حلقة (6) يواصل الكاتب الصحفى خالد أبوبكر البحث فى يوميات ثورة 1919 وعلاقتها بشهر رمضان الكريم، من خلال كتابه الجديد «رمضان والثورة».. وتستعرض «الشروق» فى هذه أوضاع الثوار المصريين فى رمضان وكيف تعامل معهم الاحتلال الإنجليزى، الذى لم يكن يأبه بحال لأيام الشهر الفضيل وما فيه من رمزية فى نفوس جميع المصريين. جاء شهر رمضان الأول بعد ثورة 1919، وكل قرية وكل حى أو شارع أو حارة فيه شهيد أو سجين على ذمة محاكمة عسكرية، فمنذ 15 مارس أى بعد 5 أيام من قيام الثورة شكل الاحتلال المحاكم العسكرية لمحاكمة الثوار؛ لكن أحكام هذه المحاكم التى كانت تصل حد الإعدام لم تقتل روح الفداء فى نفوس هؤلاء المصريين. جاء رمضان والمحاكم العسكرية فى كل مديرية من مديريات المحروسة معقودة، وهذا إن دل فيدل على أن دور الأقاليم فى الوجه البحرى والصعيد فى الثورة لا يقل أبدا عما جرى فى القاهرة؛ ذلك أن الكل كان يتسابق فى قطع المواصلات على الإنجليز والهجوم على مصالحهم فى البلاد؛ لجعل الإنجليز يدركون أن كلفة بقائهم فى مصر أعلى من خروجهم منها، وأقدموا على مثل هذه الأعمال بوازع من وطنيتهم وثوريتهم النقية. وفى سياق المحاكم العسكرية فى شهر رمضان يعرض الكاتب خبرا مقتضبا نشرته جريدة «مصر» فى رمضان وقالت فيه: «ما برحت المجالس العسكرية منعقدة فى الواسطى والفيوم وبنى سويف والمنياوأسيوط لمحاكمة المتهمين بالاعتداء فى حوادث المظاهرات الماضية، وإلى الآن لم تفرغ من عملها. وقد تعطلت جلساتها أمس إكراما لعيد ميلاد جلالة الملك جورج»، وأسفل هذا الخبر نشرت آخر أكثر اقتضابا منه يقول «استدعى كثير من كبار الموظفين والقضائيين والإداريين فى المنيا لسماع شهاداتهم أمام المجلس العسكرى هناك». وجاء شهر رمضان بعد أن قدمت مصر 3000 آلاف شهيد حسب تقدير المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعى، وبخلاف هؤلاء كانت المشانق معلقة فى كل مدينة شهدت مقاومة لقوات الاحتلال، وطالبت بالجلاء، ومن كان سعيد الحظ ونجا من الشنق، ابتلى بالسجن المؤبد أو حتى بالجلد. وإذ كانت البلاد تحت الأحكام العرفية البريطانية، فقد كانت المحاكمات كلها عسكرية، وتمت أمام محاكم عسكرية بريطانية، وقسمت السلطة العسكرية القطر إلى عدة مناطق، لكل منها محكمة عسكرية، وعينت فى كل منطقة ضابطا أو عدة ضباط سياسيين بريطانيين لجمع التحريات والأدلة ضد من رأت اتهامهم فى حوادث، حتى عينت وزارة محمد سعيد باشا، فاتفقت مع السلطة البريطانية على وقف المحاكمات العسكرية، وإحالة من لم يحكم عليهم من المتهمين إلى المحاكم الجنائية المصرية، على أن هذا الوقف كان مؤقتا. وأول حكم بالإعدام نشرته الصحافة المصرية فى شهر رمضان كان الحكم الصادر ضد البكباشى محمد كامل محمد، مأمور بندر أسيوط، لاتهامه بالتحريض على مهاجمة البريطانيين وتسليحه عددا من الثوار ببنادق البوليس والخفر، مما شجعهم على الهجوم الذى جرى على الحامية البريطانية فى أسيوط، بحسب أبوبكر. وقد حاولت وفود عديدة سافرت من أسيوط إلى القاهرة لتخفيف الحكم عن هذا البكباشى، لكن لم تفلح مساعيهم وكان الأمر يحتاج إلى تصديق الحاكم العسكرى البريطانى، فقام بالتصديق، ونفذ فيه الحكم رميا بالرصاص يوم الثلاثاء 12 رمضان 1337ه (10 يونيو 1919). ونشرت جريدة «المنبر» خبر إعدام البكباشى كامل بعد إعدامه بيومين قائلة: «صدر بلاغ رسمى أعلن فيه أن البكباشى محمد كامل أفندى، مأمور بندر أسيوط حوكم أمام مجلس عسكرى بتهمة التحريض على الاعتداء على الإنجليز، وتسليح العامة ببنادق البوليس والخفراء فى 23 مارس، أى فى اليوم الذى حصل فيه الاعتداء على القوة الإنجليزية بأسيوط، وقد حكم عليه بالإعدام، وصودق على الحكم، ونفذ فى 10 الجارى (يونيو) الساعة الرابعة و45 دقيقة صباحا». قضية ديروط وديرمواس يقول خالد أبو بكر فى كتابه إنه يمكن اعتبار أن أهم المحاكمات التى انتهت فى شهر رمضان الأول بعد ثورة 1919 أمام المحاكم العسكرية البريطانية هى القضية الشهيرة بقضية «ديروط وديرمواس» وهى التى حوكم فيها عدد من المصريين لاتهامهم بقتل 8 ضباط وجنود بريطانيين فى القطار بديروط وديرمواس يوم 18 مارس 1919، وهى أشد وقائع الثورة عنفا، وقد بلغ عدد المتهمين فيها 91 شخصا منهم عدد من الأعيان وذوى الأملاك وأبنائهم وذويهم، وثلاثة من ضباط البوليس، وعمدة وشيخ بالمدينة، ومحام، ومدرس، و4 من الطلبة، وجمع من المزارعين والصناع. كانت تهمتهم التى قدموا بها إلى المحاكمة أنهم فى يوم 18 مارس 1919 بديروط وديرمواس قتلوا أو ساعدوا على قتل بعض الضباط والجنود البريطانيين بالقطار، وأنهم تجمهروا مسلحين بالنبابيت والعصى والطوب وأسلحة أخرى، بقصد مهاجمة البريطانيين الذين قد يتواجدون فى القطار عند وصوله إلى ديروط وديرمواس. وبدأ نظر هذه القضية أمام المحكمة العسكرية البريطانية العليا التى انعقدت بأسيوط وانتهت المحكمة يوم 21 رمضان 1337ه ( 19 يونيو 1919)، وقضت بالإعدام على 51 شخصا، وعفا القائد العام عن واحد منهم، وعدل عقوبة الإعدام إلى الأشغال الشاقة بالنسبة إلى 10 متهمين، وبعد وساطة رئيس الوزراء محمد سعيد باشا، عدلها أيضا بالنسبة لستة آخرين، ونفذ حكم الإعدام فى الباقين.