جاء موسى نبى اليهودية من مصر، وزار المسيح والعائلة المقدسة أرض مصر، وتزوج النبى محمد من مصر. استقرت الأديان الإبراهيمية الثلاثة على ضفاف النيل حيث آمن المصريون بالأديان وبوجود الخالق منذ فجر التاريخ. تنوعت نظرتهم لذلك الخالق وتعددت أشكاله.. ثم جاء أخناتون يدعو للوحدة، لإله واحد هو الشمس. انتقص ذلك التوحيد من سلطان كهنة الآلهة الأخرى فثاروا عليه، دمروا تل العمارنة وعادوا من عبادة آتون إلى آمون. وعندما أراد الاسكندر أن يسيطر على مصر ويضمن ولاء شعبها دخل معبد آمون فى سيوة وخرج منه ليقول إن الآلهة ظهرت له وأكدت أنه ابن آمون فانحنت له الرءوس وحنّت له القلوب. ****** إن الديانة جزء أصيل من الشخصية المصرية، تعددت أشكالها لكنها تعايشت، وظل المصرى مصريا. وعلى الرغم من تباين الثقافات التى مرت على مصر، فإنه يمكن القول بأن الشعب المصرى فى مجمله واحد الأصل والعرق، وأى تمييز بين أفراده انتهاك واضح لهذه الحقيقة.. ولكن.. ذهبت الكنيسة يوما لأصلى.. توقفت عن الصلاة بسبب شدة الزحام الذى يمنع الروحانية المطلوبة ووجدت نفسى أجول بنظرى فى الوجوه التى حولى.. وإذا جميعهم باستثناء السيدة التى ترتدى زى الراهبات لا يمكن تحديد انتمائهم الدينى من ملامحهم. هذا المعلم جرجس الذى يلبس عمامة وعباءة وقفطانا يشبه بالضبط الحاج عبدالرحيم الفكهانى، وتلك السيدة ذات الطرحة السوداء والملابس الطويلة وتمسك بيدها منديلا أبيض حرفه أسود يمكن أن تكون جدة فاطمة زميلتى فى الدراسة.. والطفل الذى لا يكف عن الحركة أنظر لوجهه فلا أرى أى علامات خاصة تحدد الهوية، لو رأيته فى الشارع لأمكن أن يكون اسمه محمد أو حنا. تساءلت: هؤلاء ماذا ارتكبوا من ذنب حتى يحرموا من بناء كنائس يحتاجون إليها؟ أليسوا مواطنين؟ ******* الحقيقة أنه ليس فى مصر عنصران للأمة، إنهم عنصر واحد لهم نفس الحقوق والواجبات لكلٍ منهم حق إقامة شعائره الدينية فى أماكن لائقة دون تخوف من هجوم أو ترقب. والإسلام يحترم حق المسيحيين فى ممارسة شعائرهم الدينية. يؤكد ذلك عدد من الآيات القرآنية والأحاديث والمعاملات. هذا الحق لا يمارس بالصورة الصحيحة على الرغم من النص الدستورى على المساواة والمواطنة. والفرق شاسع بين إجراءات بناء كنيسة وبناء جامع، فالأول رحلة شاقة قد تستغرق سنوات (بلغت 32 سنة بالنسبة لأحد الكنائس) وتوضع العقبات المتعددة فى طريقها، والثانى يستغرق ربع ساعة، بل إن بناء كباريه أو قهوة شيشة أسهل بكثير من بناء دار عبادة للمسيحيين. فماذا يمكن أن تكون أسباب ذلك التباين فى المعاملة؟ تقتضى الإجابة الإشارة إلى عدد من الحقائق والاعتبارات منها: ابتداء فإنه لا يوجد قانون ينظم عملية بناء دور العبادة، يمنع ويمنح. فالخط الهمايونى ليس قانونا. كلمة «خط» تعنى مخطوط أو «خطاب» وهمايونى كلمة للفخامة مثل إمبراطورى أو ملكى تعنى أنه صادر من صاحب الهمايون «السلطان العثمانى». هذا الخطاب أرسل لولايات الإمبراطورية العثمانية، ومنها مصر، ليؤكد حق مواطنيها المسيحيين فى بناء دور العبادة المسيحية. كان القصد منه التعبير عن تقدير السلطان للدول الغربيةفرنسا وبريطانيا اللتين وقفتا فى صفه فى حربه مع روسيا. وهو لا يضع قيودا أو شروطا إنما الذى وضعها قرار لوكيل وزارة الداخلية سنة 1934. وهى التى يساء استغلالها لعرقلة بناء دور العبادة، وقد سقطت الإمبراطورية العثمانية ومعها ما أصدرت من أوامر وخطابات لكن لايزال البعض يتصور أن أوامر السلطان الهمايونى لابد أن تسرى علينا. يقال كثيرا إن أجهزة الأمن هى المسئولة عن عدم صدور التراخيص والقانون الموحد وذلك بسبب «دواعى الأمن» وهذه مقولة غير صحيحة فقد عايشت شخصيا، عن قرب، جهاز الشرطة وقيادتها، وأعلم تماما مدى الولاء للوطن والمثابرة بل والمعاناة التى يعيشها أفراد هذا الجهاز من أجل توفير الأمن والاستقرار والسلام الاجتماعى. والمسيحيون يمارسون شعائرهم الدينية على أية حال وهذا حقهم حسب تعاليم الإسلام وعندما لا يصدر ترخيص بناء كنيسة فإنهم يمارسونها فى شقق أو فى «بدروم» بعض العمارات (كما كان يحدث أيام الرومان، وهو أمر مشين لا يليق بمصر اليوم). مما يعطى المتربصين بأمن الوطن الفرصة كى يعتدوا عليهم «لأنهم يقومون بعمل غير قانونى» وهذا صحيح. فهم يمارسون الشعائر الدينية بدون ترخيص! هذا الواقع يعنى أن استقرار الأمن هو فى بناء دور العبادة وممارسة الشعائر داخلها فى إطار القانون وليس العكس، وأن رفض بناء دور العبادة هو سبب ما يحدث من شغب. هذه القضية لها أبعاد دولية تتعلق بصورة مصر وتعطى انطباعا خاطئا يوحى بأن القيادة المصرية تفرق بين المصريين وهذا غير صحيح. وقد وصلتنى مثلا من «جمعية المصريين الأمريكيين فى شيكاجو» رسالة تتساءل عن أسباب عدم صدور ذلك القانون. ويلفت النظر أن أعضاء هذه الجمعية أكثرهم من المسلمين وأن رئيسها شخصية قانونية دولية محترمة هو الدكتور شريف محمود بسيونى. إن القضية ليست طائفية بل مسألة قومية، ولا يجوز أن تترك بلا حلول فى وقت ينظر فيه العالم، خصوصا دول المنطقة، إلى مصر كمثل أعلى وقدوة رائدة. إن مصر يجتاحها اليوم حراك سياسى ديمقراطى شامل ويتطلع الجميع إلى مستقبل يكفل الحقوق ويرتفع بمستوى الخدمات على أسس جديدة، مما يستدعى كثيرا من التطوير والتصحيح، ولم يعد هناك مبرر لتجاهل هذه القضية خصوصا أن لها تداعيات إنسانية وسياسية ودولية بعيدة المدى. ****** إن سبب هذه التفرقة فى المعاملة هو ببساطة شديدة ذلك المناخ المريض الذى أصاب العقول بظلمة قاتمة وداهم القلوب بقسوة ظالمة. تغلغل واستقر ونشر وباء التمييز الدينى بين الفئات التى لا تعرف صحيح دينها وتعتقد أن عليها عرقلة بناء الكنائس، وفى غياب القانون تضيع الحقوق. إنها ردة أخلاقية سلوكية أساءت فهم الأديان فاستغلتها لغير ما وجدت له، وأهدرت المبادئ والقيم النبيلة التى جاءت بها جميعا من أجل أطماع السطوة والسيطرة. وباء لابد من تحديد مصادره للقضاء عليه قبل أن يقضى علينا. وأحد وسائل الحد منه هو التصدى له بقوة تعزز هيبة الدولة وشجاعة لا يشوبها تردد أو تخوف، وإصدار ما تتطلبه اعتبارات الأمن والاستقرار والمساواة من قوانين أو تنظيمات. وأخيرا فإنه عندما يصبح قول الحق ودعمه فى حاجة إلى شجاعة فإن هذا نذير بأن هناك خللا ما علينا علاجه.