الحلقة الثانية عبر سطور الكتاب، رحت أفتش عن علاقة الرئيس الراحل بالسيدة الأولى السابقة، ورغم أن فيلم «السادات» الذى لعب بطولته النجم أحمد زكى، وتقاسمت منى زكى وميرفت أمين فيه دور السيدة الأولى فى مرحلتين مختلفتين من العمر، أعطى تصورا واضحا عن هذه العلاقة، إلا أنه يبقى دائما ما يقال، خصوصا إذا كان من يقول هو أحد طرفى العلاقة، وهى هنا زوجة وفيّة لأفكار زوجها وذكراه. لم يكن أنور السادات بحال هو العريس المنتظر، فالعائلة التى تنتمى إلى الشريحة العليا من الطبقة الوسطى المصرية فى ذلك الوقت (أربعينيات القرن الماضى) لم تكن لتسمح باقتران ابنتها برجل يكبرها بسنوات عدة، فقير وقروى ومطارد من القوات الإنجليزية وحرس القصر الحديدى معا، وكعادة العائلات المحافظة فى ذلك الزمن، انشغل الأقرباء والجيران بالبحث عن عريس مناسب للبنت التى خرطها خرّاط البنات، شبان من الطبقة ذاتها. حاصلون على قدر محترم من التعليم، ميسورون، مستقبلهم مضمون.. إلى آخر الصفات المناسبة لأسرة تضم أما بريطانية مسيحية وأبا مصرىا، لكن جيهان رفضتهم جميعا، فقد كان عقلها وقلبها معلقين فى مكان آخر. «خامرنى فى البداية افتتان بأنور السادات، فقد كان بطلا عظيم الشأن، وكنت فتاة صغيرة أحلم بالزواج منه، حتى قبل أن تلتقى عيناى به، وحين التقينا بالفعل فى هذا اليوم المحتوم، وقعنا فى الحب من أول نظرة، وإن كنت واثقة من رفض والدى، السادات بالنسبة لهما فقير ومطلق وسياسى وأكبر منى بسنوات عديدة». حدث بالطبع ما توقعته، ورفض الأبوان العريس الذى دخل البيوت من أبوابها، وبرغم إصرارها على الزواج من بطلها الذى تحب، وبرغم دموعها التى سالت أنهارا لم يغير الأبوان موقفهما، ولم يكن ممكنا للفتاة أن تجاهر أكثر من ذلك برغبتها فى الارتباط بهذا الشخص دون غيره، ولم يكن من تقاليد ذلك الزمن بالتأكيد أن يتزوج المحبان بورقة عرفى أو دون موافقة الأبوين، استسلمت هى، أما أنور فزاد إصراره على الارتباط بها، ونجح فى إقناعهما بأنه العريس الأنسب لابنتهما... «وعليه تزوجت بالرجل الذى اخترته». تقول جيهان السادات: «كان حب حياتى، شريكى الأبدى، كان أنور السادات بطلى قبل أن يصبح زوجى، سجنته السلطات البريطانية بسبب حملاته المتواصلة على البريطانيين، واحتلت محاكمته عام 1948 العناوين الرئيسية للجرائد، وقد تابعت القصة مبهورة الأنفاس، وحين ظهرت براءته سيطرت على البهجة، وما لبثت أن قابلت أنور وجها لوجه مذهولة فى بيت أحد أبناء أعمامى، وعندها وقعنا فى الحب من أول نظرة». تشرح جيهان السادات فى موضع تال لقارئها الغربى أهمية الزواج ودلالاته فى المجتمع الإسلامى الشرقى، والحقيقة أن ذلك أمر متكرر عبر الكتاب حتى تشعر وكأنه الهم الأساسى للمؤلفة: أن تقدم صورة حقيقية عن بلدها ودينها ومجتمعها، بديلا عن تلك المهيمنة على الخطاب الإعلامى الغربى، حتى إنها فى مواضع كثيرة تبدو فى هيئة «داعية مودرن»، خصوصا فى الموضوعات ذات الطبيعة الإشكالية والتى مثّلت ومازالت منصات للهجوم على العقيدة الإسلامية، هنا تتصدى جيهان السادات للهجوم على فكرة تعدد الزوجات وتوزيع الميراث وزيجات الرسول المتعددة وغيرها، وهى حين تفعل ،فإنها تنطلق من أرضية تعكس احتراما كبيرا للحضارة العربية الإسلامية، واعتزازا بالدين الإسلامى، ومصادر تشريعه النقية، وهى تبين فى هذا الإطار أهمية الأسرة فى حياة المجتمع المسلم فى مقابل الفرد فى المجتمعات الغربية....» الناس فى الولاياتالمتحدة وأغلب أوروبا لا يهتمون إلا بالحب والحب فقط (...) أما فى البنية المتشابكة للعائلة المصرية المسلمة والمسيحية، يؤثر الزواج على العريس والعروس وكذا الأسرتين بأكملهما، الذين يدعون لمساندة الزوجين أخلاقيا وروحيا وأحيانا ماديا، وهما يدلفان إلى حياتهما معا». ولا يغيب أنور السادات حين تجتهد جيهان فى هذا الاتجاه، فهى حين تتحدث عن تقديس المصريين للحياة العائلية وتوقيرهم للأكبر سنا، تشير إلى أن زوجها راق له أن يدخن الغليون، ولم تفلح كل المحاولات التى بذلوها معه فى تغيير عادته تلك، ولا حتى المتاعب الصحية التى واجهها فى بعض الفترات، إلا أن سببا وحيدا كان يحرمه من غليونه، حين يكون فى حضرة أبيه... «لم يكن يدخن أمام أبيه ولا حتى عندما صار رئيسا (...) والحق أن الأهمية البالغة وقدسية الحياة العائلية المصرية هى أساس وطيد ترتكز عليه بلادى». بعد الرحيل تحت هذا العنوان «وحدى»، تحدثنا جيهان السادات عن الكيفية التى واجهت بها الحياة بعده، وقد كان متوقعا وفقا لتقاليدنا المصرية، أن يتولى الابن الأكبر «جمال» رعايتها، لكن السيدة التى عاشت شطرا طويلا من عمرها تطالب النساء المصريات بالاعتماد على أنفسهن لم تكن لتقبل أن يتولى أى من أبنائها رعايتها والإنفاق عليها برغم أنها حسب قولها كانت ملتزمة بتسديد بعض الديون التى ورثتها عن زوجها الراحل. وقد كان لدى جيهان السادات طوال حياة زوجها وبوصفها سيدة أولى وناشطة نسوية ما تفعله، خصوصا وأنها انخرطت فى عديد من الأنشطة الاجتماعية والمشروعات الخيرية بدأتها فى جمعية تلا بقرية ميت أبو الكوم، حيث تم شراء عدد كبير من ماكينات الخياطة تدربت نساء القرية عليها ونجحن فى تحقيق نتائج جيدة وبيعت منتجاتهن فى القاهرة، وصار لهن لأول مرة دخل خاص، كما حاولت أن تطبق شيئا مما رأته فى رحلاته الخارجية، فأسست ثلاث قرى لرعاية الأطفال الأيتام، يعيش الأطفال فيها ضمن مجموعات فى منازل آباء بالتبنى. انتهى ذلك كله بوفاة أنور السادات وكان عليها إذن أن تواجه الحياة منفردة...« فجأة أصبحت أرملة، واضطررت أن أواجه الحياة وحدى، التى اختبرتنى بأكثر مما كنت أتخيل، ولطالما شعرت بالفجيعة والخوف. مات أنور ومات معه جزء منى». تضيف: «تحت الضغوط والادعاءات الكاذبة التى انطلقت ضد عائلتى بعد اغتيال أنور، رجانى أبنائى أن أترك أغلب مشاريعى المدنية، إذ لم يتحملوا فكرة تعرضى للضغوط والاتهامات الكاذبة، ولم أكن أريد أن أزيد معاناتهم عما هى عليه، كانوا يريدون حمايتى وأردت فعل الشىء نفسه، لكن أن أترك العمل الذى أحبه، والذى كان طوال زواجى مميزا لى فهذا مؤلم، شعرت بأننى تائهة وبلا فائدة، أنهكنى الحزن، بل كاد يسيطر على، عرفت أننى بمثل ما فقدت أنور، فإننى لا أستطيع الحياة كأرملة رئيس مصر الراحل، يجب أن أجد طريقة تساعدنى على التحول، يمكننى أن أتحول من كونى شريكة أو نصف فريق إلى أن أكون بمفردى، كنت أصلى لعل شيئا ما يأتينى ليساعدنى على إجابة سؤال: ماذا بعد، ولم أكن أتوقع أن تعرض على وظيفة تدريس فى الولاياتالمتحدة». لكن الحياة فى الولاياتالمتحدة لم تكن بالسهولة المتوقعة، كان على السيدة التى عاشت دوما فى ظل رجل تحبه وفى إطار أسرة متماسكة، وفى أجواء لا تمنحها فرصة أن تفعل شيئا بمفردها، أن تلبى حاجاتها بنفسها، بدءا من التسوق لشراء احتياجات المنزل المعتادة، وحتى مواجهة ما كان يتردد من أكاذيب وشائعات عنها وعن زوجها وتصلها أصداؤها فى أمريكا، ولفترة طويلة كانت تفكر بالعودة إلى مصر، أن تحزم حقائبها وتعود للقاهرة... «لكن التفكير فى أنور منعنى من ذلك، لأنه شجعنى دائما أن أفكر فى نفسى، وأن أعبر عن أفكارى وأن أكون مستقلة، لم يحاول أن يحجبنى أو يخذلنى كما كان يفعل الكثير من الرجال العرب من أبناء جيله، كنت أعلم أنه كان فخورا بى (...) ذكرياتنا عن حياتنا معا ساعدتنى على الاستمرار». هكذا حاول أنور السادات أن يبرهن منذ البداية على اختلافه عن سلفه الرئيس جمال عبدالناصر، فأعطى مساحة لزوجته إلى جانبه، وفى الحفل الأول الذى أقيم فى قصر عابدين لأعضاء السلك الدبلوماسى المعتمد فى القاهرة، وظهرت فيه جيهان السادات كسيدة أولى، لم يدع الرئيس السفراء فقط بل دعا أيضا زوجاتهم، وهو ما لم يكن متعارفا عليه فى ذلك الوقت، كان تمهيدا لفعل ثورى آخر، حيث دخل الرئيس المصرى قاعة الحفل وبجانبه زوجته. تصف جيهان هذه اللحظة: «خيم الصمت والذهول على الضيوف عندما شاهدونا، ليعلن أنور بهذا الفعل البسيط وعلى الملأ، أن رئيس مصر، القائد الجديد فى العالم العربى مؤيد وداعم للمساواة بين الرجال والنساء قولا وفعلا، كنت أسبح فى الهواء فخورة ببيان زوجى للعالم». ثمة قصة طريفة أخرى تتعلق بقصر عابدين، تذكرها جيهان السادات فى موضع آخر من الكتاب لكن لا بأس من ذكرها هنا، تقول: «سوف أتذكر دائما زيارتى الرسمية الأولى لقصر عابدين، المقر السابق لعائلة مصر الملكية. فيما كنت أتجول به، لاحظت علامات على الحائط، حيث علقت الصور فى يوم من الأيام، تملكنى الفضول فسألت أحد حراس القصر، كاشفنى بأن لوحات ملوك وملكات مصر السابقين غطت الحائط ذات يوم، أما وقد انتهت الملكية الآن، فخزنت فى بدروم القصر، طلبت إعادة كل الصور إلى محلها الأصلى، وافق أنور على تعليماتى، والحق أنه أدرك بغريزته أننا لا يمكننا التخلص من جزء من تاريخ أمتنا فى البدروم». السلام إيمان جيهان السادات بالسلام يبدو عقيدة راسخة، برغم أن ما تحقق منه لم يرق إلى ما طمح إليه الرئيس الراحل، وبرغم الطعنات التى تتلقاها الفكرة كل يوم من جانب الشريك الأصلى فى العملية السلمية «إسرائيل». ثمة نقطة مثيرة هنا لا أعرف إن كانت قد ذكرت من قبل أم أن جيهان السادات تكشف عنها للمرة الأولى، وهى تؤكد أن الرغبة فى عقد سلام مع إسرائيل وتجنيب مصر والبلدان العربية ويلات الحروب بدأت باكرا جدا، فى أعقاب وفاة الرئيس عبدالناصر مباشرة، بما يعنى أن دخول مصر فى مواجهة عسكرية مع إسرائيل فى أكتوبر 1973 لم تكن لتقع لو وجدت دعوة السادات المبكرة آذانا صاغية من الأمريكيين. تقول: «كان السادات جادا فى إقرار السلام، ففى يوم جنازة عبدالناصر أرسل رسالة إلى الرئيس نيكسون من خلال مبعوث الأممالمتحدة إليوت ريتشاردسون قال: قل للرئيس نيكسون إننى مستعد للسلام، انتظر أنور لكنه لم يتلق ردا من الحكومة الأمريكية، فبسبب هزيمتنا فى حرب يونيو 67 وبسبب الحرب الباردة لم يكن أحد مستعدا لتصديقنا». ومنذ وقت مبكر جدا أيضا، وبسبب وجوده بالقرب من الرئيس عبدالناصر وفى المطبخ السياسى المصرى، أدرك السادات أن الاتحاد السوفييتى إلى زوال، وأن قوة وحيدة ستسيطر على العالم هى الولاياتالمتحدةالأمريكية. كان هذا ما قاله للكاتب الصحفى الكبير أحمد بهاء الدين قبل سنوات طويلة من انهيار الاتحاد السوفيتى حين طلب منه تحديد القوى العظمى فى العالم، ولم يتردد بهاء فى القول أنها أمريكا والاتحاد السوفيتى فقال له السادات: هقول لك كلمة تحطها حلقة فى ودنك، هناك قوة وحيدة فى هذا العالم هى الولاياتالمتحدةالأمريكية. وحين تحقق السلام اعتبرته جيهان قمة إنجازات زوجها ووهبت حياتها للرسالة ذاتها... «لقد وصل زوجى إلى ذروة إنجازاته الدنيوية عندما حقق السلام لمصر، وعندما فقدته، سلب منى الإحساس بغيابه الأمل تقريبا، وصدم قاعدة إيمانى، فعزلت نفسى، فاقدة حماستى غير العادية، ولكن بفضل دعوات ومساندة أسرتى، أعدت اكتشاف نفسى ومهمتى، مواصلة رسالة السلام التى فقد زوجى حياته من أجلها، فأنور غائب جسديا لا أكثر، وظللت لسنوات أبذل قصارى جهدى لتخليد سيرة أنور السادات ونشر رسالته ورسالتى بأن السلام بين العرب وإسرائيل ممكن، وكذلك أيضا السلام بين الإسلام، العقيدة التى تمنحنى القدرة على البقاء وتوضح هويتى، والغرب، السلام بين الأفراد العاديين الذين نسوا كما نفعل أحيانا، إن الآخرين الذين يظهرون أو يتحدثون أو يصلون على نحو مختلف عنا يشتركون معنا فى الإنسانية».