ما من أحد يمكن أن يلوم باراك أوباما إذا حصر جهوده فى الأزمة الاقتصادية، ونحى السياسة الخارجية جانبا. وعلى كل حال، هناك قدر كبير من القضايا التى لا يمكن معالجتها معا، إلا بواسطة قوة خارقة. ولكن فى سبتمبر الماضى، عندما أصيب جون ماكين بالهلع، فأوقف حملته الانتخابية، ليعود إلى واشنطن ويتعامل مع الأزمة المالية، رفض أوباما أن يحذو حذوه، قائلا «سيكون على الرؤساء معالجة أكثر من أمر فى وقت واحد». وبهذه الروح، طرح برنامجا للقضايا الداخلية يحمل ملامح طموح الرئيس السابق «روزفلت»، بينما لم ينس أن مهام وظيفته تتطلب أيضا أن يكون فاعلا رئيسيا فى الخارج. ولذلك كله، فقد قام بمجموعة من التحركات على صعيد السياسة الخارجية فى الأسابيع الستة الأولى من ولايته، كان من الممكن أن يصبح أى منها خبرا رئيسيا فى الأوقات الطبيعية. ولكن فى عصر الانهيار الاقتصادى العالمى، كان على هذه التحركات أن تكافح للحصول على ما هو أكثر من إثارة اهتمام وسائل الإعلام. ولعل أكثر هذه التحركات وضوحا، الإعلانات الكبرى؛ سواء إعلان بدء نهاية حرب العراق، والتسليم بأن «الولاياتالمتحدةالأمريكية لا يجب أن تقترف التعذيب»، أو إصدار الأمر بإغلاق معتقل جوانتانامو. وفى الأسبوع الماضى فحسب، أرسلت هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية مسئولين إلى سوريا، كما دعت إيران لمحادثات بشأن مستقبل أفغانستان، فيما يعتبر بادرة حسن نية تجاه بلدين ألقى بهما سابقا فى غياهب التجاهل. ومع بداية الشهر جاء الكشف عن أن أوباما كتب خطابا سريا لنظيره الروسى ديمترى ميدفيدف، ليلمح إلى صفقة تتولى فيها روسيا الضغط على إيران للتخلى عن مسألة الأسلحة النووية، فى مقابل إلغاء الولاياتالمتحدة تركيب نظام الدفاع الصاروخى الذى تعتزمه فى أوروبا الشرقية، الفناء الخلفى لروسيا. وفوق ذلك كله: تحركت إدارة أوباما لتخفيف القيود على التجارة مع كوبا والسفر إليها. وهكذا، ليس هناك أى تقصير فى النشاط. ولكن السؤال الذى يطرح بعد مرور 50 يوما على بدء عمل الإدارة الجديدة هو: ماذا يعنى ذلك كله؟ هل هناك خيط منطقى مشترك يجمع بين هذه التحركات، خيط يمكن أن نصفه، وإن على نحو مبكر، بأنه «مبدأ أوباما»؟. لقد كان أول المواضيع التى تربط بين جميع تحركات أوباما، هو التخلى عن تراث سلفه، واستقر ذلك إثر دقائق من أدائه اليمين الدستورية. وأصر أوباما على أن يرسل رسالة للعالم فحواها أنه «عكس بوش». ويرى البعض، من اليسار واليمين معا أن هذه الرسالة رمزية أكثر منها واقعية، لأن الحقيقة هى أن السمات الأساسية للسياسة الأمريكية، مازالت على حالها. فسوف يحتفظ أوباما بالعديد من القوات فى العراق حتى نهاية 2011، بالضبط مثلما خططت إدارة بوش، كما كثف التورط الأمريكى فى أفغانستان، بإرسال قوات إضافية قوامها 17 ألف جندى؛ وظل روبرت جيتس، وزير دفاع بوش، بمنصبه فى ظل أوباما. وإذا طرحت ذلك أمام فريق أوباما، فلن ينكرونه كلية. فهم يقولون إن الولاياتالمتحدة لم تصبح بلدا مغايرا فى 20 يناير، ومصالحها لم تتغير بين عشية وضحاها. ويسلمون بأن البيت الأبيض فى ولاية بوش الثانية أصبح أكثر «واقعية»، عندما فتح خطوط اتصال مع أمثال «إيران». غير أن الفريق الجديد فى واشنطن يقول إن الاختلاف يتمثل فى أنه بينما «اضطر» رجال بوش للتحول إلى الواقعية بعدما شاهدوا أحلامهم الأيديولوجية تندثر، فإن «هذه هى نقطة انطلاقنا». أما ما لا يستطيع أحد إنكاره، فهو أن للولايات المتحدة مصلحة فى اقتناع بقية العالم أن تغييرا عميقا قد تحقق. الأمر الذى جعل من إعلان جو بايدن أن الولاياتالمتحدة تضغط على «زر إعادة ترتيب الأولويات»، شعار الدبلوماسية الأمريكية. وسوف يكشف أى تقييم سليم لسجل أوباما حتى الآن، ملمحين مبكرين آخرين. الأول هو الاستعداد لقول الحقيقة. فعندما سألته «نيويورك تايمز» فى الأسبوع الماضى عما إذا كانت الولاياتالمتحدة تكسب الحرب فى أفغانستان، أجاب باختصار: «لا». ويبعث هذا الاعتراف على الارتياح، بعد سنوات حكم بوش، عندما كان أولئك الذين يتقصون الأدلة يفصلون من عملهم باعتبارهم حمقى حصروا أنفسهم فى الشعار ضيق الأفق «مجتمع قائم على الحقيقة. وثانيا: هناك دلائل على سعة الأفق. فإرسال جورج ميتشل مهندس عملية السلام فى أيرلندا الشمالية، إلى الصراع الإسرائيلى الفلسطينى، أحد هذه الأفكار التى تبدو واضحة، فقط لأنها ذات مغزى. وينطبق نفس الشىء على تسليم الملف الأفغانى الباكستانى، أو «أفباك» إلى المايسترو الصارم ريتشارد هولبروك. بيد أن الاستحسان يتجه بالتأكيد إلى مخاطبة أوباما لميدفيدف مباشرة، بما تحمله من أصداء قرار جون كيندى بشأن أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. فكما وافق جون كيندى على إزالة الصواريخ الأمريكية من تركيا، إذا سحب الاتحاد السوفييتى صواريخه من كوبا، يقدم أوباما ضمنيا عرضا مماثلا لروسيا: أنتم تدفعون إيران للتراجع، وأنا سأزيل صواريخى الدفاعية ومحطات الرادار من بولندا وجمهورية التشيك. وإذا كان لمثل هذه المبادرة أن تنجح، فسوف تتعدد جهود الطرق على الأبواب. فمثلا: ألمحت إسرائيل طويلا إلى أنه إذا أبعد أصدقاؤها الخطر الإيرانى، فسوف تتجاوب بالمضى قدما فى طريق السلام. ولفترة طويلة، ظل الاعتقاد بأن ذلك يعنى عملا عسكريا ضد إيران. ولكن إذا نجحت مناورة أوباما مع روسيا يدعى النقاد أن جيتس بدأ العمل على هذه الأفكار منذ عام فسوف يتحقق هدف تجميد البرنامج النووى الإيرانى، بكل ما لذلك من مكاسب إضافية، من دون إطلاق رصاصة واحدة. وهذا بالتأكيد هو مبدأ أوباما الحالى: التركيز على ما دعا إليه المرشح أوباما قبل عامين تقريبا «الدبلوماسية الصارمة». وبشكل أوضح، هذا ليس عزفا للحن الحمائم على الجيتار، كما يوضح التصعيد فى أفغانستان على الرغم من أن أحد كبار المسئولين فى الإدارة يحذر من المبالغة فى تفسير هذا التصعيد؛ وإنما هى «عملية كسب وقت» على حد قول المسئول، مؤكدا أن الأمور لا تسير للأسوأ فى الواقع، بينما يجرى البيت الأبيض مراجعة إستراتيجية لمنطقة أفغانستان وباكستان بالكامل، التى يرى أن جميع الأعمال الكبرى التى ارتكبتها القاعدة منذ 9/11، انطلقت منها. وقد شرح لى نفس المسئول مثل هذا الكلام أمس، فقال: «عرقلت إدارة بوش جهودها عندما ربطت إحدى يديها خلف ظهرها. فالدبلوماسية أداة، ولكنهم نظروا إليها بنوع من الشك، كما لو أن من يستخدمونها ضعفاء بدرجة ما. رغم أن استخدامها نوع من الحكمة». وبهذا المفهوم، يصبح كل شىء ممكنا. فقد تحدث أوباما الأسبوع الماضى عن الاتصال بالعناصر المعتدلة من طالبان، التى يمكن الوصول إليها، فيما يشبه إلى حد كبير الحوار مع الميليشيات السنية المماثلة فى العراق، الذى حقق نجاحا فى نهاية المطاف. ولكن فى حين أن فكرة الحوار مع أعداء أمريكا هى التى تصنع العناوين الرئيسية فى الصحف، فالعلاقة مع أصدقاء أمريكا ليست أقل أهمية. وعندما ضغطت على ذلك المسئول الكبير ليحدد مبدأ الإدارة التى يعمل لديها، قال إنه «الاعتراف بضرورة وفعالية العمل الجمعى». وقد بلغنى أن ذلك كان فحوى رسالة بايدن إلى مجلس حلف شمال الأطلنطى فى بروكسل أمس: ليس نوعا من أنواع «التعددية الهزيلة» مع الكثير من اللقاءات الدافئة، والتفاهات، ولكن الرغبة الجادة فى إنجاز الأهداف، والإيمان بأن ذلك يحدث فقط عندما يتحرك العالم فى تناسق منسجم. ولا شك أن هذه هى الدلائل المبكرة فحسب للأيام الأولى. ولكنها دلائل مشجعة من رئيس يقع على عاتقه الكثير من المسئوليات.