهم إلى دولة أجنبية (إسرائيل) تنازعهم الولاء لأوطانهم، على أساس «العقيدة الدينية»، وحدث خلط متعمد بين اليهودية «كديانة سماوية» لها تعاليمها الجامعة وقيمها الإنسانية، وبين المفهوم الصهيونى المصطنع «للشعب اليهودى» ككيان سياسى وقومى واحد، وهو ما يثير مسألة «الولاء المزدوج» التى تعتبر بالنسبة لكثير من يهود العالم مشكلة بالغة الحساسية، ودفعت العديد منهم لرفض هذا المفهوم ومعارضته. وإسرائيل تضم حاليا 5.6 مليون يهودى أو ما يشكل قرابة ثلث إجمالى عدد يهود العالم، وينتشر باقى اتباع الديانة اليهودية فى مختلف دول العالم، ويتمتعون بوضع اجتماعى متقدم ويمارسون حقوقهم وواجباتهم الوطنية على قدم المساواة مع باقى مواطنى هذه الدول. كما أدى انحسار موجة العداء للسامية فى العالم إلى أن هذه الظاهرة لم تعد تكفى لدفع باقى اليهود للهجرة لإسرائيل، كما أن «الدياسبورا»، التى ما زالت تضم ثلثى إجمالى اليهود فى العالم، ليست على ما يبدو محكومة بالزوال، بل على العكس تماما من ذلك، وهو أمر تنظر إليه إسرائيل والمنظمات الصهيونية بقلق بالغ. ولذا وضعت إسرائيل فى طليعة أهدافها القيام بعملية جمع اليهود المنتشرين فى العالم، التى تعتبرهم يعيشون فى المنفى، بل تدعى إسرائيل حق تمثيل يهود العالم قاطبة والتحدث باسمهم فى المنظمات والمحافل الدولية، كما حصلت على أموال من لا وارث لهم من اليهود فى بنوك سويسرا وغيرها، واختطفت إيخمان وحاكمته باسم يهود العالم، رغم أن الجرائم المنسوبة إليه تمت قبل إنشاء دولة إسرائيل. ولعلنا نتذكر دعوة شارون لهجرة الفرنسيين اليهود إلى إسرائيل (يوليو 2004) وتضمنت قوله: «أن اللاسامية تنفلت فى فرنسا، وليس لدى ما أقوله لأشقائنا يهود فرنسا، إلا أن أدعوهم جميعا...تعالوا لإسرائيل فى أسرع وقت ممكن». وقد أثار ذلك ردود فعل حادة بين مختلف الأوساط الحكومية والإعلامية والشعبية بمن فى ذلك قادة الطائفة اليهودية الفرنسية. وقد سبق هذه الدعوة حادث اعتداء قيل إنه وقع على فتاة يهودية داخل قطار ورسم على بطنها شارة الصليب المعقوف، وتبين أنه حادثة مختلقة. ومن ناحية آخرى تعددت الدراسات التى تتناول كيفية توظيف إسرائيل للجماعات اليهودية لتحقيق أهدفها، من بينها الدراسة التى تكشف عن دور جماعات الضغط الموالية لإسرائيل فى الولاياتالمتحدة، والتى أعدها «جون ميرشايمر» و«ستيفن وولت» الأستاذان الجامعيان، بعنوان «اللوبى الإسرائيلى» ومن بين ما تضمنته أن تأثير اللوبى الإسرائيلى ونفوذه داخل الكونجرس، جعل إسرائيل محصنة بالفعل ضد توجيه النقد لها. كما أن نفوذ اللوبى «استطاع إقناع واشنطن بتأييد أجندة توسعية لم تشجع إسرائيل على انتهاز الفرص لتغيير سياستها. ولعلنا نتذكر حرب بوش الابن على العراق، وما أحدثته من دمار شامل ومآسى لشعب العراق. وتشير هذه الدراسة إلى أن اللوبى الإسرائيلى كان أحد العناصر الضاغطة لشن هذه الحرب لجعل إسرائيل أكثر أمنا. ثم تصل هذه الدراسة إلى نفس النتيجة التى اختتم بها «تونى يودت» مقاله، بقولها: «إن النقاش المفتوح سيكشف حدود القضية الاستراتيجية والأخلاقية للتأييد الأمريكى أحادى الجانب لإسرائيل، ويمكن أن يحرك الولاياتالمتحدة إلى موقف أكثر تمشيا مع مصلحتها القومية». إن تحدى إسرائيل لكل قرارات الشرعية الدولية، وعرقلتها لكل جهود السلام، سيتواصل طالما بقى التأييد الأمريكى الأعمى والمنحاز لإسرائيل، وبقيت الخزانة والترسانة الأمريكيتان مفتوحتين على مصراعيهما لإسرائيل، وظلت المصالح الأمريكية الحيوية فى منطقتنا مؤمَّنة، وأحجمت أنظمتنا عن استخدامها كوسيلة ضغط لإعادة السياسة الأمريكية لرشدها.