في الوقت الذي ترفض فيه الولاياتالمتحدة رؤوس الأموال الصينية، ويفرض فيه الاتحاد الأوروبي قيودا على الاستثمارات الصينية في سائر الدول الأعضاء، أصبحت دول جنوب أوروبا -التي شارفت على الإفلاس منذ 10 سنوات المنطقة- الأكثر ترحيبا بهذه الاستثمارات. وبحسب البيانات التي جمعتها وكالة «بلومبرج» للأنباء، فإن استثمارات وصفقات استحواذ الشركات الصينية في إسبانيا وإيطالياوالبرتغال واليونان تجاوزت وتيرة الاستثمارات الصينية في كل من الولاياتالمتحدة وباقي دول أوروبا خلال العام الحالي. وفي حين جاء نمو الاستثمارات الصينية في جنوب أوروبا مدفوعا باستحواذ «شركة الخوانق الثلاثة» الصينية على شركة «إي.دي.بي» البرتغالية للمرافق، وقطاع الطاقة المتجددة التابع لها في إسبانيا، بالإضافة إلى 23 صفقة مقترحة أو مكتملة والاستثمارات والمشروعات المشتركة للشركات الصينية في الدول الأربع منذ بداية العام الحالي. وسيظهر الاهتمام الصيني بالاستثمار في جنوب أوروبا عندما يزور الرئيس الصيني «شي جين بينج» إسبانيا والبرتغال في طريقه إلى قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين يوم 30 نوفمبر الجاري. وتمثل هذه الجولة أول زيارة رسمية يقوم بها رئيس الصين للدولتين، اللتين توفران للصين ما تتعطش إليه من تكنولوجيا، وعلامات تجارية عالمية، وحكومات صديقة. يقول «فيليب لو كور» كبير الباحثين في «مدرسة كيندي للإدارة العامة» بجامعة هارفارد الأمريكية ومؤلف كتاب «الهجوم الصيني في أوروبا»، إن «من ناحية الاستراتيجية طويلة المدى والتواجد طويل المدى، فإن هذه الأماكن جذابة بالنسبة للصين. هذه الدول أصبحت من الداعمين للصين على الصعيد الدولي». ففي العام الماضي اعترضت اليونان على إدانة الاتحاد الأوروبي لسجل الصين في مجال حقوق الإنسان أمام الأممالمتحدة. كما أن إسبانيا وإيطاليا واليونان والبرتغال لم تكن ضمن الدول التي وقعت على خطاب وقعه 15 سفيرا غربيا على الأقل احتجاجا على معاملة الصين لأقلية الإيغور المسلمة في منطقة «شينجيانج». وفي إيطاليا، تقول الحكومة الشعبوية إنها ترغب في أن تكون إيطاليا شريكا أوروبيا في مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، والتي تتضمن مجموعة ضخمة من مشروعات البنية التحتية في العديد من دول العالم الممتدة من الصين إلى أوروبا. ومنذ تفجر أزمة الديون الأوروبية عام 2009، تستهدف الصين الأصول المعروضة للبيع في الدول المتعثرة ماليا في أوروبا، حيث تقوم الشركات الصينية سواء المملوكة للدولة أو الخاصة بشراء الأصول الأوروبية. وتمتلك الشركات الصينية حاليا حصة كبيرة أو مسيطرة من ميناء بريوس اليوناني وشركة «فيلدليدادي» أكبر شركة تأمين في البرتغال، وشركة «بيريللي» الإيطالية لصناعة الإطارات، والفرع البرازيلي لشركة «ريبسول» الإسبانية العملاقة للنفط. هذا النشاط الصيني الزائد في مجال الاستحواذ على الشركات الأوروبية أثار قلق الأوروبيين من النوايا المحتملة للصينيين لسرقة الأسرار العلمية والمعلومات التقنية. ومن منطلق تنامي الشعور سياسيا بعدم الارتياح إزاء الاستحواذات الصينية، وافق ممثلو دول الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي على أول قواعد على مستوى التكتل لتدقيق الاستثمارات الأجنبية من خارج الاتحاد الأوروبي. ورغم أن القواعد الجديدة لا تمنح الدول الأعضاء الحق في الاعتراض على أي صفقات استحواذ في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، فإنه يسمح لها بطلب الحصول على معلومات أو تقديم تعليقات على الصفقات أيا كانت الدولة التي تتم فيها. في الوقت نفسه، فإن الدول الأعضاء التي تتلقى تعليقات من الدول الأخرى بشأن صفقة استحواذ ما، تكون ملزمة بوضع تلك التعليقات في الحسبان عند اتخاذ قرارها النهائي. وستدخل هذه القواعد الجديدة حيز التطبيق في نهاية 2020. وكان سياسيون من إيطالياوالبرتغال قد أعربوا في البداية عن مخاوفهم من القواعد الجديدة، وقالوا إنهم لن يسمحوا باستغلالها كمبرر للحمائية أو تهديد المصالح الوطنية لدولهم. في المقابل، فإن ألمانيا صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا، تتبنى موقفا أكثر تشددا تجاه الصين بعد أن رأت استهداف المستثمرين الصينيين للشركات الألمانية الكبرى مثل دايملر للسيارات وكوكا للإنسان الآلي. وقررت حكومة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لأول مرة الاعتراض على صفقة استحواذ صينية محتملة في وقت سابق من العام الحالي، حيث كانت الصفقة تستهدف شركة صناعة الآلات «لايفيلد ميتال سبنينج» الألمانية. كما تدرس وزارة الاقتصاد الألمانية تخفيض الحد الأدنى للحصة التي يمكن بيعها من أي شركة أجنبية لمستثمرين أجانب دون الحاجة إلى تدقيق أو تدخل حكومي بما يمنح الحكومة قدرة أكبر على الاعتراض على أي صفقة استحواذ أجنبية. ويقول «جونترمان وولف» مدير معهد «بروجيل» للأبحاث في بروكسل إن «التراجع عن الترحيب (بالاستثمارات الصينية) يأتي الآن بشكل متزايد من القلب (في أوروبا)، فالاستثمار الصيني في الصناعات عالية التكنولوجيا (لا يمر مرور الكرام)». وتشعر الدول الأوروبية أيضا بالقلق من تركيز الاستثمارات الصينية على القطاعات الاستراتيجية في الدول الأوروبية. في المقابل فإن الصين لا تفتح أسواقها وقطاعاتها الرئيسية أمام الاستثمارات الأوروبية. والهاجس الثاني هو الآثار السلبية للاستثمارات الصينية، مع اتجاه العديد من الشركات إلى بيع جزء من استثماراتها الخارجية لتخفيض ديونها. فقد باعت شركة داليان واندا الصينية 17% من أسهم نادي «أتليتكو مدريد» الإسباني لكرة القدم، في وقت سابق من العام الحالي بعد استحواذها عليه منذ 3 سنوات فقط. كما باعت شركة «إتش.إن.أيه» الصينية كامل حصتها في مجموعة «إن.إتش هوتيل جروب» الفندقية قبل شهور. في المقابل، نجد في الولاياتالمتحدة أن لجنة مراجعة صفقات الاستثمار الأجنبي في السوق الأمريكية عززت قدرتها على وقف أو تغيير شروط الكثير من الصفقات في وقت سابق من الشهر الحالي. كما أصدر الكونجرس الأمريكي قانونا جديدا يجعل مراجعة هذه اللجنة للصفقات ملزمة. وقد أوقفت اللجنة في العام الماضي صفقة بيع شركة «لاتيس سيميكونداكتور كورب» إلى مستثمر صيني. في الوقت نفسه، فإن دول جنوب أوروبا المتعثرة ماليا تنظر إلى الاستثمارات الصينية من منظور مختلف. فقد قال في وقت سابق «خافيير فرنانديز» رئيس حكومة إقليم أستورياس جنوب إسبانيا والذي تدير فيه شركة «إي.دي.بي» البرتغالية محطات طاقة مائية ومحطات كهرباء تعمل بالفحم والغاز، إن عرض شركة الخوانق الثلاثة الصينية لشراء هذه المشروعات «غير مقلق». وأضاف أن الشركة الصينية لن تتدخل ولن تشطب الوظائف بنفس القدر الذي يمكن أن يفعله أي منافس محلي آخر. وقد بلغت صفقة استحواذ الشركة الصينية على هذه الأصول حوالي 16 مليار يورو (18.2 مليار دولار). كما يعتبر «روي لوبو» المتخصص في مجال الاتصالات الرقمية بالعاصمة البرتغاليةلشبونة إن بلاده «رابحة» من الاستثمارات الصينية، مضيفا أن رهان الصين على البرتغال «أنعش اقتصادنا» وأنه حتى إذا كان ذلك سيؤدي إلى زيادة اعتماد البرتغال على النمو في الصين فالأمر يستحق المخاطرة.