عند لقائه جورج بوش بالبيت الأبيض لمناقشة الوضع فى أفغانستان، عبر الصحفى الباكستانى عن استغرابه الطريقة التى «يمكن بها للرئيس الأمريكى أن يعيش فى هذا العالم غير الواقعى، حيث كل مؤسسات الجيش والاستخبارات على قدر كبير من السذاجة، والإعلام يشعر بالرضا، والكونجرس لا يحَاسَب، وكل هذه الأطراف متورطة فى مد الجمهور الأمريكى بأنصاف الأكاذيب». ولا يزال سادة الحرب والوهم فى ازدهار. ويبدو أن أوباما، بتوسيعه حملة القتل غير المشروع بواسطة الطائرات بدون طيار داخل باكستان، يتخلى عن الإيمان الأمريكى الذى عفا عليه الزمن بقوة النيران الفائقة، ويبدو أن لا شىء يعرقل عسكرية حامل نوبل الجديد إلا أعباءها المالية الباهظة. ولا يزال الكثير من الصحفيين والكتاب فى صحف التيار السائد، الذين لم يخجلوا من تشجيعهم لحرب العراق، أشبه بكتاب المحاكم الذين كان أباطرة المغول يستعينون بهم: من صفاتهم «الحدة»، و«المنهجية»، و«الصرامة»، وهى من الأوصاف التى تستخدم لوصف الوقت الطويل الذى استغرقه أوباما للتوصل إلى قرار بشأن أفغانستان. وبالنسبة للقرار نفسه، فقد عبَّر فريد زكريا، عن إجماع الليبراليين الصقور الجديد عندما تهلل قائلا: «أوباما واقعى بطبعه، ومثقف، وموهوب». والحقيقة أن فكرة أوباما بإرسال 30 ألف جندى إضافى للمساعدة فى قمع طالبان، وتعزيز النظام الفاسد فى كابول، واغتيال المزيد من الأشخاص فى باكستان قبل الانسحاب الأمريكى الحتمى من هناك، يبدو خيالا مشوشا عند التطبيق. ولربما كان فريد زكريا يقصد أن أوباما «واقعى» مثلما كان هنرى كيسنجر يمتدح بوصفه الرجل الذى يدير دفة «المصالح الوطنية» بعناد وسط عالم بالغ التعقيد. على أن أوباما تذرّع على ما يبدو بمباركة كيسنجر المعتبرة عندما اقترح قصف «الملاجئ الآمنة» للإرهابيين فى باكستان أثناء مناظرات الانتخابات الرئاسية مع جون ماكين العام الماضى. ومن المؤكد أننا لو تحلينا بقدر أكبر من الواقعية فى النظر للخلفيات التاريخية فسندرك أن باكستان، القوة النووية ذات الشعب ما بعد الحقبة الاستعمارية بالغ التسييس، ليست كمبوديا ذلك البلد سيئ الطالع الذى دمره كيسنجر ونيكسون بعد الفشل فى ربط فيتنام بالمصالح القومية الأمريكية. أو سنرى أن البشتون، بالرغم من عدم خضوعهم للاستعمار وكونهم لم يشكلوا قومية مستقلة قط، أثبتوا أكثر من مرة أنهم أكثر فاعلية من معظم الحركات المنظمة المعادية للاستعمار فى طرد المحتلين الأجانب من أراضيهم. ولربما كان قرار أوباما بتوجيه المزيد من قوة النيران إلى أفغانستانوباكستان مستلهما من الواقعية السيكولوجية الحصيفة لبطل شبابه، جيمس بالدوين. فقد كتب بالدوين أثناء آخر هجمات كيسنجر ونيكسون اليائسة على الهند الصينية قائلا: «القوة لا تظهر للضحية قوة خصمه. إنها على العكس من ذلك تكشف ضعفه، بل ورعب هذا الخصم..ويسلح هذا الكشف الضحية بالصبر». ومن المتوقع أن تلجأ طالبان، نتيجة لأساليب الناتو، إلى الكمون إلى حين. بل إن إعطاء مهلة عامة يتوقف فيها العنف قد تكون طويلة بالقدر الذى يسمح لإعلان رعاة أوباما الفكريين أن التصعيد فى أفغانستان «حقق النجاح». وكما فى العراق، ستشهد البلاد حينها سلسلة من التفجيرات الانتحارية؛ لكن أمريكا وإعلامها سيكونان قد رحلا بالفعل. ولا يمكن لواقعية السياسة الخارجية الأمريكية، على ما يبدو، إلا أن تكون انتقائية وعابرة، مع تفحص النخبة الأمريكية الذى لا ينتهى لمصالحها القومية الغزو والقصف والتخلى عما يشاءون من المناطق الشاسعة، تاركين لشعب مهمة إصلاح ما وقع. وقد خلا خطاب أوباما الطويل عن أفغانستان من أى ذكر لباكستان، التى لم تشهد فى 2005 سوى حادث انتحارى واحد وها هى تعانى الآن بعد الهجمات المكثفة التى تشنها أو تقودها أمريكا على أفغانستان وسوات ووزيرستان الكثير من هذه الاعتداءات أسبوعيا. وفى الخطاب نفسه، لم يشر أوباما ولو مرة واحدة إلى الهند التى خاضت معها باكستان ثلاث حروب من أجل كشمير، ويظل احتلالها العسكرى للوادى الذى تسكنه أغلبية مسلمة أكبر ذريعة لتجنيد الجهاديين فى باكستان، كأولئك الذين قادوا الهجوم الإرهابى على مومباى قبل عام مضى. وبالطبع، سيتحدث أوباما عن جيران أفغانستان عندما يقع هجوم جهادى آخر فى الهند، وهو ما سيقود غالبا إلى اقتراب نشوب الحرب بين الهند وباكستان، ويشكل خطرا على حملة أمريكا على طالبان والقاعدة. لكن الصحيح أيضا أن العلاقة التاريخية والجيوبوليتيكية بين الهند وباكستانوأفغانستان قد تشكل خطرا بالغا، وعلى واقعيى السياسة الخارجية أن يأخذوا هذا فى الحسبان. وفى 1971سهلت الهند انفصال منطقة أقصى شمال باكستان (بنجلاديش الآن)، مستفزة بذلك باكستان، وهو ما اضطر الجيش الباكستانى المهان والمسئولين فى المخابرات إلى اتباع سياسة لإقامة «عمق استراتيجى» ضد الهند بتجنيد عملاء البشتون فى أفغانستان. وفى تسعينيات القرن الماضى، تحول المسئولون الباكستانيون، الذى كانوا يقدمون الدعم للمجاهدين أثناء الجهاد الذى كانت تشرف عليه الوكالة المركزية ضد السوفييت فى أفغانستان، إلى إذكاء نار التمرد الشعبى فى كشمير الواقعة تحت الحكم الهندى، الذى أودى بحياة أكثر من 80 ألف ضحية منذ 1989. وعلى مدى عقد من الزمان، قامت وكالة المخابرات الباكستانية الشديدة التكتم بتدريب وتمويل الجماعات الإسلامية المتشددة للجهاد فى كشمير حتى وإن كانت تتخذ من طالبان وكيلا لها فى أفغانستان التى تخلت عنها الولاياتالمتحدة فجأة بعد الانسحاب السوفييتى. اعتبر أوباما نفسه كشمير، قبل شهر من انتخابه، المسمار الصدئ فى الكيان السياسى لجنوب آسيا. وعند مناقشته للموقف فى أفغانستان، قال لجو كلاين من مجلة تايم إن «العمل مع باكستان والهند لمحاولة حل أزمة كشمير بطريقة جادة، يعد مهمة حاسمة للإدارة القادمة». لكن أوباما ورث، عند توليه الرئاسة، مصالح قومية استراتيجية ومثمرة كذلك. كانت إدارة بوش ترغب فى تحويل الهند إلى حليف استراتيجى للولايات المتحدة لموازنة ثقل الصين الهائل فى آسيا. وبتشجيع جماعات الضغط الهندية الأمريكية الحاسمة، ومصنعى السلاح الأمريكيين، عرض بوش على الهند التى ترفض منذ زمن، على عكس إيران، التوقيع على معاهدة حذر انتشار الأسلحة اتفاقية نووية مدنية بالغة السخاء. والآن، أصبحت الهند أخيرا سوقا مفتوحا أمام شركات السلاح الأمريكية، إذ تأمل لوكهيد مارتن وحدها فى حصد صفقات تصل قيمتها إلى 15 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة. وغالبا ما يتذمر المسئولون الأمريكيون من «توجس» المؤسسة الأمنية فى باكستان من الهند. ومن منظور المصالح القومية الأمريكية، يبدو التوجس مبالغا فيه تماما، وتخليا مخيبا للآمال عن المهمة الملحة المتمثلة فى محاربة المتطرفين المعادين لأمريكا. لكن باكستان ترى أن الهند تفوز ب«عمق استراتيجى» فى فنائها الخلفى، وتستخدم أفغانستان التى صبت فيها الهند أكثر من مليار دولار كمساعدات منذ 2001 ولها أربع قنصليات إلى جانب سفارتها فى كابول لمساعدة الانفصاليين فى منطقة بلوشستان الباكستانية المضطربة. وسيمثل زعماء باكستان المقتنعون بأن أمريكا ستتخلى عن إسلام آباد تماما كما فعلت فى أفغانستان بعد الانسحاب السوفييتى فى 1989 المهزلة نفسها مع أوباما الذى وصفه وزير خارجية الجنرال مشرف ذات مرة بأنه «يقول نعم أولا، ثم يقول لكن. وحتما سيشنون بضع حملات رمزية على المتشددين. لكن من غير المرجح أن يتخلوا عن إمكانية السماح للبعض بالبقاء لإطلاقهم، فى وقت لاحق، على كشمير التى تحكمها الهند. وكما هو الحال دائما، فإن الطريق إلى الاستقرار فى باكستانوأفغانستان يمر بوادى كشمير، وبجعل أوبا الصراع الأساسى فى جنوب آسيا يختفى، فهو يبدو الآن ممثلا آخر لذلك النوع المستنفد من الواقعية السحرية. New York Times Syndication