تشهد بدايات الألفية الثالثة حالة من انتشار صور العنف المعمم على مستوى العالم، لا مثيل لها فى تاريخ البشرية العريض. فلم يحدث أبدا من قبل أن كان كل أطفال وشباب وشيوخ العالم يفتحون عيونهم كل صباح على صور القتلى والدماء والدمار على شاشات التليفزيون، وبالصحف والمجلات، وفى نشرات الأخبار المتكررة، وفى الأفلام السينمائية، بل حتى فى ألعاب الأطفال. وتتراوح صور هذا العنف المجنون بين القتل والإبادة الجماعية للبشر باستخدام أحدث الأسلحة الفتاكة، كما حدث أو يحدث فى أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان ودول عديدة فى أفريقيا وآسيا، وبين قتل الآباء لأبنائهم والأبناء لآبائهم والأمهات لأطفالهن والأزواج لزوجاتهم والزوجات لأزواجهن والعائلات لعائلات أخرى (آخذا بالثأر). وقد حظيت ظاهرة العنف باهتمام متزايد من الباحثين والمفكرين والجمهور خلال السنوات الأخيرة، حيث عقد عدد من المؤتمرات العلمية شارك فيها متخصصون فى جميع المجالات، وتناولوا الظاهرة من مختلف جوانبها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنفسية والثقافية والإعلامية بالبحث والتمحيص.. ومن أهم هذه المؤتمرات مؤتمر المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، الذى عقد تحت عنوان «الأبعاد الاجتماعية والجنائية للعنف فى المجتمع المصرى»، ومؤتمر «عولمة العنف وعنف العولمة» الذى عقده قسم الاجتماع كلية الآداب بجامعة عين شمس، ومؤتمر «ظاهرة العنف فى المجتمع المصرى إشكالياتها وتحولاتها»، الذى عقدته الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية. وعلى الرغم من اختلاف مداخل تناول ظاهرة العنف فى هذه الدراسات والبحوث والتحليلات، فإنها قد اتفقت جميعا فى نقطتين أساسيتين: أن هناك تزايدا ملحوظا فى العنف فى مصر بشكليه المادى والمعنوى فى مختلف مجالات. وهو وإن كان لا يصل فى شدته وحدته إلى ما وصل إليه فى مجتمعات أخرى، إلا أنه يمثل تهديدا للأمن والاستقرار الاجتماعى. إنه لابد من اتخاذ إجراءات عاجلة لمحاصرة هذه الظاهرة والحد منها. وقد تراوحت الإجراءات التى أوصت بها هذه الدراسات ما بين الإجراءات المحدودة النطاق، مثل تشديد العقوبات على مرتكبى جرائم العنف، والاهتمام بمؤسسات التنشئة الاجتماعية كالأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام ومواجهة ما بها من سلبيات تشجع على العنف، ومواجهة ظاهرة البطالة لدى الشباب، والارتقاء بسكان العشوائيات.. إلخ. وما بين إجراءات كلية شاملة تصل إلى حد وضع تصور لاستراتيجية قومية للتنمية الشاملة، بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، يترتب عليها إزالة أو التخفيف من حدة العوامل المسئولة عن تفريخ ظاهرة العنف، مثل البطالة والفقر وانخفاض مستوى المعيشة والأمية وسيادة القيم الاستهلاكية البذخية والتفاوت الطبقى الحاد فى فرص الحياة وضعف قيم الانتماء والولاء للوطن وللجماعة والافتقاد للقدوة وضعف المشاركة السياسية والخواء الثقافى والقهر المعنوى والفساد وإهدار مصادر الثروة المادية والبشرية.. إلخ. ومع اتفاقنا مع كل هذه التحليلات والرؤى لمواجهة ظاهرة العنف فى المجتمع المصرى وتقديرنا لما تشتمل عليه كل منها من عناصر إيجابية وضرورية، وبصفة خاصة تلك التى تدعو إلى مشروع قومى للتنمية الشاملة من جهة، وإلى مواجهة كل الآثار الهدامة لمحاولات دمج مصر فى «عولمة السوق»، بكل ما تتضمنه من عنف الإفقار والتهميش وتحطيم للبنى الاجتماعية والثقافية المصرية الأصلية وتغلغل لقيم السوق اللاإنسانية المرتبطة بثقافة العنف المدمر، إلا أننا نود توجيه الاهتمام إلى عامل نرى أنه فى غاية الأهمية ولم يلتفت إليه فى كل الدراسات والتحليلات، التى قدمت حتى الآن عن ظاهرة العنف فى المجتمع المصرى، وهو عامل سيادة ثقافة العنف على المستوى الدولى بفعل ثورة الاتصالات والمعلوماتية، والتى لا يمكن بأى حال الحيلولة دون وصولها لكل مواطن مصرى. إننا لا نستطيع، بل وحتى لا يجب، أن نحجب صور القتل والمجازر وسفك الدماء وتدمير المنازل والمنشآت، الذى ترتكبه قوات إسرائيل الإجرامية يوميا ضد الشعب الفلسطينى ولا صور المقاومة الفلسطينية الباسلة وما يترتب عليها من قتل للمعتديين والمستعمرين الإسرائيليين، كما أننا لا نستطيع أن نمنع صور وأنباء القتل والدمار فى العراق، كما لم نستطع منع صور وأنباء القتل والدمار فى أفغانستان، وكذلك الحال بالنسبة لما يحدث فى الجزائر، وفى إسبانيا وفى إيرلندا وفى أفريقيا من مذابح وقتل، ناهيك عن صور المجاعات والمعاناة فى بلدان مختلفة من العالم الثالث.. مع صور الرفاهية والبذخ فى بلدان الغرب ولدى قطاعات محدودة من جمهور العالم الثالث، والتى تمثل سويا عنفا معنويا. كما أننا لا نستطيع أن نمنع نشر صور وأنباء الجرائم، التى تمثل أبشع أنماط العنف مثل قتل الأبناء أو الزوجات أو الآباء والأمهات أو جرائم القتل الجماعى آخذا بالثأر. والسؤال الآن: هو كيف تؤثر هذه الصور اليومية لأبشع أشكال العنف على وعى الجمهور، وبخاصة الأطفال والشباب؟ وإذا لم يكن فى استطاعتنا حجبها لاستحالة ذلك فى عصر السماوات المفتوحة فكيف نقلل من آثارها ونواجهها؟ وعلى الرغم من أنه لم تجر أى دراسة علمية لمحاولة الإجابة عن هذا السؤال بل إنه لم يطرح أصلا حتى الآن فى حدود علمنا بالدراسات المنشورة ومع دعوتنا إلى إجراء دراسات ميدانية حول هذا الموضوع فإنه بناء على مناقشاتنا مع الشباب والأطفال نرى أن هذه الصور اليومية للعنف البشع سواء فى وسائل الإعلام أو فى الحياة اليومية تجعلهم يسلمون بأن العالم تحكمه شريعة الغاب وأن استخدام القوة أو التهديد بها هو السبيل لتحقيق الأهداف غير المشروعة بل والمشروعة أيضا. والأدهى من ذلك أن كثرة التعرض لصور العنف والدماء تخلق ما نسميه بحالة من التسامح أو تقبل العنف وعدم الفزع من منظر الدماء، وهذا ما نلمسه الآن من بشاعة فى ارتكاب جرائم القتل(الطعنات العديدة وتقطيع الجثث.. إلخ). وفى مناخ عام دولى وإقليمى ومحلى من الإحباط واليأس والمعاناة والإحساس بالظلم وغيبة العدالة والشعور بالقهر يتولد ويتدعم الميل إلى العنف تجاه الآخر، بل وتجاه الذات. وبناء عليه فإننا مع تسليمنا بضرورة وحتمية تبنى الاستراتيجية الشاملة للتنمية، بما بترتب عليها من رفع المعاناة والإحباط والارتقاء بمستوى معيشة الإنسان المصرى على كل المستويات، مع مراعاة عدالة توزيع عائد التنمية كأساس ضرورى لمواجهة ظاهرة العنف، بل ومعظم مشكلاتنا الاجتماعية.. إلا أننا نرى أيضا ضرورة احتواء أثار أيديولوجية العنف العالمية على غرار احتواء آثار الزلازل الطبيعية أى تقوية الدعامات الاجتماعية بما يجعل المجتمع يتحمل آثار الزلزال الأيديولوجى على الوعى الاجتماعى للجمهور وبخاصة الشباب، أو بعبارة أخرى، بذل كل الجهود من أجل تحييد أيديولوجية العنف. ونقترح لذلك وضع سياسة إعلامية وتربوية شاملة لدعم كل القيم الإيجابية وتقديم صورة بديلة لصورة قانون الغاب والعنف المدمر، بحيث نبرز إلى جوار صور الجرائم البشعة للإجرام الإسرائيلى مثلا صور علاج ورعاية المصابين من الفلسطينيين، ومع صور الدمار والدماء التى تسيل نبرز صور البناء وإعادة التعمير، ومع صور قتل الآباء والأزواج والزوجات والأبناء يجب أن نبرز صور التراحم والتكافل والبر والوفاء والتضحية والتفاني، ومع صور الفساد ولصوص المال العام لا بد أن نبرز صور الشرف والأمانة والتفانى فى العمل، ومع صور الفوضى نعرض صور النظام، ومع صور الجشع والبذخ السفيه نعرض ونركز على صور القناعة والاعتدال. بعبارة أخرى لابد لنا من خلق ونشر ودعم ثقافة مضادة للعنف، نواجه بها ثقافة العنف السائدة جنبا إلى جنب مع العمل الدءوب على تحسين كل الظروف التى تفرخ العوامل المؤدية لانتشار العنف لدى قطاعات المجتمع.