لا شك أن سمات الاستهانة بتقاليد المجتمع وأعرافه تدل على تغير واضح فى الأخلاقيات. وسبق أن طرحت فى كتابى «ثقوب فى الضمير» أن الضمير فى مصر يعانى من ثقوب كثيرة تجعله لا يحمى المصرى من القيام بأعمال منافية لأخلاقيات المجتمع. وهذه الظواهر تنم عن أن المصرى يعيش فى جزيرة منعزلة ولا يهمه إلا ما يحدث داخل بيته. أزمة القمامة فى الشوارع أكبر دليل على ذلك. المصرى يقول: المهم الشقة نظيفة. وأهم مكونات الصحة النفسية أن يتمركز الإنسان حول الآخر وحول المبدأ وحول الدين ويبعد عن التمركز حول الذات. هل هى أزمة ضمير فقط؟ الضمير هو النفس اللوامة. وهو ينشأ على فكرة الخير للخير وليس لأخذ الثواب. وهذا الثقب فى الضمير ارتبط بظواهر أخرى مثل اللامبالاة وعدم الانتماء وفقد هيبة الدولة وعدم الثقة فى مؤسسات المجتمع الأمنية والحكومية والحزبية. هل المشكلة إذن أزمة ثقة بين الدولة والمواطن أم أن مرض السلطة انتقل إلى المصريين؟ كلما أحس الفرد بالخوف من الرقابة والقهر من القمع وأنه ليس له دور فى المجتمع وأن كل من فى الحكم جاء عن طريق انتخابات غير نزيهة ولا يوجد تبادل للسلطة والمساءلة على الفقير فقط، كلما كان سلوكه أنانيا يحاول أن يأخذ حقه بنفسه. دروس العنف اليومية أعلم أنك لا تحب أن تعمم على أى شعب سمات خاصة، لكن أليست الصفة الغالبة اليوم على المصريين هى العنف؟ المصرى كانت سماته سابقا تتسم بالوسطية وحب الغير وروح الدعابة والطيبة والمرونة. لكن تغير الظروف منذ قيام ثورة يوليو جعلت المصرى اعتماديا على المسئولين فى طعامه ومسكنه ووظيفته وترك تماما إحساسه بالانتماء والوطنية فجعل من الحاكم نصف إله يتحكم فى مصيره. والشعب كالطفل إذا احترمناه وأعطيناه المسئولية والثقة بالذات يبدأ فى النضوج والتحلى بالأخلاق الكريمة. أما إذا حدث القهر والقمع والفقر والبطالة وغياب القدوة، لا شك أن الأخلاقيات تتغير، وهذا ما حدث فى مصر. قد لا يتذكر الناس أن المصرى كان يتذوق الجمال فى الأدب والشعر والسينما والموسيقى. كان هناك فارق فى اللغة واللهجة والعواطف وكان الإعلام فى السابق موجها ثقافيا. أنا فاكر عندما كنت طالبا فى كلية الطب كنت أخرج من السينما لأجد سيارات تغسل الشوارع بالماء والصابون، دلوقتى المصرى لا يغسل نفسه بالماء والصابون. العولمة جعلت الناس تشوف الفضائيات. والأخبار كلها زلازل وحروب وتعذيب، كله نكد، ويزيد عليها أفلام مليئة بالعنف والقتل. الأبحاث الحديثة تقول إن الطفل الأمريكى يرى قبل سن 10 سنوات ما لا يقل عن 10 آلاف حادث قتل ودم. وفى مصر الأطفال يشاهدون التليفزيون أكثر بكثير من أمريكا فممكن نتصور مدى تشبع الطفل وتقبله القتل بل والإقدام عليه. هل هذا ما دفع بالأطفال إلى اقتحام الأقفاص فى حديقة الحيوان وإخراج الحيوانات وطاردتها؟ توجد عملية نفسية اسمها الإزاحة. اللواء يشتم الملازم والملازم يشتم الشاويش والشاويش يشتم العسكرى والعسكرى يشتم زوجته والزوجة تشتم الأطفال والأطفال يرمون القطة من الشباك. عندما يشعر الإنسان بالكبت والظلم وعدم احترام آدميته فإنه يمارس نفس السلوك ولكن بطريقة مختلفة. الطفل لما ينط ويقرر يعذب الحيوانات فى هذه اللحظة يشعر أنه مغلوب على أمره، كل شىء يؤخذ منه بالقوة فيصبح فى حالة مشوشة يريد إثبات ذاته بطريقة أخرى تعويضا عن إهدار كرامته وطفولته. حادث وكيل الوزارة هل الحادث الذى تعرض له وكيل وزارة الإعلام عندما دهسه تباع سيارة ميكروباص حادث مرورى عادى أم يستحق الوقوف عنده؟. هذا مؤشر خطير على غياب للدولة أو احترام للآخر، إذن فأى شىء مسموح به. غالبا ما يكون هذا الشخص متبلد المشاعر، اندفاعى وغير أخلاقى لا يحترم القانون ولا يؤمن بالعدل وأصبح يعيش لملذاته الخاصة مع الاستهانة بأى نوع من القيم الأخلاقية ويعرف أنه فى الأغلب سيهرب من هذه الجريمة دون عقاب. دا واحد بقاله 10 سنين من غير رخصة. غالبا ما تتواكب حوادث الطرق مع تعاطى المخدرات، وأحد الأبحاث التى أجريت فى مصر توصلت إلى أن 70% من سائقى سيارات النقل العام يتعاطون الحشيش أو البانجو أو الحبوب المخدرة. هذه نسبة خيالية تؤدى إلى تنميل العواطف والاندفاع، لأن إدارة الغضب تحتاج إلى مخ ويقظة وبالتالى إذابة الضمير. وهنا تكمن المعادلة الصعبة: محاولة الالتزام بالقيم والأخلاق فى حين أن كل المجتمع متسيب. والنتيجة الحتمية هى الخلل فى الصحة النفسية ما يؤدى إلى قلة المناعة وبالتالى إلى أمراض السكر والقلب والسرطان وكل ما نسمعه عن صحة المصريين. مواسم التحرش كيف تفسر تحول المناسبات والأعياد إلى مناسبات للتحرش، فالإحصاءات تتحدث عن 20 ألف جريمة يتم الإبلاغ عنها سنويا؟ آخر الإحصاءات تقول إن من 80 إلى 85% من السيدات والآنسات يتعرضن للتحرش الجنسى بجميع أشكاله وحوالى 72% منهن محجبات. وحسب تقارير لمنظمات عالمية فإن أكثر بلد يتعرض فيه السياح للتحرش هو مصر. إذن هناك خلل بين ظاهرة الخطاب الدينى التى تعتمد على المظهر مع غياب الجوهر. يعنى فى السنوات الأخيرة شاعت البرامج الدينية وأصبح المصرى بحاجة إلى فتاوى للأكل والشرب والنظافة وعمليات سلوكية ليس لها قيمة. هذا تواكب مع زيادة غطاء المرأة وعدم وجود الإمكانات الاقتصادية للزواج. كل ذلك جعل الشاب فى حالة كبت يجد أن فى هذا العمل المنافى طريقة لإشباعه. فى العيد يزيد الازدحام وفرصة الاختلاط وأيضا فرصة ظهور الكبت. فالذى يمارس التحرش يعتقد أنه يقوم بمغامرة، يحس بلذة جنسية أو إشباع عندما يلمس أو إشباع امرأة أو عندما يقول لفظ جنسى. تحول المواطن العادى الذى يعتمد على الظروف. إذا تحمل الكثير من الآلام فإنه قد يخرج عن سماته الشخصية فى أى لحظة مثل أن يلقى الطوب مثلا فى مباراة لكرة القدم فيتوحد مع غضب الآخرين ويتبع الهيستريا الجماعية. الدول لا تنهض بالاقتصاد كما قال أوباما وإنما بأخلاق مواطنيها.