ودع المصريون، صباح أمس، خالد محي الدين، آخر أعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو، وأحد الضباط الأحرار الذين صنعوا ثورة 1952، وأرخ لتلك الفترة المهمة في تاريخ مصر، بكتابه «الآن أتكلم»، والذي أحدث دويًا كبيرًا وقت خروجه من ماكينات الطباعة إلى أيادي القراء. «كتابة المذكرات هى عمل صاحبها، والهدف منها هو تقديم الحدث للمتحدث، ولذا ما كان لي أن اتخلى عن حلم تدوين كل ما أعرفه وشاركت به في ثورة يوليو؛ ليس من أجل الماضي بل من أجل الغد». هكذا كتب الراحل في مقدمة مذكراته، والتي نعود لقرأتها بعد أن غيب الموت صاحبها، لنتذكر سيرة ومسيرة واحدًا من الذين أثروا في تاريخ مصر المعاصر. في كتابه «والآن أتكلم» يقوم محي الدين بتفكيك آليات السلطة بمصر في الفترة التي سبقت قيام ثورة يوليو، معتمدًا على ما دونه في «الكراسة الزرقاء»، كما أسماها، عن تلك السنوات، أثناء وجوده في المنفى خارج الوطن، بعد أحداث مارس 1954، التي أدت تبعاتها إلى خروجه من مجلس القيادة، ثم إبعاد عزل أول رئيس للجمهورية اللواء محمد نجيب، واستحواذ الرئيس الراحل جمال عبدالناصر على السلطة. يكشف في كراسته منعطفات كثيرة مرت بها مصر، من خلال رؤية ضابط بالجيش المصري، فكتب يقول « إحساسنا بالمرارة لوجود الأنجليز في الجيش، يخوضون المعارك ويدعون أنهم يدافعون عن مصر، كما كانوا يعاملوننا كجنود درجة ثانية»، ويتابع ليصف شعور الجندي المصري عقب هزيمة 7 جيوش عربية في حرب فلسطين، من «عصابات اليهود» بسبب الفساد ونقص الذخيرة والأسلحة الفاسدة، يليها حصار اللورد كرومر لقصر الملك بالدبابات كي يملى عليه إرادة بريطانيا في أختيار النحاس باشا لتشكيل الوزارة، والتي أعدها الضباط في الجيش؛ إهانة لمصر وللملك وللجيش، فبكى حينها الضباط مرارة وقهرًا وغيظا، مضيفًا: "شعورنا بمأساة الوطن قادتنا نحو توجه سياسي". ويستكمل محي الدين في مذكراته: «بدأ وقتها يتشكل لدى ضباط الجيش مشاعر ضد الانجليز وبدأت قضية الموقف ضد الاحتلال تشكل عنصرًا أساسيًا في تفكيرهم، ولكن أي شيء وأي توجه؟ حتى عام 1944 عندما جاءني الضابط عبد المنعم عبد الرؤوف قائلًا: تعال سأعرفك بضابط يجب أن تتعرف عليه، فكان اللقاء الأول بعبد الناصر، وكان في النصف الثاني من عام 1949 موعد الاجتماع الأول للخلية الأولى لتنظيم الضباط الأحرار في بيت عبد الناصر بكوبري القبة، فتولي عبد الناصر القيادة، وأسمينا الحركة "أهداف الضباط الأحرار"، وتعّرفنا وقتها على الضابط محمود لبيب، والذي عرفنا بدوره بالمرشد العام حسن البنا، حيث بدأت علاقة عجيبة مع الأخوان وتكونت مجموعات عسكرية، ولم نعد نلتقي في أماكن عامة وإنما لقاءات منظمة في البيت» ليتابع بأن جمال عبد الناصر فطن إلى أن الجماعة تريد استخدام الضباط لتحقيق مآرب أخرى، تسارعت بعدها الأحداث السياسية لتكشف الجماعة عن وجهها السياسي وتتخلى عن ادعاء النقاء الديني، حتى أصبحت الشكوك بين الطرفين وأصبحا على غير وفاق، فابتعدنا للمسئولية الكبيرة، وهى تحرير الوطن من الفساد والإنجليز. ويتابع «محي الدين» أنه بعد الأيام الأولي للثورة بدأت الحساسيات تدُب بين الضباط الأحرار، ويشعر بعضهم بالتجاهل بعد ما تحملوه من مخاطر وتولى البعض مراكز مرموقة، كما ظهرت معلومات تفيد بوجود تحرك وتمرد في صفوف الجيش، لكن مع إعلان الجمهورية أعيد ترتيب المواقع القيادية، وعين محمد نجيب رئيسا للجمهورية. ولفت إلى أن محمد نجيب لم يكن وحده صاحب الطموح بالرئاسة، حيث كان عبد الناصر أيضًا، لكنه كان الأكثر ذكاءً، حيث ربط طموحاته بطموحات الثورة ومجلس الثورة، حينما ذهب نجيب إلى الجماهير، وتبدى أمام الناس حاكما بسيطا يمتلك مشاعر أبوية، وهى الشعبية التي أقلقت عبد الناصر، مضيفًا أن "كل أوراق نجيب لم تكن بقوة أغلبية مجلس الثورة مع عبد الناصر، ونفوذنا داخل الجيش، وبدأ الصراع يحتدم مرة صامتا وأخرى صاخبًا، وبدأ الشقاق حتي بادر عبد الناصر، الحل الأفضل هو أن نستقيل وأن نترك السلطة لنجيب، وأن نعود جميعًا الي الجيش، وفي الغد كان الاجتماع، كان الضباط رافضين استقاله المجلس"، وتم قبول استقاله نجيب، ليعلن صلاح سالم استقاله نجيب وقال في بيانه أنه إزاء تفاقم الخلاف بينه وبين نجيب، ذهب بنفسه الى السجن الحربي ليودعه في السجن. يختتم محي الدين آخر فصل في مذكراته بعنوان «المنفى» ليكشف أنه استقال من مجلس قيادة الثورة بعد الخلاف وتفرق السبل بينه وبين الرئيس عبد الناصر وأعضاء المجلس حول أسلوب تسليم السلطة، قائلًا«عن طيب خاطر قبلت أن أتخلى عن موقعي في أعلى السلطة، فالموقف والمبدأ يستحقان أن يتمسك بهما الإنسان، وأتفقت مع زوجتى ألا تخبر أحد أن رحيلى إلى سويسرا هو رحيل إلى المنفى، بل على رأس وفد الإنتاج القومي، ترجعت وتراجع الجميع ليس خشية على أنفسهم ولكن خشية على مصير الثورة من أن تبلله الدماء وعلى مستقبل مصر، قبل أن أعود الى مصر مرة اخرى نهائيا في 4 ديسمبر1957».