عرف الإنسان الداء فتلفت حوله يبحث عن الدواء. وكما عرف النار فطهى طعامه عرف أن فى الأعشاب دواءه فظل لآلاف السنين يبحث فى الطبيعة حوله عما يشفى جروحه ويسكن آلامه. وظهرت مدارس للطب واكبت نشأة الحضارات المختلفة ذاع منها صيت العرب وحضارات الشرق القديمة قبل أن يبدأ عصر النهضة فى أوروبا. ومع تحول الإنسان من بساطة الطبيعة إلى تعقيدات المدنية بدأت صناعة الأدوية الحديثة وانحاز الإنسان للتقنيات الكيميائية التى نجحت فى علاج أمراض خطيرة مهلكة مثل الدرن الرئوى والتيفويد وكان فى إنتاج المضادات الحيوية والبنسلين طفرة حقيقية قلبت الموازين لمصلحة الإنسان فى معركته مع المرض. فلماذا الآن العودة للطبيعة؟ الواقع أنه ما زالت حتى الآن العديد من المواد الفعالة التى اكتشفها الإنسان فى بحثه العشوائى فى الطبيعة حوله تستعمل بعد معالجتها بصورة أو بأخرى لتتحول إلى وسيلة سهلة التناول بقصد العلاج فقد استخدم الإنسان البدائى الكحول والأفيون لعلاج الألم حتى صاغه العلم فى صورة عقار المورفين. ويعد اكتشاف البنسلين العبقرى الذى استخلص من الفطريات حجر الزاوية فى صناعة كاملة تطورت إلى حد بعيد فيما نعرفه الآن بالمضادات الحيوية. وقد سجل المصرى القديم فى بردياته وأشهرها تلك التى اكتشفها العالم ابريس عام 1862 فى الأقصر أكثر من سبعمائة دواء أصلها الأعشاب والمعادن وأدوية من أصل حيوانى. حيث تحدث فيها عن أثر لحاء شجرة الصفصاف «السالسيلات» المماثل لأثر الأسبرين على تسكين آلام المفاصل الروماتيزمية، كما ذكر أيضا فوائد الخروع وبصل العنصل والأفيون. وبرع القدماء فى استخدام الأعشاب فى مستحضرات التجميل. فهل يعنى هذا أن نبدأ فى عود على بدء ونعاود اللجوء للطبيعة بحثا عن علاجات جديدة فى الأعشاب والمواد الطبيعية والعناصر الغذائية المختلفة والزيون العطرية؟ ظل الإنسان يستخدم الأعشاب فى علاج أوجاعه وأمراض آلاف السنين مهتديا بفطرته إلى العناصر الفعالة فيها إلى أن تبلورت المعرفة المتراكمة فى علم الصيدلة الذى بدأ بدراسة أنواع الأعشاب وطرق فصل المركبات المختلفة منها ودراسة خواصها وتجريبها على الحيوان وإن تميزت تجربة الشرق الأقصى خاصة الصين بتجربة العلاجات المختلفة على الإنسان إضافة للعلاج بالإبر الصينية. حققت الأدوية المصنعة من النباتات نجاحا كبيرا فى العلاج فكان منها عقار لعلاج هبوط القلب الاحتقانى المعروف «الديجوكسين» المشتق من نبات الديجيتالس Digitalis ودواء النقرس الفعال Colchicine وازدهرت صناعة الدواء فتجاوزت الأصول النباتية إلى الأدوية المصنعة كميائيا فى مختلف أشكالها من الأقراص والكبسولات والأمبولات والكريمات والمراهم بل وشهدت تطورا كبيرا فى إضافة المحسنات إليها من بديع الألوان والمذاقات التى تجعل المريض يقبل عليها. شهد القرن التاسع عشر بداية صناعة الأدوية التى سجلت أعلى معدلاتها فى القرن العشرين وروجت لها الشركات المنتجة للأدوية بدعاية مكثفة وكان لنجاحها فى علاج العديد من الأمراض بسهولة ويسر أكبر الأثر فى انتشارها، وكان أن استنت لها قوانين خاصة تخضعها للمراقبة وتقوم على تنظيم وتقييم آلياتها كإدارة الأغذية والأدوية الأمريكية FDFI ومنظمة الصحة العالمية وهيئات الرقابة الدوائية الأوروبية. فماذ الذى حدث؟ توالت الدراسات الجادة التى تشير إلى فاعلية العديد من الأدوية المصنعة وسلامتها لكنها أيضا أثبتت أن العديد من الأدوية التى أقرتها الهيئات العالمية كأدوية آمنة ليست كذلك وإنما هى تحمل خطرا حقيقيا على المرضى استوجب إما سحبها من الأسواق أو تعديلها بما يضمن انحسار الخطير من أعراضها الجانبية. بل وتشير الإحصائيات إلى أن نحو مائة ألف شخص يلقون حتفهم سنويا بسبب أدوية غير آمنة تلقوها للعلاج فى الولاياتالمتحدة وحدها. وما زالت كارثة الأجنة المشوهة وآلاف الوفيات من المواليد الذين تلقت أمهاتهم دواء التاليدوميد Thalidomide فى بداية الستينيات من هذا القرن ماثلة فى الذاكرة. اجتمعت كل تلك العوامل لتدفع الإنسان مرة أخرى للعودة للطبيعة والأدوية التى استخدمها الأجداد من الأعشاب للتداوى فامتلأت رفوف الصيدليات بأشكال الفيتامينات المصنوعة من مصادر طبيعية والأدوية التى تقوى مناعة الجسم ومضادات الأكسدة التى يترسخ الاعتقاد الآن بأن لها دورا مهما فى مقاومة ما يسمى بالشوارد الحرة أو مخلفات التفاعلات الحيوية فى الخلايا التى تدمر حيويتها وتتسبب فى زحف أعراض الشيخوخة عليها وموتها فى وقت قصير لاحق. بل وتشير الدراسات الحديثة لدورها الفاعل فى مقاومة الأمراض ومنها إنفلونزا الخنازير وإلى قدراتها على مقاومة غزو الخلايا السرطانية. التداوى بالأعشاب هل يبدأ بزيارة للعطار؟ يعتقد الكثيرون منا فى زيارة العطار بحثا عن علاج لمرض السكر وأمراض الكبد وأعراض أخرى منها الألم وربما الأرق، لكن الواقع أن ما يجب أن نقصده عنده هو التوابل والمعروف من الحبوب فقط إذ إن الأعشاب التى نعنيها هى الأعشاب التى يتم تصنيعها من مصادرها الطبيعية فى صورة آمنة. يبدأ تصنيعها بالاهتمام بزارعتها فى تربة صالحة ومواسم معروفة وضمان خلوها من الشوائب أو آثار المبيدات السامة ثم تحضير خلاصاتها لدراسة خواصها والمواد الفعالة فيها والجرعة المناسبة لكل مريض وتحديد إذا ما كانت آمنة للسيدة الحامل وجنينها أم أنها تحمل خطرا وقد يستدعى الأمر بالطبع إجراء سلسلة من التجارب المعملية على الحيوانات قبل أن يتم تجهيز المستحضر فى صورته النهائية كأقراص أو كبسولات أو غيرها. هل كل الأعشاب آمنة؟ الأعشاب من الطبيعة تضم المتناقضات فمنها الآمن ومنها ما يجب حظر استعماله فى حالات مرضية منها على سبيل المثال: يجب ألا يتعاطى مريض الضغط المرتفع مركبات الأفيورا أو الجنكوبيلوبا التى تستخدم عادة لتحسين عمل الذاكرة أو مركبات الجنسنج التى تستخدم كمقوى عام أو شراب العرقسوس يماثله فى هذا مريض السكر. أما فى حالات ضغط الدم المنخفض فالإقلال من الثوم والحلبة والزنجبيل أمر مستحب. وعلى مريض قرحة المعدة والاثنى عشر أن يتجنب تماما القرفة، الزنجبيل، السنامكى، الكراوية، الحبهان، الينسون والنعناع والشطة. هناك أيضا ما يحظر تناوله على الحامل من أعشاب قد تؤذى حملها. علاج فيروس «سى» بالأعشاب: المثل الأشهر تتعدد العلاجات بالأعشاب للأمراض المختلفة. الترمس لعلاج الصدفية من أمراض الجلد، السوبالميتو لعلاج تضخم البروستاتا لدى الرجال، لكن يظل علاج فيروس «سى» بالأعشاب من الأمثلة التى حققت نجاحا وإن كانت تحتاج لدراسات مستمرة مستفيضة. انتشرت فى السنوات القريبة الماضية مراكز الطب البديل والطب التكميلى والعلاج بالأعشاب. يستخدم اليابانيون مستخلصا من جذور نبات العرقسوس glycyrrhizin لعلاج إصابات الكبد الفيروسية. بينما يجمع الألمان بين جذور العرقسوس ومسحوق عيش الغراب والسليمارين وجرعة كبيرة من فيتامينات ج، د، ه. أما الحبة الصفراء الآتية من الصين فليس لها تأثير مباشر على الفيروس لكنها تحسن من نسب الإنزيمات الكبدية فى حدود. رغم أن الأنتير فيرون يظل العلاج المعروف للإصابة بفيروس «سى» إلا أن بعضا من جهد الطب التكميلى قد يؤدى لزيادة أثره على الفيروس أو يقلل من حدة التهاب الخلايا الكبدية عند استعمال مضادات الأكسدة أو خفض نسبة الحديد فى الدم بفصد دم المريض. يظل الاعتقاد بأن دواء الأجداد هو الأفضل وأن خبرة آلاف السنين هى الأبقى وأن الطبيعة صفة أخرى للنقاء وأن الشفاء فيما أعطاه الخالق بلا تبديل، لكن العلم منحة أخرى للإنسان يجب أن تدعم الطبيعة. قد يكون فى الأعشاب مستقبل الدواء الفعال لكن العلم والتجريب بلا شك يضم أمنه.