تدخل العطور وأنواع البخور منذ بداية الحضارات فى وسائل العلاج وسبل التقرب من المعبودات، وكما تشتهى النفس الرائحة الزكية وتبحث عنها فى الأزهار والورود وأنواع العطور، كذلك يُبحث عنها فى رائحة الأماكن والأحبة، لارتباطها بلحظات من ذكريات المتعة والبهجة والسعادة، وكأن الرائحة التى تشبه رائحة المحبوب تعيد إلى المحب تواجد وحضور المحبوب الغائب، وفى أغنية الوداع 1928 للموسيقار عبدالوهاب من كلمات الأستاذ أمين عزت يشجينا صوت عبدالوهاب بمقطع (الوردة دى ريحتك فيها أحفظها تذكار لهواكى)، وهنا وكأن الوردة استمدت حلاوة رائحتها من رائحة المحبوب وليس العكس. وفى الأدب العالمى نجد رواية «عطر» للكاتب الألمانى باتريك زوسكيند والتى صدرت سنة 1985 وتُرجمت إلى نحو 50 لغة وبيعت أكثر من 20 مليون نسخة عبر العالم، وصدرت باللغة العربية عام 1997 عن دار المدى تحت عنوان (العطر: قصة قاتل) ترجمة الأستاذ نبيل الحفار، وإلى الآن تظل هذه الرواية من أكثر الأعمال الأدبية تخيلا وتوثيقا لموضوع العطور، وامتد نجاح الرواية إلى السنيما، عبر فيلم من إخراج الألمانى توم تيكوير عام 2006. تدور أحداث الرواية فى القرن 18 فى فرنسا، وتروى سيرة حياة شخصية فريدة نبتت فى فقر الظروف الاجتماعية للطبقات المهمشة بأحد أسواق السمك الفقيرة، ولكنه ولد بحاسة للشم فائقة القدرة بينما كان هو نفسه دون رائحة جسدية، ويتدرج بطل الرواية منذ طفولته فى أعمال شديدة المهانة والقسوة، ولكنه يكتشف موهبته الخارقة فى حاسة الشم، وتدريجيا يقوم بتنمية مواهبه فى سبر أغوار العطور والروائح حتى يصبح أحد أهم صانعى البارفانات فى فرنسا، ولكنه وبسبب وعيه بأنه بلا رائحة ينجذب فى شبابه إلى فتاة جميلة الرائحة وفى محاولته للحصول على رائحتها يقتلها ويقتل عددا آخر من العذارى حبا فى رائحتهم، وبمرور الوقت يصبح قادرا على التحكم فى الآخرين عبر عطوره، ولكنه فى نهاية حياته يغرق نفسه بعطر لا مثيل له مما يدفع بعض العاملين فى سوق الأسماك؛ حيث ولد، يلتهمونه حيا، والرواية إلى جانب تميزها بالمعرفة التامة بصناعة العطور، إلا أنها تظهر أيضا قسوة الفوارق الطبقية للمجتمع فى ذلك الوقت، والتى تعكس بلا شك قسوة هذه الفوارق إلى الآن بالعديد من المجتمعات. وان كانت الرواية تذكر الصراعات التى كانت قائمة بين مبتكرى العطور وقتها، فهى ما زالت مستمرة إلى وقتنا هذا، إذ أصبحت تجارة العطور والبارفانات من أكثر الصناعات المربحة لبيوت الأزياء والموضة المشهورة، فمثلا عطر شانيل رقم 5 (Chanel No. 5) سعره 234 دولارا للزجاجة 100 ميلى، وتشير تقديرات الشركة إلى أن هناك زجاجة تباع فى جميع أنحاء العالم كل 30 ثانية. وهناك أيضا العديد من العطور بأسعار مقاربة أو تفوقها سعرا، وإذا نظرنا إلى بعض مكونات هذه العطور وجدنا المسك والعنبر وخشب الصندل وبالطبع الفل والياسمين وزهرة اللوتس التى ولع بها قدماء المصريين الذين اهتموا كثيرا بالعطور والبخور. والمِسْك هو عطر من مصدر حيوانى، يتكون فى غدة كيسية فى بطن نوع من الظباء يسمى غزال المسك وتوجد هذه الغدة فى الذكر، وقد عرف عرب الجزيرة مهنة تركيب العطور وتجارتها منذ ما قبل الإسلام وكان المسك من بين العطور المتداولة والمشهورة عند العرب إلى جانب العنبر والعود والصندل، واشتهر عندهم نوع من المسك الهندى الذى يجلب من التبت ويعد أفضل هذه الأنواع. أما العنبر فقد استخدمه الإنسان فى عدة جوانب من أهمها صناعة العطور، وهو مادة تخرج من جوف الحوت المعروف باسم حوت العنبر. وإلى الآن هناك العديد من محلات العطور بمنطقة قاهرة المعز والتى تباع بها العطور المركزة أو المخففة أو المخلوطة بأسعار بسيطة مما يدل على مدى استغلال أسماء منتجات العطور فى الغرب على الحصول على أرباح فلكية. ولعل قدماء المصريين من أوائل الشعوب التى اهتمت بالعطور وأنواع البخور وخاصة بزهرة اللوتس. وتوضح بعض النصوص أن شم الزهرة، وتقريبها للأنف يعنى استنشاق رحيق الأبدية، كما هو مدون فى نصوص بعض المقابر، وفى متون بعض التوابيت. وقد أثبتت الأبحاث التى أجريت على زهرة اللوتس المصرية الزرقاء أن لها تأثيرا على مخ الإنسان يؤدى إلى حالة من الاسترخاء العقلى والغبطة. وقد ابتكرت المصرية القديمة العطور الجامدة بجانب العطور السائلة، ومن أشهر أنواع العطور الجامدة التى ابتكرتها حواء المصرية وميزتها عن نساء جميع الحضارات القديمة أقراص العطور التى كانت تضعها المرأة فوق رأسها فى السهرات والحفلات. ومن أشهرها أقماع العطر التى أطلقوا عليها «تاج العطر» لتعطر نفسها وتفوح رائحتها الزكية على الجو المحيط بها، أما فى الأعياد فكانت أيضا تتحلى بالقلائد والعقود التى تزين به صدرها وذراعيها من الفل والياسمين.