«فى الماضى كانت هناك مساحات مضيئة ومشرقة، وهذه المساحات مفيدة، واستدعاؤها ضرورى كى نستفيد من معالمها وملامحها ودروسها.. وفى الماضى أيضا كانت هنالك مساحات مظلمة وقاتمة.. وهذه المساحات مفيدة أيضا واستدعاؤها ضرورى كذلك، كى نستفيد من عبرها وعظاتها ونتائجها.. ولعلنا بعدئذ نحافظ على ما عندنا حتى لا يشمله الظلام والقتامة». انطلاقا من هذه الفكرة جاء الكتاب الأحدث للكاتب «حلمى القاعود» الصادر مؤخرا عن دار العلم والإيمان للنشر بعنوان «الرواية التاريخية فى أدبنا الحديث» والذى يتتبع فيه الكاتب مراحل النشأة والنضج والتطور فى حركة الرواية التاريخية، أو التاريخ المسرود فى قالب إبداعى فنى، مع التطبيق على نماذج روائية رائدة فى هذا السياق كل حسب مرحلته. ويأتى كتاب «القاعود» لينصف التراث الهائل الذى التفت إليه وصنعه كتاب الرواية التاريخية الذين حاولوا على ما بينهم من تفاوت إيقاظ أمتهم بالفن، لكنهم عانوا طوال الوقت من الإهمال والتجاهل الذى مرده افتقار بعض هذه الأعمال فى بدايتها إلى المنطق الفنى الصارم. فباستثناء بعض الدراسات الموجزة التى تناولت أو عرجت على الرواية التاريخية كدراسة «محمد حمدى شوكت» حول الفن القصصى فى الأدب العربى الحديث، والتى أشار فيها إلى عدد من النصوص الروائية التاريخية دون التوقف قليلا عند نماذجها، والقراءة النقدية التاريخية التى قام بها كل من «قاسم عبده قاسم» و«أحمد إبراهيم الهوارى» لأربع روايات تاريخية لكل من الكتاب: جرجى زيدان، نجيب الكيلانى، على أحمد باكثير ومحمد سعيد العريان، بالإضافة إلى قراءة نقدية ثالثة لبعض روايات نجيب محفوظ التاريخية، تضمنتها دراسة وكتاب د.عبدالمحسن طه بدر «نجيب محفوظ الرؤية والأداة»، باستثناء هذه الدراسات الثلاث لم تنل الإبداعات الأدبية التاريخية اهتماما نقديا أو تأريخا علميا لائقا. أما الكتاب الذى بين أيدينا فيعد أول تأريخ نقدى شامل للرواية التاريخية بمختلف مراحلها ومستوياتها، وقد اختار مؤلفه تقسيما زمنيا ثلاثيا لمراحل هذا الجنس الأدبى، اختص كل قسم فيه بقراءة لملامح الأعمال الأدبية التى كتبت فى كل مرحلة، وذلك بعد دراسة وتأمل العديد من نماذج الروايات التاريخية منذ نشأتها المشهورة على يد «جرجى زيدان» وحتى أحدث النماذج التى اعتمدت عليها الدراسة. وقد رأى المؤلف أن هذه النماذج تنقسم فنيا إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول لا تتوافر فيه الأسس والمفاهيم الفنية لبناء الرواية بشكل كامل، أو الذى يجعل منه أصحابه مجرد وسيلة لتحقيق غاية أخرى مع التجاوز عن بعض مواصفات البناء الفنى للرواية، وكان الهدف منه فى الغالب تعليميا لذلك أطلق عليه المؤلف (رواية التعليم)، أما القسم الثانى فهو الذى نبت على يد رواد الحرفة الفنية الناضجة أو جيل البناة للرواية العربية الحديثة، وهو الجيل الذى استوعب المقاييس الكلاسيكية التى عرفها الأدب الغربى الحديث، واستطاع أن يقدم رواية تاريخية ناضجة، لذا يمكن أن نطلق عليها «رواية النضج». أما القسم الثالث والأخير، فيتمثل فى الاستفادة بالتاريخ كإطار يتحرك من داخله الكاتب الروائى مستعينا بالخيال الروائى ليعالج قضايا معاصرة وملحة، وهى التى أطلق عليها المؤلف رواية «استدعاء التاريخ». وتبدو أهمية الرواية التاريخية التعليمية من خلال الظروف التى ظهرت فيها فى بلادنا مع بداية القرن العشرين حيث كانت الرواية بوصفها جنسا أدبيا تشهد محاولات عديدة تسعى إلى ترسيخ جذورها وتطويرها بما يتلاءم مع الذوق العربى، سواء من خلال الترجمة أو التعريب أو الإنشاء، أيضا كانت هذه المرحلة تشهد بداية نهضة علمية وثقافية فى شتى المجالات، وهكذا ارتبطت الرواية التعليمية بنشأة الرواية عامة، لكنها مثلت مساحة لا بأس بها فى مجال الرواية التاريخية إذ ارتبطت غالبا بالمجال المدرسى أو مقررات التعليم بهدف تحقيق غايات دينية أو قومية أو أدبية، فأقبل على كتابتها عدد غير قليل من الكتاب كان من أبرزهم: جرجى زيدان، طه حسين، على الجارم، وعبدالحميد جودة السحار وغيرهم.. لكن هذا اللون التعليمى فى الرواية التاريخية أخذ أكثر من اتجاه، جمعها المؤلف فى ثلاثة اتجاهات فرعية هى: رواية المعلومات التاريخية رواية تعليم الصياغة والأسلوب ورواية الترجمة الأدبية. فى الفرع الأول برع كل من جرجى زيدان وطه حسين وإبراهيم الإبيارى فيما كتبه عن تاريخ الدولة العباسية، وعبدالحميد جودة السحار فى عمله الضخم «محمد رسول الله والذين معه»، وكلها أعمال قال المؤلف إنها تتوسل بالأداء الروائى أو القصصى لتقديم المعلومات التاريخية بصورة ميسرة وممتعة، أما فرع رواية تعليم الأسلوب فغايته تقديم نماذج أسلوبية وتعبيرية من خلال الرواية التاريخية ومن أبرز كتابه الشاعر الراحل على الجارم والذى لا تزال الكثير من رواياته مقررة ضمن مناهج الأدب العربى فى المدارس بغرض الارتقاء بالصياغة الأسلوبية للطلاب، ومن أبرز أعماله فى هذا المجال: غادة رشيد، هاتف من الأندلس وفارس بنى حمدان. أما الفرع الثالث فيعنى بالترجمة لشخصيات أدبية شهيرة فى الأدب العربى، وأول من كتب فيه الدكتور أحمد كمال زكى فى عدد من الأعمال التى جمع فيها بين مرونة الروائى ودقة الباحث فقدم نمطا وصفه المؤلف بأنه نمط فريد فى الروايات التاريخية. وهكذا كانت رواية التعليم التاريخى مرحلة ضرورية وممهدة لرواية «النضج» التى تناولت التاريخ بأحداثه وشخوصه وملامحه تناولا فنيا متكاملا، وذلك وفقا لأسس واضحة ومعروفة، لذا لم تكن مصادفة أن يكون الكتاب الذين أبدعوا الرواية التاريخية الناضجة فنيا من جيل الروائيين البناة ومن تلاهم ممن ساروا على نهجهم من الرواد الذين استفادوا من معطيات الرواية الناضجة فى العالم واستطاعوا أن يكتبوا رواية فنية ناضجة، وأن يكتب معظم الإنتاج الروائى التاريخى خلال هذه المرحلة التى شهدت ما يسمى بالمد الروائى المزدهر كما وكيفا، وضمت هذه المرحلة العديد من الأعمال لكتاب مثل: نجيب محفوظ، ونجيب الكيلانى وإدوار الخراط ومحمد فريد أبوحديد، ومحمد عبدالحليم عبدالله ومصطفى هدارة وثروت أباظة وغيرهم.. أما مرحلة الاستدعاء التاريخى فقد اعتمد كتابها على اتخاذ التاريخ وسيلة لمعالجة القضايا المعاصرة دون التزام صارم بوقائع التاريخ، بحيث كان كاتب الرواية يكتفى بخلق جو تاريخى يشعر القارئ بأن موضوع الرواية يجرى فى مرحلة تاريخية ما دون أن يكون للموضوع أى أساس من الحقيقة، وفى رواية الاستدعاء يتجاوز الكاتب «رواية التعليم» و«رواية النضج» لأنه يفر من صرامة الأحداث والشخصيات واللغة التى يحتفظ بها التاريخ وتشكل وثيقة دقيقة لما جرى وكان، ومن أشهر مبدعى هذه المرحلة: الكاتب محمود تيمور الذى كان أول من قدم هذا اللون التاريخى الأدبى فى روايته «كليوباترا فى خان الخليلى» بالإضافة إلى ثلاثة من المبدعين الذين مثّل كل منهم جيلا مستقلا فى كتابة رواية الاستدعاء التاريخى، بداية من نجيب محفوظ ومرورا بنجيب الكيلانى ووصولا إلى محمد جبريل. أخيرا فإن الرواية التاريخية فنا زاخرا ومليئا بالمعطيات والدلالات على المستويين الموضوعى والشكلى، وقد أشار المؤلف إلى أنه كان يدور فى الغالب حول هم عام يتعلق دائما بالوجود والحياة، وذلك لأن بسبب طبيعة الفترة التى تبلور فيها فن الرواية التاريخية والتى اتسمت بالقلق الحضارى والصراع مع قوى الشر الأجنبية، لذا انعكس ذلك على موضوعها بوضوح، حيث لجأ كتاب الرواية التاريخية إلى موضوعات مشابهة لما تخوضه الأمة من صراع وما تستشعره من قلق، ولعل هذا فى رأى المؤلف ما جعل معظم الموضوعات تلح على الجانب المأساوى، ما جعله يختتم كتابه بالدعوة إلى تبنى الكتاب للجوانب المشرقة والمضيئة فى تاريخ الأمة خاصة الجانب الحضارى الذى أسس قاعدة جيدة للحضارة الحديثة فى مختلف المجالات.