جرت العادة على وصف الحياة السياسية فى إيطاليا، مع توالى انهيار الحكومات الائتلافية، بأن الوضع «ميئوس منه لكنه ليس خطيرا»! غير أن العكس يبدو صحيحا فى حالة إسرائيل بعد انتخابات الثلاثاء الماضى. ورغم أن كتلة اليمين فازت بالأغلبية، إلا أنه من السابق لأوانه إعلان فشل حل الدولتين، وموت عملية السلام فى الشرق الأوسط. إلا أن هناك ثلاثة أسباب تدفعنا للاعتقاد أنه ما زال هناك أمل: 1 القوة المفاجئة التى حظت بها تسيبى ليفنى، كرئيسة حزب الوسط كاديما. 2 الخبرة الأليمة لفترة ولاية بنيامين نتنياهو الأخيرة كرئيس لحكومة الليكود اليمينية. 3 النظرة المتأنية لموقف أفيجدور ليبرمان الحقيقى من التسوية المتعلقة بالأراضى. وأسفرت الانتخابات عن ثلاثة فائزين كبار، ليفنى ونتنياهو وليبرمان، فعودة ليفنى فى الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية، ساعدت على وضع حزبها كاديما فى الصدارة، ورغم أن الأداء السيىء لحزب العمل، الذى جاء فى المركز الرابع سيجعل من المستحيل عليها حشد أغلبية ليسار الوسط فى الكنيست إلا أنه لا يمكن تجاهلها فى المقايضات التى بدأت بالفعل. كما أن بقاء كاديما خارج الحكم، يعنى أن الائتلاف اليمينى سوف يحكم بأغلبية ضئيلة، ما يتيح لأى من الأحزاب الثلاثة الأصغر القدرة على إسقاط أى حكومة، الأمر الذى سيحيل حلم نتنياهو بالعودة لمنصب رئيس الوزراء إلى كابوس، وهو يعلم ذلك تماما فقد ذكر لى مؤخرا أنه يعتبر نفسه قد أخطأ عندما لم يشكل حكومة وحدة وطنية مع شيمون بيريز، زعيم حزب العمل، الذى فاز عليه نتنياهو بفارق ضئيل فى انتخابات 1996. ولم يكن أمام نتنياهو، الذى صار وقتها رهينة أربعة أحزاب يمينية صغيرة، خيار سوى زيادة النشاط الاستيطانى، وتعطيل أى عملية سلام قد تقتضى منه التخلى عن أراضى الضفة الغربية. وفى المرة الخيرة التى وجد نفسه فى هذا الموقف، دمر علاقته بالرئيس بيل كلينتون أولا، ثم، عندما تنازل عن قطعة صغيرة من الضفة الغربية ليستعيد ثقة كلينتون، انهار الائتلاف الذى شكله. ومُنِى بهزيمة أمام حزب العمل فى الانتخابات التالية فى مايو 1999. هذه المرة يدرك نتنياهو أنه سيتعامل مع رئيس أمريكى يحظى بشعبية كبيرة، قرر أن يولى حل النزاع الإسرائيلى الفلسطينى أولوية فى أجندته، ولذلك عين أوباما جورج ميتشل كمبعوثة للسلام فى الشرق الأوسط. لاشك أن نتنياهو يتذكر أن ميتشل عندما شارك آخر مرة فى مساعى السلام عام 2001، كان قد أوصى بتجميد النشاط الاستيطانى «بما فى ذلك النمو الطبيعى» الذريعة التى استخدمها نتنياهو لمواصلة توسيع المستوطنات. ويعنى هذا أن نتنياهو إذا شكل حكومة يمينية، ربما يجد نفسه بين نارين؛ مطالب أمريكية بتجميد المستوطنات والتنازل عن معظم الضفة الغربية لإنجاز حل الدولتين، ومقاومة شركائه فى الائتلاف لأى تسوية تتعلق بالأراضى، وستكون حياة نتنياهو كرئيس للوزراء بائسة وقصيرة، بدون وجود حزب كاديما بزعامة ليفنى فى ائتلافه بما يحققه من توازن. أما ليبرمان، المهاجر الروسى الذى عمل مديرا لمكتب نتنياهو عندما كان الأخير رئيسا للوزراء، فهو يحتاج كاديما أيضا، لأن حزبه «إسرائيل بيتنا» لا يمكنه البقاء فى حكومة تتضمن أحزابا دينية. ولاشك أن ليبرمان وفقا لأصوله الروسية علمانى، بما لذلك من أثر سلبيا على الأحزاب الدينية مثلما هو على العرب، فالمهاجرون الروس يريدون الزواج المدنى، والمناقشات الحرة، والإصلاح العلمانى. ويعلم ليبرلمان أنه لا يستطيع الوفاء بذلك ما لم تسيطر الأحزاب العلمانية مثل الليكود وكاديما وإسرائيل بيتنا على أغلبية الحكومة. كما يحتاج ليبرمان إلى كاديما أيضا من أجل ترويج الحل الذى يطرحه لحل نزاع إسرائيل مع الفلسطينيين، فعلى العكس من الليكود وغيره من الأحزاب اليمينية، يطرح ليبرمان حلا ديموجرافيا وليس جغرافيا، فهو يسعى لدولة يهودية خالصة بقدر الإمكان، وهو مستعد للتنازل عن معظم الضفة الغربية والضواحى العربية من القدسالشرقية إلى دولة فلسطينية تضم البلدات العربية فى شمال إسرائيل مقابل الكتل الاستيطانية فى الضفة الغربية التى ستدمج فى إسرائيل. ويعتبر الحل كما يطرحه ليبرمان شديد الصعوبة، لأن من شأنه أن يحرم عرب إسرائيل المقيمين فى هذه البلدات العربية من حقوقهم، الأمر الذى لا يتوقع أن تدعمه ليفنى غير أن ذلك لا يمنع مشاركة كل منهما فى ائتلاف حكومى مع الآخر، وكان ليبرمان بالفعل عضوا فى حكومة إيهود أولمرت بقيادة كاديما لمدة تزيد على عام. وبطبيعة الحال، فليس من الضرورى أن ينجم عن مباحثات الائتلاف نتائج منطقية. غير أن نتنياهو وليبرمان، بصدد إجراء مباحثات، قد تستغرق أسابيع، ولديهما مصلحة قوية فى تشكيل حكومة مع ليفنى، حتى يساعد تجميع القوى الثلاث على تحقيق ائتلاف مستقر يضم 70 مقعدا من مقاعد البرلمان الإسرائيلى البالغ عددها 120 مقعدا. وربما لا يسفر ذلك عن إيجاد شريك إسرائيلى نموذجى للرئيس أوباما، لكنه سيكون مثلما تؤكد ليفنى شريكا قادرا على الأقل على تجميد المستوطنات والتنازل عن أراضى الضفة الغربية، بشرط أن تبرز الأزمة السياسية الفلسطينية الحالية لاعبا قادرا ومسئولا. وحتى السيناريو الأسوأ وهو المجىء بحكومة يمينية بزعامة نتنياهو قد يستطيع تحقيق تقدم فى عملية السلام، لكن مع السوريين وليس الفلسطينيين. فعندما كان نتنياهو رئيسا للوزارة فى المرة الماضية، وواجه ضغوطا من كلينتون من أجل التعامل مع الفلسطينيين، حاول بحث اتفاق سلام سرا مع السوريين، ابدى فيه موافقة، حسب رواية الوسيط فى الاتفاق، على التنازل عن مرتفعات الجولان بالكامل، وهو ما جرى عليه العرف بين زعماء اليمين الإسرائيلى فكان مناحم بيجن هو الذى تنازل عن سيناء لمصر من أجل السلام، وآرييل شارون من أخلى غزة ليواصل بناء المستوطنات فى الضفة الغربية. وسوف يخدم تحويل أوباما إلى المسار السورى، مع عرض ما أطلق عليه نتنياهو «السلام الاقتصادى» على فلسطينيى الضفة الغربية، الذى قد يخدم المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية والأمريكية معا: من شأن ذلك قطع طريق الدعم الإيرانى لحزب الله، وتوليد الفرقة بين سوريا وإيران والضغط على حماس من أجل تحقيق مصالحة، وتوفير غطاء للتعاون مع إسرائيل. وهكذا، فقبل أن نرتدى جميعا ثياب الحداد، ونصلى صلاة الجنازة على روح عملية السلام، علينا أن نضع فى أذهاننا أنه بقدر ما يبدو الأمر قاتما غالبا، وطالما يواصل رئيس أمريكى المحاولة، يظهر دائما شىء ما فى الشرق الأوسط، وهو أمر ليس سيئا دائما. Copyright(2009). All rights reserved by New York Times Syndication Sales Corp. This material may not be published, broadcast or redistributed in any manner.