كلما حاصرت الضغوط الدولية إسرائيل من أجل إحياء عملية السلام تلجأ إلى لعبة تغيير المسارات. هذا هو التفسير الذى يراه الكثيرون للمساعى الرامية إلى انعاش المسار السورى على حساب المسار الفلسطينى. حفل الأسبوع الماضى بسلسلة تحركات تمهيدية فى محيط عملية التسوية على المسار السورى الاسرائيلى، بدأت كعناوين بارزة بعد زيارتين متتاليتين لرئيس الوزراء الاسرائيلى بنيامين نتنياهو إلى الولاياتالمتحدة ثم فرنسا، وأعقبها زيارة للرئيس السورى بشار الأسد إلى باريس أيضا. وعلى عكس هدوء زيارة نتنياهو لواشنطن، كانت زيارتا نتنياهو والأسد لباريس أكثر زخما كونهما خلفتا تسريبات عن وديعة إسرائيلية جديدة من تل أبيب إلى دمشق عبر باريس. تقول المصادر فى دمشق إنه طالما لم يتم الكشف عنها فإنها لن تخرج على ثلاثة مؤشرات فهى إما تسريبات فرنسية أو لعبة على مسارات السلام فى الشرق الأوسط أو توجه أمريكى واضح نحو أهمية اضطلاع أطراف دولية مثل فرنسا بلعب دور لم تلعبه الرباعية الدولية وإنما ستلعبه دول منفردة بضوء أخضر من واشنطن. ففى باريس قال الرئيس الأسد لصحيفة «لوفيجارو» إن المطلوب الآن هو أن يكون هناك دور للراعى الأمريكى، ومطلوب منه خطة عمل. كما أعاد الأسد الكرة ثانية إلى الملعب نتنياهو عندما طالبه بتوجيه طاقم مفاوضاته إلى استانبول إن كان جادا. الأمر الذى حسبه مراقبون تراجعا سوريا عن رفضها العودة إلى مفاوضات غير مباشرة من جديد. غير أن مصدر سورى مطلع يقول ل«الشروق» إنه ليست هناك مشكلة الآن فى استئناف المفاوضات بواسطة تركية لرفض اسرائيل الاعتراف بما توصلت اليه حكومة إسرائيل السابقة بزعامة ايهود أولمرت، وترى سوريا أن الأنسب هو العودة إلى طاولة المفاوضات غير المباشرة بدون شروط مسبقة، وباعتماد المرجعية وعبر الدعم الأمريكى الواضح، وبوساطة تركية أنسب لدى الطرفين. وكان سياسيون اسرائيليون قد انتقدوا إمكانية العودة إلى الوساطة عبر تركيا بالتشكيك فى أن يكون رجب طيب اردوغان رئيس الحكومة التركية وسيطا محايدا على غرار التوترات التى شهدتها العلاقات بينهما عقب الحرب على غزة نهاية العام الماضى وتداعياتها، غير أن المصادر السورية نقلت عن الرئيس السورى حديثه إلى نظيره الفرنسى بأن «العلاقات بين الطرفين التركى والاسرائيلى جيدة ومناسبة». على الجانب الآخر من عملية التسوية سدت اسرائيل أى مساحة للأمل فى اسئتناف جهود المباحثات الفلسطينية، الأمر الذى دعا مراقبين إلى القول بأن اسرائيل بدأت رحلة البحث على المسار الآخر كعادتها، كما يقول حسن عصفور الوزير الفلسطينى السابق ل«الشروق»، وهى التصريحات التى تتوافق مع رد فعل وزير الدفاع الاسرائيلى على تلك التطورات بالإشارة إلى أن اسرائيل بدأت تخسر نقاطا لدى المجتمع الدولى بسبب الاخفاق فى عملية السلام على المسار الفلسطينى ومن ثم على اسرائيل استثمار أية جهود على المسار السورى. فى المقابل يقول المصدر السورى إن سوريا تتفهم بالطبع هذه الرؤية وبالتالى فهى تطالب إما بالعودة إلى طاولة المفاوضات بوجود الوسيط التركى الأنسب للطرفين أو أن تقدم اسرائيل ضمانات قوية للمجتمع الدولى بأن أية مفاوضات سيتم استئنافها ستقوم على اعادة الأرض المحتلة فى الجولان، وشدد المصدر ونحن نسعى لذلك لأنها أثبتت نجاحها فى الواقع وخلقت نوعا من التوصل مع الإسرائيليين إلى نقاط ثابتة، وليس من باب اللعب على المسارات. سوريا جاهزة لارسال طاقم مفاوضاتها إلى تركيا، هكذا فهم من تصريحات الأسد فى الإليزيه، وتبدو جاهزة لهذا المسار الأوضح عن المسار الفلسطينى، فلدى الطرفين ما يمكن أن يقدمه كل منهما للآخر، كما أن المفاوضات تتم على مسارين موجودين على الارض وفاعلين فى الساحة الاقليمية والدولية بينما الساحة الفلسطينية تبدو منقسمة على نفسها فى وقت تراجعت فيه الادارة الأمركية عن ممارسة مزيد من الضغوط على الجانب الاسرائيلى لوقف الاستيطان. بينما تقف واشنطن ازاء كل هذه التحركات موقف المراقب حتى الآن، كما يقول مصدر مصرى فى واشنطن ل«الشروق». ويؤكد المصدر أن واشنطن تقترب من سوريا ولكن بحسابات مفهومة وواضحة لديها فى هذا الاطار، وكشف المصدر أن لقاءات دورية تعقد بشكل اسبوعى فى واشنطن بين الطرفين فى مقر الخارجية الأمريكية أو مقر مجلس الأمن القومى الأمريكى. وأشار إلى أن الملف برمته لدى المبعوث الأمريكى لعملية السلام جورج ميتشل. حيث إن ميتشل يبنى مواقف لدى الطرفين وليس لديه خطة عمل مسبقة كما يطالب الرئيس الأسد إنما لديه رؤية حول مدى جدية الأطراف، وهى الرؤية ذاتها التى ستحسمها الادارة الأمريكية مطلع الربيع من العام المقبل. واشنطن اذا تريد ثمن للمكاسب التى تقدمها لسوريا فى الوقت الراهن وعلى رأسها خروج سوريا من شرنقة العزلة التى كانت مفروضة عليها فى الشرق الأوسط وفتح الآفاق لها فى تحركات أوروبية عبر بوابة باريس. وفى هذا السياق يقول محمد مجاهد الخبير فى المركز القومى لدراسات الشرق الأوسط «إن سوريا لا تزال فى مرحلة استجداء المفاوضات من الأطراف الدولية المعنية، ودخول باريس على الخط هو بوابتها فى هذه المحاولات. ويضيف «إن واشنطن تريد من سوريا حزمة مطالب للعب دور مهم كل ملفات الشرق الأوسط من الملف العراقى إلى الايرانى وبالتبعية اللبنانى والفلسطينى، وسوريا من جانبها فهمت هذه الرسالة بوضوح وبدأت تخطو خطوات ايجابية بدأت تقلق حلفاءها». سوريا التى استوعبت الرسالة الأمريكية اذا قامت بضبط الحدود مع الجانب العراقى، ولديها رؤية مشتركة مع الولاياتالمتحدة أنها تريد الضغط على المقاومة العراقية وفلول البعث بالتحول ميدان السياسة بدلا عن ميدان المعارك، وقامت سوريا أيضا بالأمس بإغلاق قناة عراقية لمشعان الجبورى النائب العراقى كانت بمثابة النافذة لهذين التيارين الاعلامية كنوع من خطوات بناء الثقة مع الغرب خاصة واشنطن. كما قدمت سوريا ايضا خطوات عملية على الصعيد اللبنانى تمثلت فى خطوة تشكيل الحكومة التى جاءت قبيل ساعات من لقاء الاسد ساركوزى، فضلا عن التقارب السعودى السورى، والسورى التركى الذى جاء على غير الهوى الايرانى، وهو الأمر الذى استدعى رئيس مجلس الشورى الايرانى على لاريجانى رئيس البرلمان الايرانى القول أثناء زيارته الأخيرة إلى العراق مؤخرا «الذين يزعمون أنهم ضد الاحتلال ويدعمون المقاومة، بينما هم يدعمون الارهابيين فى توجيه ضربات فى العراق» وذلك فى إشارة غير مباشرة إلى سوريا، وفى ضوء ذلك تداعت الزيارة التركية والسورية على طهران لتثبيت مواقف تلك الأطراف فى الاستمرار على علاقات متينة فى هذا المربع حتى وإن خفت حدته.