لعقود من الزمان، ظلت مكتبة "سمير منصور" الفلسطينية، والتي تعد واحدة من أكبر المكتبات ودور النشر في مدينة غزة، المتنفس العلمي والأكاديمي والثقافي لأبناء القطاع المحاصر، والمكان المناسب لشراء الكتب بدءا من الكتيبات المدرسية والنصوص القرآنية إلى الترجمات العربية للكلاسيكيات الأوروبية. ولكن، في 18 مايو الجاري، وإبان الحرب على غزة وقصفها، أحالت غارة إسرائيلية مكتبة "سمير منصور" إلى ركام، بعدما كانت متنفسا لكثيرين من سكان القطاع، الذين كانوا يقصدونها بحثا عن كتب متنوعة، سواء مدرسية أو دينية أو روايات عالمية مترجمة إلى العربية. حالة الحزن والغضب التي سيطرت على الوسط الثقافي والشعبي في غزة، بعد قصف طائرات الاحتلال الإسرائيلي لدار النشر الأكبر، أثارت استهجان العالم أيضا، فتناقلت الصحف الغربية قصة تدمير المكتبة ودار النشر ونقلت مشاعر الفلسطينيين إزاء تدمير منبع ثقافتهم. واستمرت الاشتباكات الدامية الأخيرة على قطاع غزة 11 يوما، شنت خلالها إسرائيل ضربات جوية ردا على وابل صاروخي من المقاومة الفلسطينية، راح ضحيتها المئات من أهالي غزة، وأصيب ما يقارب ال2000، ودمرت آلاف المنازل وشرد عشرات الآلاف، وكانت من ضمن تلك الخسائر الجمة، دار القطاع الثقافية. قرابة الساعة 5 صباحا، كان مالك الدار "سمير منصور" في بيته ويشاهد الأخبار عبر التلفزيون، عندما علم بأن الجيش الإسرائيلي نوه بقصف وتدمير المبنى الذي يضم مكتبته، فهرع الرجل الخمسيني إليها، ولكنه توقف على بعد 200 متر، عندما رأى أحد الصواريخ تدك "شقى عمره"، وتسقط مكتبته أرضا. في بداية ثمانينات القرن الماضي، وعندما كان سمير يبلغ من العمر 14 عاما، بدأ بالعمل مع والده في المكتبة، قبل أن يستلم زمام الأمور ويقوم بإنشاء دار نشر في مطلع الألفية الثانية، قبل أن يشهد على تدمير ما قضى حياته في بنائه. في حواره لصحيفة "التليجراف" البريطانية، قال الرجل الخمسيني، وهو يحدق في كومة الخرسانة والورق والكراسي البلاستيكية المهشمة: "لقد انقضت 40 عاما من حياتي في أقل من ثانية"، مشيرا إلى تواجد أكثر من 100 ألف كتاب تحت الأنقاض، خسرها القطاع المحاصر. وفي حوار آخر نقلته وكالة "فرانس برس" الفرنسية، أكد صاحب المكتبة الشهيرة بالقطاع، أنه لا علاقة له بأي جماعة مسلحة أو أي فصيل سياسي، مفسرا ما حدث لمكتبته ما هو إلا "هجوم على الثقافة". مع استمرار عمال الإنقاذ في البحث عن الجثث والناجين تحت الأنقاض بعد الصراع العسكري والقصف الذي دمر قطاع غزة، كان منصور في حداد على ما فقده ودُفن تحت الأنقاض من نسخ النصوص الدينية الإسلامية والكتب المصورة للأطفال ونسخة كتاب فيودور دوستويفسكي "الأخوة كارامازوف". وأوضح منصور، الرجل الفلسطيني الذي عاش عمره في غزة، أنه عاش انتفاضتين فلسطينيتين و3 حروب في غزة، لكن لم يحدث مثل هذا الدمار الذي شهدته الحرب الحالية أبدا، فعلى حد قوله: "لم يتم تدمير مكتبته أبدا". عندما انقلبت حياته رأسا على عقب، كان مع منصور صهره منتصر صالح، الذي قد وصل إلى غزة قادما من النرويج؛ لزيارة الأسرة قبيل بدء الحرب، والذي قال في حواره لصحيفة "ديلي ستار" البريطانية إن "سمير لم يستطع تلبية التنويه الذي أعلنه الجيش الإسرائيلي، وأنه بمجرد وصوله للمكتبة أراد أن يذهب ويأخذ بعض الأوراق، وجهاز الكمبيوتر الخاص به، لكنهم خافوا عليه من الدخول وسط القصف". وعن فقدان المكتبة ودار النشر، قال مصعب أبو توحة، الشاعر ومؤسس مكتبة إدوارد سعيد، التي بدأت بعد حرب غزة الأخيرة، إن قطاع غزة فقد "أحد موارده الثقافية الرئيسية"، وتابع أن "مكتبة منصور كانت أكثر من مجرد مكتبة، فهي أكبر دار نشر تنشر كتب غزة، التي يتم طباعتها في مصر، ويعود بعضها إلى غزة، والبعض الآخر يظل في القاهرة ويتم تداوله في العالم العربي". واستكمل أبو توحة: "لقد كانت وسيلة لرفع الحصار عن غزة، القائم منذ 15 عاما، من خلال تناقل الأدب والثقافة"، فبالنسبة لقراء غزة، قامت دار النشر بطباعة حوالي 1000 نسخة من أعمال المؤلفين الغزاويين، مثل غريب عسقلاني أو يسري الغول، ونقلتها للعالم وتناقلت منه إلى غزة المحاصرة. مكتبة منصور ليست المكتبة الوحيدة التي دمرت في حملة القصف الإسرائيلية الأخيرة، فقد تم تسوية مكتبة "اقرأ" المجاورة، بالأرض، وتحولت مكتبة "النهضة" إلى كومة من الطوابق المهدمة، ولكن كانت مكتبة منصور الأولى التي أعلنت عن محاولة إعادة إعمارها، فعُلق ملصق أمام ما تبقى من المكتبة يؤكد للفلسطينيين أنه سيعاد فتحها قريبا، وعلقت لافتة تقول "إنها فكرة.. والفكرة لا تموت". وقالت وزارة الصحة في غزة، إن الضربات الإسرائيلية على غزة منذ 10 مايو الجاري قتلت 248 فلسطينيا، من بينهم 66 طفلا، وأصابت ما يقارب 2000 شخص، فيما قال الجانب الإسرائيلي إن الصواريخ القادمة من غزة أودت بحياة 12 شخصا في إسرائيل، من بينهم طفل وجندي وشاب فلسطيني إسرائيلي وهندي وتايلانديان، وأصيب نحو 357 شخصا.