نشرت دورية «المستقبل العربى» الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية مقالا للكاتب « لبيب قمحاوى» ينتقد فيه ما آلت إليه الأوضاع فى الدول العربية من تمزُق وانحلال وسقوط للدولة الوطنية وللفكر القومى فى الوقت نفسه، ويرى أن غياب النظم الديمقراطية فى الوطن العربى حجبت أى إمكان حقيقى للسماح للشعوب بالتأكيد على أهمية الرابطة القومية العربية ومحاولة تكريسها. يبدأ الكاتب حديثه بالإشارة إلى أن «العالم العربى» و«الوطن العربى» يعتبران من الاصطلاحات الجغرافية والسياسية العامة التى تحتاج إلى مزيد من البلورة فى عالم الواقع، نظرا إلى أن أهميتهما وتأثيرهما يقفان عند حدود الدولة الوطنية المركزية التى تخضع فى العادة إما لحكم عائلة مستبدة، أو فرد مستبد يرفض مشاركة أحد فى حكمه، أو يحكم لمصلحة عقيدة قومية تفترض نظريا أنها تمتلك القوة الأدبية والجماهيرية لفرض إرادتها على الدولة الوطنية. وهذا فى الواقع أمر لم يحدث كون قوة العقيدة القومية فى الدولة الوطنية المركزية قد ارتبطت دائما بموقف الحاكم منها وبما إذا كان يقبل بها وبتمثيلها كنهج سياسى أم لا. فخلال حقبة عبدالناصر مثلا استمدت القومية العربية قوتها من قوة عبدالناصر ومصر، وعندما ذهب عبدالناصر وذهبت مصر القومية فى عهد السادات، ضعفت العقيدة القومية بذهابهما؛ ولكنها مع ذلك تشبثت بخيوط رفيعة ارتبطت بسياسة صدام حسين القومية فى العراق ولكن كل ذلك ذهب أيضا أدراج الرياح. لقد برع الكثيرون من العرب فى استنباط الأعذار والقصص المستندة إلى نظرية المؤامرة بهدف لوم الآخرين على ما هم فيه من مآسٍ وانهيارات، بينما تؤكد الحقائق أن ما وصل إليه العرب الآن من تمزُق وانحلال وفُرقة وسقوط للدولة الوطنية وللفكر القومى فى الوقت نفسه، إنما هو نتاج ما ساهم العرب بأنفسهم فيه وما سمحوا للآخرين بفعله بهم. لقد تعزز تقسيم دول الوطن العربى وتفتيتها بفعل ممارسات أنظمة حكم عربية ربطت وجودها بدول عظمى مثل أمريكا أو روسيا، وجعلت من ذلك الواقع المرير وتلك العلاقة غير المتكافئة الضمانة للحاضر والمستقبل، عوضا عن التوجه نحو الخيار الأصح المستند إلى تكريس البعد القومى الاستراتيجى للأمة العربية وكذلك لمنظومة الدول العربية وتفعيله ضمن مسار ديمقراطى واضح وفاعل وشامل للجميع. *** ويضيف الكاتب: إن تزامن الصعود القومى العربى مع هزيمة العرب فى فلسطين عام 1948 جعل العرب ملتزمين بالقضية الفلسطينية. أما الضعف الذى طرأ على هذا الالتزام أخيرا فيعكس انهيار تلك المعادلة وذلك الالتزام منذ هزيمة حرب 1967 وانكسار العنفوان القومى كما جسَدته الناصرية، وبدء تفكك مكونات الرابطة القومية العربية التى شكَّلت أساس الموقف العربى المعلن فى دعم القضية الفلسطينية بوصفها قضية عربية أولا وأخيرا. وكانت القوة الجامعة فى العمل القومى فى بداية خمسينيات القرن الماضى إما فردية تجسدت فى أفرادٍ كشخص الرئيس جمال عبدالناصر ونجاح نهجه القومى، وإما جماعية من خلال الأحزاب القومية والعمل الجماهيرى الذى فشل بسبب مسار تلك الأحزاب. ولقد ساهمت الأنظمة الاستبدادية ومراحل حكمها الطويلة فى تعميق أسباب الفشل وفى استعمال الرابطة القومية لتبرير استبدادها، وفى أحيان أخرى فشلها، فى ترجمة العقيدة إلى فِعْلٍ، وخصوصا فَشَل حزب البعث فى سورية والعراق فى التوصل إلى وحدة القطرين. ومن الجدير بالذكر إن استفحال الانتماء القطرى على حساب الانتماء القومى كان تجسيدا لهيمنة وأولوية الدولة القطرية على العقيدة القومية. ولقد ساهمت التجربة والأدوات إذا فى إضعاف العقيدة القومية وتشتيتها، وتحويلها إلى حائط مبكى للفشل العربى الذى رافق بدايات انطلاق العمل القومى العربى وحولته من طوق نجاة إلى عبء ثقيل على من يحمله. وأصبح القضاء على العقيدة القومية هو الحل فى نظر البعض الذين توجهوا إلى الخيار الدينى كبديل، أما البعض الآخر فقد رأى أن الخيار القومى أصبح هو الطريق للتعبير عن مسببات الإحباط أو لتبرير الفشل. وعوضا من البحث بهدوء عن بدائل لعلاج هذا الوضع، برز اتجاه جديد ينادى بإنكار وجود القومية العربية كعقيدة. إن البحث عن بدائل للانتماء القومى العربى من خلال هدم الوطن العربى القديم كما يجرى حاليا هو توجه خاطئ؛ فالمطلوب ليس إلغاء ما هو قائم وهدمه واستبداله بشىء جديد، ولكن المطلوب هو تغيير فى المفاهيم وتجديد الرؤى بما يتناسب والواقع الجديد وبما يسهم فى الحفاظ على مصالح الأوطان والشعوب. لا ريب فى أن المطالبة بهذا النهج فى التغيير سوف تُقابَلُ بمقاومة شديدة من جهتين: الأولى هى القوى القومية التقليدية التى لا تريد أى تغيير فى النهج القومى التقليدى، والثانية هى القوى الجديدة التى تطالب بإلغاء أى انتماء عربى وفك الارتباط تماما بالقومية العربية والهوية العربية. وفى هذا السياق، فإن المطلوب توافره هو القدرة والرؤية السليمة للخروج بنهج جديد يمنع الانهيار ويحافظ على الحد الأدنى اللازم للمحافظة على المصلحة العامة للشعوب والأوطان العربية. فأى عملية استبدال كاملة بعد هدم القديم تماما سوف تصب فى اتجاه الشرذمة من خلال هويات فرعية صاعدة، مذهبية أو طائفية أو عرقية، سوف تسارع إلى ملء الفراغ الذى سينشأ عن عملية الهدم. المطلوب فى هذه الحالة إذا هو البحث عن وسائل وآليات وأفكار تسهم فى وضع إطار مَرن يستوعب الواقع لا مطرقة تعيد تشكيله، وفى هذا السياق فإن التجوال بحرية ضمن إطار هوية عربية جامعة ومرنة يفتح الباب أمام الجميع للاستجابة إلى مشاعرهم، العرقية منها أو الدينية أو المذهبية أو السياسية، من دون أن يؤدى ذلك إلى تفتيت الدولة والمجتمع، كون الهوية العربية المرنة لن تتناقض فى هذه الحالة مع كون حاملها مثلا كرديا أو تركمانيا أو بربريا أو مسلما متزمتا أو مسيحيا أو شيعيا أو علويا... إلخ، ولا يُفْرَض عليه أن يختار بين هذا وذاك. *** ويذكر الكاتب إن أهم مشكلات العقيدة القومية العربية تتمثل بتركيزها المستمر على البُعْد السياسى دون سواه، فى حين أن الهوية العربية عَبَرت عن نفسها بارتياح وسهولة واضحين فى مجالات أخرى كالفنون والآداب والثقافة العامة، حيث ذابت الفروق وطفا على السطح شعور عام بالانتماء إلى هوية واحدة فى أرجاء الوطن العربى كافة، وحتى فى المهجر. إن ترجمة الهوية العربية المرنة يجب ألا تكون محصورة بالبعد السياسى وحسب بل تتخذ أبعادا ثقافية واجتماعية بالمفهوم الواسع. وقد يكون تطور العقيدة القومية العربية إلى صيغتها الأخيرة المتزمتة والإقصائية مسئولا بالدرجة الأولى عما آلت إليه هذه العقيدة. فالأقليات لا تطالب عادة بالانفصال والاستقلال، إلا عندما تشعر بالتمييز ضدها أو بأن النظام السياسى القائم يتعارض وعواطفها وأحلامها وآمالها كمجموعة بشرية أو كأقلية. إن تسليم مقاليد الأمور فى تفسير ماهية القومية العربية وأسسها الفكرية والعقائدية وأهدافها إلى مجموعة من المفكرين والمنظرين المتزمتين فى عروبتهم وفى تفسيرهم للهوية العربية، قد أدخل هذه الهوية فى متاهة هى فى غنى عنها. فالحل القومى لمشاكل الأقليات فى الوطن العربى بأطيافها المختلفة، الذى رافق نشوء الدولة الوطنية عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية، قد فشل فى إيجاد المعادلة الصحيحة التى تجمع بين حق الأغلبية العرقية العربية فى التعبير عن الذات القومية وطموحاتها وبين إيجاد حلول تلبى آمال الأقليات المندمجة فى المجتمعات العربية وطموحاتها.. *** ويختتم الكاتب حديثه بالقول إن الغياب الطويل للديمقراطية فى بلدان الوطن العربى قد حجب أى إمكان حقيقى للسماح للشعوب بتأكيد أهمية الرابطة القومية العربية، والسعى إلى تكريسها وتكريس دورها فى تعزيز مستقبل المنطقة ودولها، وتم ترك ذلك لسياسات الأنظمة الحاكمة لتقرر درجة ومقدار عروبة الأقطار التى تحكمها ومدى التزامها بمتطلبات العمل العربى المشترك. إن مؤسسات العمل المشترك، التى انبثقت من الجامعة العربية، كانت توفيقية أو تجميلية، وكأنها مرتبطة معا بلاصق شفاف أكثر منها مؤسسات حقيقية عضوية تسعى نحو التكامل الحقيقى الاقتصادى أو السياسى أو العسكرى. وهى بذلك أسهمت فى تكريس الأمر الواقع الفاشل أكثر من إعادة بناء الوطن العربى على نحو يعكس جِدِ العقيدة القومية وصدقيتها.