من حين إلى آخر، تطفو المقارنة بين عمرو دياب وتامر حسنى على السطح. الجدل المحتدم يعكس بعضا من ملامح الأجيال المنقسمة بين «الهضبة» و«نجم الجيل»، كما كان الصعود المثير للصخب لكليهما يعبر عن معارك تحل فيها تطلعات وأمزجة جديدة محل أخرى قديمة. (المتمرد الشعبى) يغير ملابسه ولا يغير مكانه فى فيلم «آيس كريم فى جليم» غنى سيف (عمرو دياب) أغنية «رصيف نمرة خمسة» التى كتبها له صديقه المثقف المناضل، ورددها بين الناس فى الشوارع مع فرقته، وكانت النتيجة هى التخشيبة. يحكى عمرو دياب فى الفيلم الوثائقى «الحلم» الذى يتناول قصة صعوده وسيرته الفنية: «عندما سمعت كلمات أغنية (رصيف نمرة خمسة) أمسكت العود وتقمصت حالة الشيخ إمام الملحن والمغنى النضالى ولحنتها». ولذلك كانت هذه الأغنية من أغان قليلة تجمع بين الجمهور المخلص لعمرو دياب وبين «الشباب المثقف». ولكن فى الفيلم وداخل التخشيبة تمرد سيف على صديقه وقال إنه سيغنى أغانى بسيطة يشعر بمعناها وسيكون نفسه وهو يشق طريقه. من بين العديدين من محبى عمرو دياب يرى خالد سعيد، المحامى الذى اقترب من أواخر الثلاثينيات، أن الفيلم الذى كتبه الأديب محمد المنسى قنديل وأخرجه خيرى بشارة كان تمثيلا لروح عمرو دياب الصاعدة بين الشباب، ويروى: «الفيلم عرض سنة 1992 سنة تخرجى فى الجامعة. وأنا لم أكن مثقفا ولا لى نشاط سياسى. لم أشعر أن تلك الأشياء تناسبنى ولا شعرت بالقرب من هؤلاء الأشخاص. وكثير من أبناء جيلى يشاركوننى نفس المشاعر. كانت الثمانينيات والتسعينيات سنوات باردة، كنا نسمع عن الأحداث الساخنة فى الستينيات والسبعينيات، ولم تكن تلك الأيام صاخبة مثل أيامنا الآن مع ثورة الاتصالات والفضائيات والإنترنت وكل هذه الأشياء. وسط هذا البرد كنا ننتظر التعبير البسيط الجميل، للحن نصفق ونرقص عليه ونتقافز فى الرحلة والحفلة من غير فذلكة. وعمرو كان دائما من يقدم ذلك». فى الفيلم، يبحث عمرو دياب وفرقته عن فرصة فلا يجدون إلا مسابقة لفرق المعوقين! فيقررون خوضها ولكن فى أثناء الغناء يتخلى عمرو عن تمثيله شخصية ضرير ويخلع نظارته السوداء، ثم يخلع أعضاء فرقته «عاهاتهم»، أحدهم يفك جبيرة ذارعه أو يرمى بعيدا العكاز ويقف على قدمه ويغنى عمرو وهو يرقص وفى خلفيته البحر: «الناس حاسين بالبرد وفى قلبى ده شم نسيم» ويبدو أن المشهد كان بمثابة بيان باسم لجيل وجد فيه تعبيره المميز الملىء بالحيوية وسط حالة من الجمود والتيبس. يتفق خالد تماما مع ذلك: «صحيح فعلا. ولم يقل عمرو دياب البيان بشجن ولا هدوء. غناه وهو يرقص ويتنطط على البحر! وفى نفس الأغنية قال: أنا مش مألوف دلوقتى لكن للجاى مألوف، وهأعاند أيوه هأعاند، دايما من غير تسليم! وفى نفس الفيلم لما غنى (هأتمرد ع الوضع الحالى) لم يكن كلاما فى السياسة بل تمردا عاطفيا فهو يكمل (ومش هأسهر لعنيكى ليالى)!». «ما بلاش نتكلم فى الماضى»! من بين مطربين ظلوا أقرب لظل أسلافهم، انطلق عمرو دياب إلى فضاء جماهيرى أكبر وأوسع. رغم الانتقادات التى طالته باعتباره يقدم أغانى سطحية وألحانا خفيفة وصاخبة ويتقافز على المسرح حتى وهو يغنى عن الشوق والهجر. كان الاتهام الأكبر أنه «موضة» وواجهه به مفيد فوزى فى حوار عام 1989، وكانت إجابة عمرو دياب أنه يتمنى فعلا أن يكون موضة جديدة تجذب الناس ولكن ليس موضة تذهب بلا أثر. «ومالها الموضة؟» يتابع خالد: «الشباب مغرم بمتابعة الموضة والجديد. أذكر أننا كنا نتابع بشغف البرامج القليلة عن الأغانى الأجنبية على القناة الثانية ثم فى الفترة المفتوحة على القناة الخامسة». يضحك ثم يقول: «كانت أيام قحط وجفاف بعيد عنك قبل الإنترنت. ومن طبائع الأمور أن ننظر إلى الغرب الذى يتحرك باستمرار ويقدم الجديد. أعتقد أن عمرو دياب كان يقدم أغانى شبابية شرقية وفيها موسيقى غربية جذابة لكنها لا تجعلك تشعر بأنها غريبة عنك، وفى نفس الوقت كان يمزج من هنا وهناك ويقدم موضة للشباب فى اللبس وتسريحة الشعر وحتى فى الكلام». العديد من الكتب الموسيقية، منها «الموزايك المتوسطى» لجوفريدو بلاستينو اعتبرت عمرو دياب من مؤسسى أسلوب «موسيقى البحر المتوسط» التى تمزج بين «تيمات» شرقية وغربية. فى وثائقى «الحلم» يبدو واضحا من حديث الملحنين والشعراء والموزعين الذين تعاملوا معه أن عمرو دياب لم يكن مجرد مطرب بل قائد فريق عمل. فبالإضافة إلى أنه يلحن أحيانا فهو الذى يختار الأسلوب والوجهة والتناول وهو ما يجعل أعماله حلقات فى «مشروع شخصى» محوره «شخص البطل أو النجم»، لذلك فتراكم أعماله صنع نجوميته بينما تشتهر أغنية أو أخرى لغيره ولكنهم لا يراكمون مثله. كلماته أيضا تم اتهامها بأنها سطحية أو تافهة، على الأقل مقارنة بكلمات «الطرب الأصيل» أو بعض أقرانه ممن يغنون لشعراء العامية المثقفين. كتاب الأغانى الذين تعاملوا معه فى البداية قالوا إنه كان أحيانا يسعى إلى كلمات الأغانى التى لم يقبلها غيره أو استغربوها، فغنى: «وإيه يعنى تودعنى» و«طيب إزيك ما ترد علينا» و«هاتمرد على الوضع الحالى» و«بلاش نتكلم فى الماضى» و«يبقى إحنا كده خالصين». يستشهد خالد بمقولة حلمى بكر فى وثائقى «الحلم»: «عمرو دياب بيسمّع الناس اللى عاوزين يسمعوه، قبل ما يعوزوه». هنا يتدخل ياسر حسن، الذى لا يبدو متحمسا لعمرو دياب بنفس قوة صديقه خالد: «عمرو دياب بياع ذكى. وهو يعرف كيف يسوّق نفسه ويعرف قيمة البروباجندا التى تشغل ذهن الشباب الخفيف الذى تعجبه تيمة موسيقية مميزة على أى كلام، ويا سلام لو كان الكلام أيضا «صايع» أو صادما أو غريبا. وهذا هو ما كان يفعله ولكن فى الأيام الأخيرة يعيش على تاريخه لأن آخرين ظهروا وهم أصغر و«أصيع» منه وشاطرين فى البروباجندا أيضا». يواجه ياسر استهجان صديقه خالد، قائلا: «وثائقى (الحلم) مصنوع كله من وجهة نظر عمرو دياب ومع أصحابه. وهذا الفيلم الذى يذكّر الناس بأن عمرو فعل كذا وكذا يعبر عن قلقه من صعود آخرين، بوضوح: تامر حسنى. وأصلا فكرة المقارنة بينهم هى فكرة ذكية للبروباجندا يتمسك بها تامر وجمهوره للصعود على أكتاف عمرو ومحاولة شغل مكانه». ينفعل خالد ويضحك بسخرية عندما يأتى ذكر تامر حسنى ولكنه يعود ويقول: «ربما، الصورة الكلية لتامر حسنى تبدو فعلا أقرب لشباب اليومين دول الذين يتركون شعرهم ولحاهم وسهتانين شوية وعاطفيين زيادة وأخف كثيرا من جيلنا. لكن عمرو دياب كان صورة أخرى، بطل طول بعرض، شاربه وذقنه يحلقهما جيدا مثل النجوم الكلاسيكيين. يقفز ويتحرك ساعات لكن أحيانا أخرى يكون شابا غامضا هادئا خاصة فى بوستر ألبوماته ينظر إلى الكل بتحد ساخر». يضحك وهو يكمل: «دائما كنت أتصور أن هذه النظرة تجذب الفتيات». من الشاب «الكول» المتمرد فى ثقة الذى يصنع موضة الشتاء ويختار الشكل المناسب للقمصان ذات الأكمام أو الجاكيت الجلد إلى صورة الشاب الذى يكشف عن عضلاته وهو يرتدى ملابس صيفية أو يخلع قميصه نهائيا كما فى بوستر «ليلى نهارى» أو يرقص على موسيقى الهاوس والتكنو فى «وياه»، يتابع عمرو دياب تقمص الصور الأكثر جاذبية للشباب. يتدخل هنا ياسر ساخرا: «صورة عمرو دياب الأخيرة وإصراره على إبراز عضلاته وارتداء ملابس المصيف هى نفسها صورة (فورمة شباب الساحل) التى سخر منها أحمد مكى فى فيلمه طير إنت، ومزيكا التكنو التى أغرق بها أغانيه يحاول بها أن يداعب روح الصيف التى تأخذ الشباب إلى الديسكوهات وأن يجعل أغانيه هى إيقاع الحفلات بعد انتشار الدى جيه الذى يفضل دائما هذه الأغانى المعدنية». «ها تلاقى فين أيامنا» يتراجع خالد هنا قليلا أمام ياسر ويعترف أنه يفضل أغانى عمرو القديمة لأنها أكثر «طزاجة»، ولكنه يقول إنه لايزال سواء بسبب تاريخه أو حاضره متربعا على عرش الأغنية المصرى والعربية وفق كل الإحصاءات ويحق له أن يتسمى ب«الهضبة» وأن يترفع عن أى معارك أو مقارنات. ويضيف: «يحسب له أنه يستميل الملحنين والشعراء والموزعين الشباب لكى يظل دئما قريبا من طريقة تفكيرهم ومزاجهم». ولكن ربما يضعف ذلك من مركزيته فى فريق العمل وفى اختياراته بينما تزيد فرص شاب أصغر مثل تامر حسنى الذى يكتب كلمات أغانيه ويلحنها ويصبغ أغنياته بلمسة مميزة وجديدة فهو ينافسه فى ساحة التعبير الأكثر طلاقة وجاذبية وحداثة. يعلق ياسر: «أنا لا أعرف لماذا لا يعيش الفنانون سنهم ويعبرون عنه. السوق طبعا تتطلب أن تخاطب الشباب فهم الممولون والمهتمون، ولكنى أستغرب صورة عمرو دياب التى تبدو أكثر شبابا منى بينما يقارب عمره الخمسين». ولكن يبدو أن حلم النجومية الممتدة وصورة الشباب الدائم المتجدد والتربع المستمر داخل دائرة الضوء دون صخب وبعيدا عن الإعلام والصحافة لاتزال تعبر عن مزاج آخرين من جيل خالد وياسر أو ما بعده، وربما أيضا من بعض المثقفين الجدد الذين تمردوا على صورة المثقف التقليدية. فالروائى الشاب طارق إمام يحكى فى مدونته أنه كان يواجه باستهجان من كبار المثقفين لو تطرق حديثه إلى عمرو دياب، مفضلين الحديث عن الطرب الأصيل أو التجريبى الحديث. ويعبر طارق عن ارتياحه أنه وجد بين أبناء جيله من المثقفين والكتاب الجدد اهتماما مشتركا بعمرو دياب وأغانيه مهما كانت التحولات، ويعلن عن حبه لعمرو رغم ما قد يراه فيه من «ضعف» تطلعا إلى ما يمثله من حلم: «لم أعد أخجل من الاستفاضة فى الحديث عنه إن أتى ذكره أمام أتخن مثقف مكتئب منكفئ، متضخم، متعالٍ، منحاز للطرب التجريبى أو للغناء الأصيل.. ولا يعنينى أى منهما، أحب عمرو دياب.. مطرب السوق.. الذى يقول كلمات دون معنى أحيانا من قبيل (عودونى عليك أحبك) الذى يتفاخر بعضلاته.. اللى ما قراش كتاب فى حياته.. أحب عمرو دياب الذى يطربنى، والذى تمنحنى قصة حياته أملا. الذى يمنحنى صورة النجم التى أحب أن تكون لى. أحب عمرو دياب.. الأفيش الضخم، الذى لا يبتسم قدر ما يبدو متجهما.. بينما يطل على القاهرة الواسعة بوجدان نازح. للأسف، بدأ عمرو دياب يصير معلنا بين مثقفين جدد، بينما يستعد طابور قادم لإعلان تامر حسنى مطربا لجيل آخر».