نشرت صحيفة الخليج الإماراتية مقالا للكاتب يوسف مكى جاء فيه أن الحديث عن أزمة الثقافة العربية، هو جزء من محاولتنا المستمرة لتفكيك بعض المفاهيم التى سادت فى الواقع العربى، منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا، وإعادة تركيبها بما يتسق مع التحولات الكبرى التى شهدها العالم فى المئة وخمسين عاما المنصرمة. والحديث عن الثقافة العربية فى هذا السياق لا يحمل معنى متضمنا بخصوصيتها عن الثقافات الأخرى، وبكونها عصية على التغيير. فالحركة قانون عام، لا يشمل بيئة بعينها ويستثنى أخرى، وإن كانت سرعة الإيقاع تختلف بين مجتمع وآخر، تبعا لعوامل موضوعية وتاريخية لا يمكن تجاوزها. الثقافة بشكل عام، هى نتاج مجموعة من العناصر التى تراكمت عبر حقب طويلة ممتدة، ذات العلاقة بالعادات والتقاليد، ومن ضمنها الفولكلور والفنون والمعتقدات. وجميع هذه العناصر، هى حاصل تفاعل حضارى وتداخل مع ثقافات إنسانية وافدة. الثقافة العربية فى واقعها الراهن بشكل عام هى نتاج واقع مأزوم، تعطلت فيه مراحل النمو لأكثر من سبعمئة عام، غابت فيها الأمة فى نوم طويل منذ احتل المغول عاصمة العباسيين وأغرقت مكتبة بغداد. ولتتناوب على البلدان العربية حملات غزو أخرى، انتهت بهيمنة سلطان الاستبداد العثمانى، وطفوح المياه الراكدة، وغلبة الشعوذة والجهل على التجربة والعلم. وحين برزت حركة اليقظة العربية، فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، لم تكن هذه الحركة نتاج تطور تاريخى، بل صدى كاريكاتوريا واهنا لأفكار سادت بالقارة الأوروبية وارتبطت بالتحولات الاجتماعية والسياسية والعلمية الكبرى فيها. لم يتمكن قادة حركة اليقظة العربية من توطين تلك الأفكار. واصطدمت هذه الحركة وهى لما تزل بعد يافعة، بجنازير الدبابات والمدافع الغربية واتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور. وفى صخب العجز عن التصدى والمواجهة للمحتل الجديد، تاه التمييز بين حداثة الغرب ومبادئه، والتطورات الفكرية التى حملها والتى باتت مطلبا كونيا، وبين عنف المحتل. فكانت النتيجة العودة بقوة لفكر ما قبل الحداثة، وتأجيل مشروع النهضة إلى مراحل لاحقة، لم تجد حتى هذه اللحظة آفاقا مفتوحة لها بسبب تغول الاستبداد وتجريف الحياة الثقافية فى المشهد العربى بأسره. ذلك لا يعنى عدم وجود استثناءات لهذه القاعدة، ولكن تمظهرها لا يشى بأى أفق للخروج من الانسداد التاريخى الذى ما زال يلقى بكلكله على معظم مظاهر الحياة فى مجتمعاتنا العربية التى فقدت مناعتها، وباتت مهيأة للتشظى والسقوط فى أودية سحيقة. لقد فقدت تمظهرات ثقافتنا القديمة، لكن أحداث الست سنوات التى انقضت، أكدت بما لا يقبل الجدل رسوخ عناصرها، فى العمق بمنظومة قيمنا الراهنة وهى عناصر بعيدة عن التسليم بالعلم الحق والعمل الحق، والالتحاق بالعصر الكونى الذى نحياه. ثقافتنا فى حيرة بين الأصالة والمعاصرة، وبين الشك واليقين. نشك حيث يجب أن نتيقن، ونتيقن حيث يترتب الشك. تهيمن على سلوكنا الخرافات والخزعبلات، ونرتعش خوفا من السحرة والمشعوذين الذين لا يملكون من أمرهم شيئا، والذين جعل العلم الحق منهم شيئا من الماضى العاجز والمقيت. وتسودنا الشكوك فى منجزات العلم، فى كل مجالاته الحية، من كيمياء وفيزياء وجبر وعلم أحياء، وليس فقط فى النظريات العلمية الفلسفية. مفكرونا يعيشون ثقافة الاستقراء، وليس ثقافة التجربة. علاقتهم بالعلم علاقة تلقين وليس تحليلا وتفكيكا وإعادة تركيب. ومفاهيمهم للأنا والآخر متبلدة ومتكلسة. فى الاستقراء، هناك إخضاع قسرى للمنجز العلمى، ليكون جزءا من تركيبة الثقافة الراكدة. وفى التجربة تفتح أبواب الكشف العلمى والإنسانى على مصاريعها من غير حدود. فى ثقافتنا تعميم للاستشراق والتغريب، وانفصام فى الرؤية لما حولنا من الحضارات. نقتبس ونستهلك كل شىء من لبوس الحضارة، ونرفض فى الآن ذاته كل شىء. ونتعامل مع نتاج الاستشراق كله، ككم مهمل ولكننا بأثر رجعى، نعود له عودة النفعى أو العاجز، حيث لا يتوفر فى مكتباتنا بديل عنه. وحين نعود لذلك، فإن الرجعة تكون بحماس منقطع النظير، رجعة مصابة بالعمى فلا نعود نميز بين الغث والسمين. وفى كل هذا نتناسى أن تعبير الأنا والآخر، هو تعبير نسبى، قابل للأخذ والنقاش. فمن يضمن ألا يكون الآخر، بين ظهرانينا ومن أبناء جلدتنا، وأن الأنا قد يكون قابعا بعيدا عنا آلاف الأميال، ولكنه يقف معنا ويتفهم قضايانا، ويناصرها حيثما أمكنه ذلك. ومن يتابع ما يجرى من تعاطف متصاعد مع القضية الفلسطينية فى القارة الأوروبية، والغرب عموما، ومن يراقب ما يجرى من صراع محتدم بين الفلسطينيين أنفسهم، على وهم السلطة... بين رام الله وقطاع غزة، والعجز عن التوصل إلى برنامج كفاحى يضمن الحقوق ولو فى الحدود الدنيا وأيضا تراجع الاهتمام العربى بالقضية المركزية، يتأكد له أن الأنا يمكن أن يوجد فى آخر زوايا الكرة الأرضية، وأن الآخر، يمكن أن يجثم بقوة فى صدورنا، وفى أنسجتنا وخلايانا. تسبب النظرة الضيقة للثقافة، فى مراكمة الخصوم، بدلا من مضاعفة خانة الأصدقاء. وتضيع علينا فرص كبيرة، كان بالإمكان استثمارها لخدمة قضايانا العادلة. القضية ليست استبدال مفهوم بمفهوم، أو تعديل هنا وتشطيب هناك. فما تحتاجه ثقافتنا هو معالجات جذرية، تخرج بنا من نفق الأزمة الراهنة. وفى المقدمة من ذلك تجاوز غربتنا التاريخية، وتحقيق المصالحة بين الجغرافيا والتاريخ. ولن يكون بإمكاننا أن نتحول إلى ترس فاعل فى المسيرة الإنسانية الصاعدة إلى الأمام، إلا بخلق آليات وهياكل جديدة، وتحقيق الإصلاح بكل ما يحمله ذلك من معان، وبناء الدولة العصرية، دولة المؤسسات، وجعل كل أطرها فى خدمة الإنسان.