خروج الفرنسيين من مصر عدل من صيغة الحكم لتحل النخبة المصرية محل المملوكية الثورة العرابية طالبت بالتمصير الكامل لأجهزة الدولة وتنظيم ديمقراطي ضد استبداد الخديو 1919 كانت ثورة معلنة ضد الاحتلال البريطاني والاستبداد في نظام الحكم الفردي يوليو 1952 استقلت في سياستها الخارجية ضد الدول الاستعمارية لكنها أنكرت الديمقراطية وأقامت نظام حكم مستبد ثورة 25 يناير جمعت بين مطالب السياسة المستقلة الوطنية والأسلوب الديمقراطي بغير انفصال تبدأ "الشروق" من اليوم وعلى مدار شهر مارس عرض مجموعة من الكتب، الحديثة والقديمة، التي تروي جوانب مختلفة لتأريخ وتوثيق أحداث ثورة 1919 من الأسباب إلى المآلات. وأول كتاب نتجول بين صفحاته هو ترجمة كاملة لوثيقة إنجليزية عن أحداث ثورة 1919 ضمن الأرشيفات الوطنية للمملكة المتحدة في لندن، ينتمي إلى وزارة المستعمرات في مجلد بعنوان "لجنة ملنر 1919-1920". لجنة ملنر هي لجنة شُكلت في 22 سبتمبر 1919 من قبل الحكومة البريطانية، للوقوف على أسباب ثورة 1919 في مصر. المجلد الأصلي يسجل الأحاديث التي أجراها أعضاء اللجنة مع شخصيات ذات نفوذ في مصر، وداخل المجلد وثيقة مكونة من 70 صفحة فولسكاب مكتوبة على الآلة الكاتبة عنوانها "الأحاديث التي أجراها اللورد ملنر خلال رئاسته اللجنة الخصوصية المنتدبة لمصر". الكتاب هو أحدث ما نشر في السوق المصرية عن ثورة 1919، صدرت طبعته الأولى عن دار الشروق 2019، ويقع الكتاب في 173 صفحة، من القطع المتوسط، أعدته وحررته منى عبدالعظيم أنيس مديرة قسم التحرير بدار الشروق، وترجمه للعربية د. صلاح أبو نار، وكتب مقدمته المفكر والمؤرخ المستشار طارق البشري. ************* في مقدمته يعرف البشري ثورة 1919 بأنها الثورة الثالثة من خمس ثورات عرفها تاريخ مصر المعاصر منذ بداية القرن التاسع عشر حتى الآن. أولى هذه الثورات ما أسفرت عنه حركة المصريين عند مقاومة الغزو الفرنسي، وخروج الفرنسيين من مصر، وما أسفر ذلك عنه من تعديل صيغة الحكم بعدها (....) إلى صيغة جديدة حلت فيها النخبة المصرية التي قاومت الغزو الفرنسي وشاركت في طرده، حلت محل النخبة المملوكية السابقة. وثانية هذه الثورات جاءت في 1881 و1882بما سمي بالثورة العرابية التي قادها، أحمد عرابي، وجاءت بالمطالبة بالتمصير الكامل لأجهزة الدولة المصرية مع المطالبة بتنظيم ديمقراطي ضد استبداد الخديو، وذلك تحت شعار مصر للمصريين. ثم جاءت ثورة 1919 التي أجمع عليها المصريون لتطالب بالتحقق السياسي الأمثل لاستقلال مصر من الهيمنة البريطانية وكانت بريطانيا مع بدء الحرب العالمية الأولى سنة 1914 قد أعلنت عزل مصر عن الدولة العثمانية وفرض الحماية البريطانية عليها، فلما انتهت الحرب انتفض الشعب المصري بثورته طالبا الاستقلال التام وبناء نظام دستوري ديمقراطي، يقوم على أن تكون السلطة السياسية مصدرها الشعب، فصارت ثورة معلنة ضد الاحتلال البريطاني ومتضمنت إنهاء الاستبداد في نظام الحكم الفردي، فجاءت هذه الثورة لتحيي من جديد في التطبيق الأمثل المرتجي شعار ثورة عرابي "مصر للمصريين" ضد الاحتلال الانجليزي، الذي أفشل الثورة السابقة وضد سلطة الاستبداد السياسي الذي فتح الباب للغزو البريطاني. رابع هذه الثورات، هي ثورة 23 يوليو 1952 بالقوات المسلحة المصرية وحدها لتستبدل بالنظام الملكي نظاما جمهوريا ولتخرج الانجليز من مصر بقواتهم العسكرية ونفوذهم السياسي ولتتبع نظاما استقلاليا في سياستها الخارجية ضد تحالفات الدول الاستعمارية (...) لكن ثورة 1952 أنكرت تماما المطلب الديمقراطي وأقامت نظام حكم مستبدا يلغي تماما أي نشاط مؤسسي أهلي شعب بعيد عن السيطرة الشاملة لأجهزة الحكومة عليه. وبحسب البشري فإن التجربة التاريخية دلت على إنه أن أمكن تحقيق الاستقلال الوطني بغير الطريق الديمقراطي فإنه يستحيل ضمان بقائه بغير هذا الطريق، وردت هذه التجربة مصر إلى فلسفة ثورة 1919 بجمعها بين مطالب السياسة المستقلة الوطنية وبين الأسلوب الديمقراطي بغير انفصال. وهذا ما سعت للقيام به ثورة 25 يناير 2011 الثورة الخامسة بجمعها بين هذين الهدفين وتركيزها على البعد الديمقراطي بحسبانه الهدف الغائب المستبعد تماما من خمسين سنة سابقة، وكان ذلك قبل أن توأد الثورة بما تلاها من أحداث. ثورة 1919 والمكاسب الوطنية : يمضي البشري في تقديمه باستعراض المكاسب الوطنية التي حققتها ثورة 1919، فيقول "لم تمض ثلاث سنوات على شبوب ثورة 1919 الشعبية إلا وكانت قد حققت كسبا وطنيا، كسبا لم يكن كاملا ولكنه تصريح سياسي واعتراف جهير يصدر من بريطانيا العظمى، أقوى دول الأرض وقتها، وبعد خروجها من حرب عالمية ضروس منتصرة انتصارات كاملا، تصريح صدر منها على خلاف رغبتها وعلى خلاف سعيها السابق، يعترف لمصر بالاستقلال عنها، مع أربعة تحفظات تمسكت بها في تصريحها تتعلق بضمان مواصات بريطانيا في مصر وبالدفاع عنها ضد أي اعتداء أجنبي وحماية المصالح الأجنبية بها وبالسودان. وقد بقيت الحركة الوطنية الشعبية المصرية تمارس ما اعترف لها من استقلال دون أن تعترف هي رسميا بهذه التحفظات الأربعة حتى سنة 1936 عندما وقعت حكومة الوفد معها المعاهدة، وهي ذات المعاهدة التي ألغتها حكومة الوفد بعد 15 عاما في أكتوبر 1951. ولم تمض سنوات أربع من بدء الثورة حتى كان قد صدر دستور سنة 1923، وهو دستور أبقى على سلطة الملك الفلعية في العديد من مجالات السلطة والنفوذ، إلا أنه أوجد شركة في السلطة بين الملك من جانب وبين من يستطيع في الانتخابات أن يصل إلى تشكيل الوزارة والحكم من خلالها. القوة الشعبية كثمرة ل1919 ويرى البشري أن الثورة أسفرت عن قيام قوة شعبية نظامية ومؤسسية جديدة، تمثل الأمة المصرية تمثيلا صحيحا ويتجسد فيها هدفا الثورة الوطنية والديمقراطي للسهر على تحقيقهما، وهي تشارك في السلطة أحيانا من خلال الانتخابات وبالصراع السياسي على المدى المستمر، فلم يعد الحكم شرطة فقط بين الملك المستبد وسلطة الاحتلال البريطاني الفعلية، لم يعد شركة بين هؤلاء وحدهما، إنما أوصل إلى المشاركة معهما أو الصراع معهما سلطة ثالثة تمثل الأمة المصرية بمطلبي الاستقلال والديمقراطية وحكم الشعب نفسه بنفسه لثلاثين سنة تالية. لم تسفر أي ثورة من ثورات المصريين المشار إليها فيما سبق عن ناتج كهذا الناتج في الحياة السياسية المصرية، ونحن نعلم وقد أثبتها في دراسات سابقة، مدى نفوذ جهاز إدارة الدولة في مصر وميله إلى السيطرة الكاملة الشاملة بغير تحد له ولا نقد فعال ولا منافس ولا ضاغط عليه من أجهزة وتشكيلات شعبية أهلي لا تنتمي إليه ولا يسيطر عليها من الناحية التنظيمية. وهذا يظهر أن تنظيم الوفد المصري كان تنظيما غير مسبوق في الحياة السياسية المعيشة في مصر على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين، مذ تكونت الدولة الحديثة، ولم يكن له لاحق حتى الآن. وكان هذا من ثمار ثورة 1919 وهو تنظيم كان إبان وجوده يعكس ما أمكن أن نسميه بالتيار السياسي الأساسي في مصر، بما جمع بين هدفي الاستقلال والديمقراطية، وبما عارض من احتلال أجنبي واستبداد داخلي. الوجود الإنجليزي والإدارة من خلال المستشارين: كان الوجود الإنجليزي في مصر يعتمد على وجود عسكري فعلي، وهم لا يديرون أجهزة الدولة بأنفسهم باسمهم كمستعمرة، إنما يديرونه بأجهزتها المصرية من خلال مستشارين بريطانيين محدودي العدد في الوزارات والمصالح المهمة، وبما كان يسمى وقتها "النصائح الملزمة" ولم يتغير هذا الوضع السياسي إلا بعد إعلان الحرب العالمية الأولى في سنة 1914، عندما دخلت الدولة العثمانية هذه الحرب ضد بريطانيا، فأعلن الانجليزي وضع مصر رسميا تحت الحماية البريطانية، واستبدلت بوصف القنصل الإنجليزي (لأن السفير كان في اسطنبول) وصف المعتمد البريطاني، وكثر نسبيا تعيين موظفين إنجليز في المصالح، كما تشير يوميات ملنر، وقد قامت ثورة 1919 تطالب لا بجلاء الانجليز فقط، ولكن طالبتها بإعلان استقلال مصر استقلالا تاما. وكان ملنر الذي عينته حكومته لدراسة الأحوال المصرية بعد شبوب الثورة بحسبانه وزير المستعمرات في سبتمبر سنة 1919 وأتت الجنة برئاسته في ديسمبر من ذات السنة، وأنهت مهتمها في مارس 1920 وأعدت تقريرها في ديسمبر 1920. ملنر كموظف استعماري : وملنر كما يظهر من يومياته بمصر، ومن تقريره أنه طبعا يقوم بوظيفته الاستعمارية، مستعمر إنجليزي لبلد شرقي يعمل على استبقاء سيطرة بلاده على هذا القطر، وهو كشأن أي حاكم أجنبي أو حتى حاكم مستبد محلي، ينظر إلى ثورة الشعب ضده بحسبانها اضطرابات ما تلبث أن تهدأ وتزول، بشيء من العنف مع قدر من الدراسة لمعرفة أسباب ما حدث من اضطرابات لإمكان تفاديها مستقبلا، واليوميات والتقرير الذي تضمه صفحات هذا الكتاب، يدوران في هذا الإطار. في نهاية حديث ملنر في يومياته بعد قضائه ثلاثة أشهر في مصر يعترف بأن موقفه قد تجمد ولم يعد يستطيع أن يتقدم لإنجاز مهمته مع المصريين كما يعترف بأن وقد ضده كل من الوفد (تنظيم الثورة الشامل وقتها) والأزهر والصحافة. وغدا حلقة جديدة.....