كان فكرى سارحا فى شئون مهمة، وكنت أدعو ربى هامس الصوت عالى الرجاء، وكنت على يقين من أن الله يسمعنى! بل كنت أشعر أنه لو كان هناك على بعد مليار سنة ضوئية شخص آخر يصنع صنيعى فإن الله سامعه معى!. إن امتداد الزمان والمكان لا يعنى شيئا بالنسبة له تبارك اسمه، فما يغيب عنه شىء فى الأرض ولا فى السماء.. «إن ربى قريب مجيب». وفجأة تحرك داخل نفسى سؤال متطفل: أهو قريب بذاته أم بصفاته؟ إن هذا السؤال المتطاول هو أثر دراسات وقراءات كثيرة تعرضت لها فى حياتى وتعرض لها أمثالى! وهو سؤال قد يكون وليد شَرَهٍ عقلى جامح، وقد يكون حديث نفس طُلَعَةٍ إلى المزيد من المعرفة!. على أية حال لم أرحب بالسؤال، وتذكرت مثلا ضربته عن قدرات البشر العقلية فى مقال قديم؛ قلت: إن ذبابة تطن قريبا منى وأنا أكتب! ترى أتعرف هذه الذبابة شيئا عن الكتاب الذى أؤلفه؟ بداهة لا.. ما لها وله؟ كذلك علمى وعلم أمثالى بكنه بديع السماوات والأرض!!. على ما وراء ذلك!!. إننى لا أعرف كيف يتحول الخبز الذى أطعمه إلى خلية حية تحس داخل بدنى، قد تكون جزءا من السمع والبصر!. وقررت أن أهمل السؤال المطروح! إننى وآبائى من سلف وخلف مجمعون على إعظام الله، وعلى استحقاقه كل كمال «الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى» وما ثارت شبهة فى نفس أحد حول هذه الحقيقة، فما الذى حدث؟ الذى حدث أن البعض نظر إلى آيات الصفات، فأجاب عن السؤال الذى عرض لى بإحدى إجابتين: فإذا قال الله سبحانه: «الرحمن على العرش استوى» قال: هذا تعبير مجازى عن انفراد الله بالسلطان المطلق فى ملكوته، فهو الغالب على أمره، والقاهر فوق عباده، وليس التربع على العرش كما يسبق إلى الأذهان عادة.. ويقول آخر: كلا، الآية على ظاهرها الحقيقى، وهو الجلوس، ولكنه ليس على ما يفهم الناس، إنه استواء اختص به الخالق الذى ليس كمثله شىء. وكان يمكن أن يقف الخلاف عند مراحله القريبة، وينصرف الفريقان كلاهما إلى ساحة البناء الأخلاقى والاجتماعى والسياسى.. فإن سلفنا الأول من صحابة وتابعين أعرض عن هذه المقولات، ولم يفكر فيها، وخلص للتعليم والدعوة فى نطاق الآيات المحكمات. لكن أمورا لا نفصلها هنا جعلت كلا الفريقين يمضى على وجهة إلى نهاية الطريق. فإذا القائلون بالمجاز ينتهون إلى ما يشبه التجريد والتعطيل، وإذا القائلون بالحقيقة يكادون يقعون فيما فروا منه، من تشبيه..!!. آدم على صورة الرحمن». لقد تساءلت: فما معنى قوله تعالى: «وليس كمثله شىء» إذا كان آدم على صورة ربه!!. كلا الفريقين ابتعد عن سلف الأمة، منطقا ومسلكا، ولو أن أمتنا شغلت نفسها بهذا اللون من المعرفة أول تاريخها لبقى الإسلام محصورا داخل جزيرة العرب. ولو سمحنا لهذا الفكر أن ينتعش وتتسع مباحثة فسيقضى على الإسلام فى أنحاء العالم، ويتعرض لهزائم ماحقة.. لقد لاحظت أن غلبة الحس على بعض الناس تجعله يتخيل أن الله يغادر عرشه هابطا إلى السماء الدنيا كى يرحم المسترحمين، ثم يعود مرة ثانية إلى استوائه، وهذه سذاجة لا يعرفها سلف ولا خلف. وإنما دفع إليها ما يحشده البعض من آثار موهمة، لا صلة لها بالعقائد ولو صحت لأن العقائد مبناها على النصوص القطعية المتواترة.. وقد أنعمت النظر فى الخلاف القديم بين فكر السلف والخلف، فوجدته أدنى إلى الخلاف اللفظى!. إذ الإجماع منعقد على توحيد الله وتحميده وتمجيده، ونفى أى شائبة من نقص عن ذاته الأقدس.