"فيما مضى كُنت أحاول أن أُغير العالم، أما الآن وقد لامستني الحكمة، فلا أحاول أن أُغير شيئاً سوى نفسي". كلمات من الشعر كتبها الشاعر الصوفي الشهير جلال الدين الرومي الذي قضى عمره متبحراً في رحلة طويلة داخل نفسه، يبحث فيها عن أسرار المحبّة الخالصة والوصل بالله دون شوائب، منشغلاً في ذلك عن رأي الناس فيما يصنع، وبالرغم من عظمة أعداد أتباعه في زمانه، ربّما لم يكن يتخيّل أن العدد سيتضاعف كثيراً في الأزمان المتتالية، ولن ينتهي. وُلد جلال الدين الرومي في 30 سبتمبر عام 1207 م، كان شاعراً ومتصوفاً أسس الطريقة المولوية الصوفية المنسوبة إليه بعد أن أصبح ملقبا باسم مولانا جلال الدين الرومي، وتأثر بوالده بهاء الدين ولد الذي تم تلقيبه بسلطان العارفين، لما له من سعة في العلم والمعرفة والتصوف. ولد الرومي في أفغانستان ثم انتقل مع أبيه إلى بغداد في الرابعة من عمره، سافر معه إلى الكثير من البلدان حتى استقر في قونية وهي مدينة تركية تقع في جنوب الأناضول، وهناك ذاع صيته بالبراعة في الفقه والعلوم الإسلامية، ليعمل مدرسا في عدة مدارس هناك، ثم يقرر بعد سنوات طويلة من التدريس أن يتركه ويتصوف، وأصبح شاعراً شهيراً ينظم الأشعار وينشدها. أشعار جلال الدين الرومي وكلماته استطاعت أن تحتفظ ببريقها وجاذبيتها عبر أجيال متتالية، واستطاع أن يفرض نفسه ضمن الأسماء القديمة المعروفة للشباب العربي وصغار السن بالرغم من قلة اهتمام غالبيتهم بالعلماء القدامى، لذا كان ولا زال له تأثير كبير على الثقافة الفارسية التي كتب بلغتها أغلب أعماله وعلى الثقافتين التركية والعربية، بل تمت ترجمة أماله إلى لغات كثيرة عبر العالم، حتى أنه في عام 2007، وصفته بي بي سي بأكثر الشعراء شعبية في الولاياتالمتحدة. توفي الرومي في 17 ديسمبر عام 1273 في مدينة قونية، وبعدها قام ابنه سلطان ولد بتأسيس ما عرف بالطريقة المولوية، واشتهر أتباعها برقصتهم الصوفية الشهيرة التي يدورون فيها حول أنفسهم والتي لا تزال تقام لأجلها حفلات "المولوية" حتى الآن في مصر. من يعرف الرومي ويتعمق في تاريخه لا بد أنه سيقرأ بشكل متكرر اسم شمس الدين التبريزي، صديقه المحبب إلى قلبه، والذي جاء إلى قونية عام 1244 ليصبح مقترنا بالرومي ولا يفترقان مما أثار حسد وغضب كثيرين حولهما، وهو مما كان أهم أسباب اغتيال التبريزي في عام 1248. وكتبت الكاتبة التركية اليف شفق، روايتها الشهيرة التي حظيت بنسبة مبيعات مرتفعة جدا "قواعد العشق الأربعون"، والتي لاقت في الوقت نفسه انتشاراً كبيراً بين الشباب، لتجسّد فيها ببراعة تلك العلاقة الفريدة التي ربطت الرومي بالتبريزي، ولتكشف كيف تحول حزن الرومي العميق على صديقه إلى أشعاراً خارقة جمعها في ديوان "شمس الدين التبريزي"، أو ما يعرف باسم الديوان الكبير. كان هذا الديوان من أهم مؤلفات الرومي، بجوار الرباعيات الشهيرة التي يبلغ عددها 1659 رباعية، وديوان "مثنويه المعاني" الذي يطلق عليه بعض المتصوفين "الكتاب المقدس الفارسي"، ويعد من أفضل الكتب الشعرية الصوفية. لم تقتصر أعمال الرومي على الشعر، بل كان له إنتاج نثري ثري، أشهره "كتاب فيه ما فيه" لم يكتبه بنفسه بل كتبه أتباعه، وجمعوا فيه نحو 71 محاضرة ألقاها عليهم، وكتاب "المجالس السبعة" الذي تضمن المواعظ التي عن القرآن والحديث، وأخيراً "الرسائل" الذي يحتوي على رسائله إلى مريديه ومعارفه ورجال الدولة. ومن أشهر أقوال الرومي "إنك قد رأيت الصورة ولكنك غفلت عن المعنى"، و"فلْينكَسر قلْبك مرَّةً تلوَ الأخرَى، وإلَّا فكيفَ لهُ أنْ ينفتِح"، و"أود أن أموت في العشق الذي أكنه لك، كقطع سحب تذوب في ضوء الشمس"، و"من جمال الحياة أن الله يبعث في طريقك ما يوقظك بين الحين والآخر، أنت الذي ظننت لوقت طويل أنك مستيقظ".