ليس عندى أى دفاع عن المفطرين فى شهر رمضان بغير عذر. لكنى فى الوقت ذاته أستغرب ما تردد عن أن الشرطة قامت بملاحقتهم فى محافظة أسوان. وهو ما صرت مستعدا لتصديقه بعدما وجدت أن وزارة الداخلية فى المملكة السعودية رعت مؤتمرا للأمن الفكرى، وبعدما وجدتهم فى المملكة المغربية أصبحوا يتدحثون عن الأمن الروحى. حتى خطر لى فى لحظة أن تكون ملاحقة الشرطة للمفطرين من مقتضيات توفير ذلك الأمن الأخير. لا أخفى أن الأمر أصابنى بالدهشة لأول وهلة، لأن مسألة الملاحقة هذه جديدة على المجتمع المصرى. وقد لاحظت أن بعضا من مثقفينا تصيدوا الخبر ونفخوا فيه، وراحوا يندبون حظ البلد فى آخر الزمان، وهؤلاء من جماعات المتربصين الذين لا يكادون يلمحون خطأ يرتكب أو زلة فى سلوك أهل الملة، إلا والتقطوها وراحوا يهولون منها، واستخدموها للتشهير بالمتدينين وربما فى ذم التعاليم ذاتها، وهو مسلك يفتقد إلى البراءة فضلا عن الإنصاف. ذلك أنه لا يسىء فقط إلى مشاعر جموع المتدينين ويشوه صورتهم، لكنه أيضا يؤدى إلى تشتيت الوعى العام وصرف الانتباه عن القضايا الكبيرة. ومن يلاحظ كيف تعامل أولئك النفر من المثقفين مع قصة الصحفية السودانية التى حوسبت لارتدائها سروالا، ومع الفتاوى الغربية التى صدرت عن البعض بخصوص بول الرسول وإرضاع الكبير وتزغيط البط، يتصور أن مجتمعاتنا فرغت من همومها كلها وصارت مشغولة بهذه الأمور التى لم تعد تمثل أى قيمة فى ساحة الفكر أو الواقع، لكنهم تشبثوا بها حتى أصبحت تحتل موقعا ثابتا فى كتاباتهم وكأنها أصبحت مراجع للفكر الإسلامى المعاصر ومصدر إلهام لكل الناشطين. لقد حاولت التحقق من صحة الخبر الذى نشر عن قيام شرطة أسوان باعتقال 150 شخصا بتهمة الجهر بالإفطار فى شهر رمضان. ودهشت حين رجعت إلى أكثر من مصدر فى أسوان، واتفقت كلمتهم على أن الخبر غير صحيح، وأن الشرطة لم تقم بأى إجراء فى هذا الصدد. مع ذلك فإن الخبر كان له صداه فى أوساط القراء، الذين كان لى نصيب من تعليقاتهم. فمن قائل لماذا تلقى الحكومة القبض على المفطرين فى حين أن برامج التليفزيون يعد أغلبها من المفطرات. وقائل إن موقف الحكومة يدعو إلى العجب حقا فإذا تدين الناس ونشطوا فإنها تلقى القبض عليهم. وإذا لم يتدينوا وأفطروا فى رمضان القت القبض عليهم أيضا، وتساءل قارئ عما إذا كانت الحكومة بهذه الخطوة تحاول أن تمس من صورتها وتمسح سيئاتها الكثيرة. إذا صح النفى الذى حصلته فهو يؤكد فكرة الاصطياد من جانب المثقفين المتربصين. إذ سارع هؤلاء إلى التنديد بأمر لم يبذلوا جهدا فى التحقق من صحته، مع ذلك فإن الشائعة توفر مناسبة للتذكير بأنه فيما يخص السلوكيات فضلا عن العبادات فإنه لا ينبغى اللجوء إلى إجراءات السلطة أو أدواتها لتقوم بمهمة التصحيح والتقويم، إلا إذا شكل ذلك السلوك عدوانا على النظام العام وعلى حقوق الآخرين وحرياتهم أو ما يعد منه خدشا للحياء العام. مع ذلك ينبغى أن يظل الأصل هو التوجيه والتربية والدعوة بالتى هى أحسن، وإذا كان لابد من نصح أمرا بالمعروف أو نهيا عن المنكر، فإن ذلك له أدبه وأصوله وموازناته، التى تخلو من إجبار أو إكراه فضلا عن أنه لا علاقة للسلطة بها. علما بأنه فيما خص العبادات تحديدا، التى هى بين العبد وربه، فإن التقصير فيها ينبغى أن يترك أمره لصاحب الأمر يوم الحساب. لقد حمدت الله على نفى خبر القبض على المفطرين، ليس فقط انطلاقا من الدفاع عن حريات الناس وخصوصياتهم، ولكن أيضا لأن ذلك طمأننا إلى أن ثمة مساحة فى حياتنا لا يد للشرطة فيها، بحيث نستطيع أن نمارس فيها حريتنا بعيدا عن نفوذها. ذلك أننا أصبحنا نطمئن أكثر كلما وجدنا أن أصابع الأجهزة الأمنية بعيدة عنا، إذ بعدما عانينا الكثير فى، ظل شعار الشرطة فى خدمة الشعب، فإننا أصبحنا نتوق إلى يوم يصبح الشعب فيه خارج تلك «الخدمة».