ظل الطحّان القروى الرومانى البسيط فى رواية «جواز سفر» للألمانية هرتا مولر يحلم بيوم مغادرته إلى ألمانياالغربية هروبا من ظلمات ديكتاتورية نظام شاوشيسكو الشيوعى الذى كان يعيش فى كنفه. كان هذا الطحّان وغيره من «المحرومين» من العدالة والحرية يجسدون ملامح هرتا مولر الأدبية التى استلهمتها من معاناة وطنها الأول رومانيا فى ظل الحكم الديكتاتورى لنظام شاوشيسكو الشمولى لسنوات طويلة، وظلت هذه التيمة هى الينبوع الأعمق الذى فجّر لدى مولر طاقات إبداعية خلابة وضعتها فى مصاف أدباء العالم. فعلى الرغم من أن اسم مولر لم يكن مطروحا فى الأروقة الصاخبة التى أشعلت ساحات التكهنات قبل أيام من الإعلان عن جائزة نوبل للآداب لهذا العام، إلا أن الإعلان عن اسمها مصحوبا بخبر الفوز كان كفيلا بأن يجعل سيرتها الحياتية والأدبية تجُب حديث التكهنات هذا ليحل مكانه حديث آخر عن أدب «المحرومين» و«الديكتاتورية» و«النفى»، و«الاضطهاد»، وهى المفردات التى ارتبطت بأعمال الفائزة، التى أعلنت الأكاديمية السويدية اختيارها من بين أدباء وشعراء العالم هذا العام لجائزة ألفريد نوبل الرفيعة. كلمات اللجنة المانحة للجائزة جاءت شديدة الاقتضاب وهى تشير إلى أن اختيار مولر لجائزة نوبل جاء لقدرة كتاباتها الشعرية الكثيفة والنثرية الصريحة على تصوير حياة المحرومين، ووصف بيتر إنجنلد السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية هرتا ميلر ب«التركيبة» الأدبية التى تمثل ظاهرة حقيقية تجمع بين اللغة المتميزة من جهة واحتفاظ جعبتها بحكايات عاصرتها وعايشتها فى كنف نظام ديكتاتورى عوملت فيه كغريبة وهى وسط عائلتها شأنها فى ذلك شأن جميع الأقليات. وأضاف «هذه قصة مهمة جدا كان يجب أن تروى»، وتوقف إنجلند عند اللغة المستخدمة فى أدب هرتا مولر بقوله: «لقد كانت تعيش فى ظل ديكتاتورية تقمع وتسىء إلى اللغة، وربما يكون هذا ما دفعها إلى مراقبة استخدامها لها فأبدعت لغة شديدة الولع بالإيقاع»، ودعا الذين سيجذبهم التعرف إلى أدب هرتا مولر بعد حصولها على جائزة نوبل البدء بقراءة روايتها التى ترجمت للإنجليزية «أرض الخوخ الأخضر» التى يمكن اعتباراها أفضل ما كتبت، حسب تعبيره، وكذلك روايتها الأخيرة «سأحمل معى كل شىء أملكه». وفى حديثها ل«الشروق» اعتبرت الدكتورة ناهد الديب أستاذة الأدب الألمانى ومديرة مركز اللغات الأجنبية والترجمة التخصصية بجامعة القاهرة أن فوز هرتا مولر بجائزة نوبل لهذا العام كان انتصارا أكبر للتيمات التى تناولها أدب مولر كتصوير حياة المحرومين ومواجهة الأنظمة القمعية الديكتاتورية. وقالت: إن هرتا مولر واحدة من الأديبات الألمانيات المتميزات، وأن أكثر ما يميز أدبها هو استخدامها الرفيع للغة، واعتبرت أن إنتاجها الروائى والقصصى يعد أكثر غزارة وتميزا من إنتاجها الشعرى. كانت عائلة مولر من الأقلية المتحدثة بالألمانية فى رومانيا، وخدم والدها فى كتائب الحماية المسلحة خلال الحرب العالمية الثانية، وشهد عام 1945 ترحيل العديد من الألمان الرومانيين إلى الاتحاد السوفييتى، ومنهم والدة مولر التى قضت خمس سنوات تعمل بأحد المعسكرات بأوكرانيا. اختارت هرتا مولر أن تدرس الأدب الرومانى والألمانى خلال الفترة من 1973 1976، وشاركت فى رابطة للأدباء الشباب المتحدثين بالألمانية، وبعد أن أنهت دراستها بدأت الاحتكاك بفساد النظام السياسى حيث عملت كمترجمة بمصنع للآلات، وفُصلت منه بعدما رفضت أن تتعاون مع البوليس السرى آنذاك، كما تعرضت لعدد من المضايقات الأمنية، فعملت بعدها مدرسة لرياض الأطفال، بالإضافة لإعطائها دروسا للغة الألمانية. بدأت معركة مولر الأدبية بعد أن قدمت أولى مجموعاتها القصصية عام 1982 بعنوان «Niederungen» أو «ناديرس» التى خضعت للرقابة فى رومانيا، وبعدها بعامين نشرت النسخة الألمانية منها التى لم تكن تخضع للرقابة، ثم قدمت مولر عملا آخر باللغة الرومانية جسدت خلاله صورة لقرية صغيرة للمتحدثين بالألمانية وما بها من مظاهر للفساد والتعصب والقمع. ولاقى هذا العمل نقدا بالغا من الصحافة القومية الرومانية، ومنعت الرواية من النشر فى رومانيا، بينما تلقتها الصحافة الألمانية بإيجابية شديدة، نظرا لانتقاد مولر للديكتاتورية الرومانية، وفى عام 1987 هاجرت مولر مع زوجها الروائى ريشارد فاجنر إلى برلين التى تعيش بها إلى الآن. هذا التاريخ النضالى الذى عاصرته مولر وواجهت قمعه جعل البعض يعتبر أن فوزها بجائزة نوبل لم يكن تحية لأدب هرتا ميلر بقدر ما هو تحية لحلول الذكرى العشرين لسقوط النظام الشيوعى فى أوروبا. حصلت مولر على عدد من الجوائز المهمة، منها أرفع جوائز ألمانيا على الإطلاق «كليست» وجائزة «فرانز كافكا» وجائزة «إمباك» الأيرلندية الشهيرة، وظلت على الرغم من رحيلها من قريتها الصغيرة فى رومانيا منذ أكثر من 20 عاما تحتفظ فى كتاباتها بتيمات القمع والنفى والديكتاتورية. وإن ظلت تجوّد فى كل محطة كتابية فى عرض مشاهداتها بصورة أقرب للغة الشعر والوصف المتراوح بين الروحانى والحسىّ، الذى عرض فى مجمله ملامح قبح الحياة فى رومانيا الشيوعية، ففى رواية «الميعاد» تروى قصة سيدة شابة فى عهد شاوسيسكو كانت تعمل فى مصنع للملابس، وظلت ترسل داخل قمصان الرجال المصدّرة إلى إيطاليا عبارة واحدة، تحمل سؤالا لا يتغير وهو «هل تتزوجنى؟»، وهو السؤال الذى كان يجسد حلمها فى الخلاص من العيش فى ظل نظام قمعى والرحيل منه على جناح رومانسى. صدرت أعمال هرتا مولر باللغة الألمانية،وأحيانا كانت تمزجها باللهجات العامية الرومانية والجرمانية، فيما لم يترجم لها سوى أربعة كتب إلى الإنجليزية، وثلاثة كتب إلى الفرنسية، ومنها «استدعاء» و«الثعلب أصبح صيادا»، ولم تترجم أى من أعمالها إلى اللغة العربية، إلا أنه من المرتقب أن تجد مؤلفات مولر طريقا سريعا لترجمتها إلى مختلف اللغات العالمية بعد اقتران اسمها بجائزة نوبل الأدبية. اختصرت هرتا مولر يوما فى أحد أحاديثها الصحفية قبل الحصول على نوبل السبب وراء تشبُع أعمالها بتجربة رومانيا الشيوعية بقولها: «أكثر التجارب التى لا أنساها ما حييت؛ مرحلة النظام الديكتاتورى فى رومانيا، وانتقالى إلى ألمانيا مئات الكيلومترات بعيدا عنها لم يمح أبدا الماضى من ذاكرتى، فلقد حملت معى الماضى عندما رحلت وأعلم أن الديكتاتورات ستظل موضوعا معاصرا».