قبل أسابيع قليلة اتهمت هيئة الرقابة الإدارية مدير المشتريات فى مجلس الدولة بالرشوة وتم القبض عليه بالفعل، ويخضع للمحاكمة الآن. حينما حدث ذلك، تصورت أن كل شخص يمارس هواية الرشوة سوف يتوب، أو على الأقل «يلم نفسه» ويهدئ أو يجمد نشاطه، لكن يبدو أن «النفس أمارة بالسوء». فقبل يومين ضبط ضباط الهيئة أيضا مدير المشتريات بوزارة التخطيط متلبسا بتقاضى رشوة من إحدى الشركات الموردة لأجهزة الكمبيوتر قدرها 1.3 مليون جنيه، مقابل حصولها على معلومات عن عروض الشركات المنافسة. وفى اليوم نفسه، تم القبض على موظفين بمصلحة الضرائب العقارية بتهمة تقاضى رشوة قدرها 150 ألف جنيه من أحد ملاك العقارات بمدينة نصر. فى الشهور الأخيرة زاد نشاط ضباط هيئة الرقابة الإدارية بصورة ملحوظة فى مطاردة الفاسدين، وهو جهد مشكور، ينبغى أن نحييهم عليه، ونتمنى منهم المزيد حتى يقتنع«السادة المرتشون» أو كل من يفكر فى سرقة المال العام والإفساد فى الأرض، إنه لن يفلت من العقاب وأن الثمن الذى سيدفعه سيكون باهظا. لا أحب كلمات الوعظ والإرشاد، لكن الذى لفت نظرى أن ظواهر الفساد والإفساد صارت كثيرة لدرجة تجعل المرء يقلق على المجتمع بأكمله، ونتساءل: هل نستطيع أن نقضى فعلا على الفساد؟! لا أتحدث عن الحكومة الحالية وسياساتها أو حتى عن العصر الحالى، بل عن الحالة التى وصل إليها المجتمع بفعل تراكم سنوات الفساد والإفساد طوال أكثر من أربعين سنة بدأت ربما فى عصر السادات مع سياسات الانفتاح العشوائية عام 1974. لا أتحدث فقط عن السياسات الاقتصادية، بل عن منظومة القيم والأخلاق والثقافة والتعليم التى تجعل غالبية الناس يتقاضون الرشاوى ويأكلون المال الحرام من دون أن يرمش لهم جفن!. أن يحصل شخص أو مسئول على رشوة، أو يعطل مصالح الناس فتلك جريمة، لكن أخطر عوامل وظواهر الفساد من وجهة نظرى هى إفساد التعليم وتدهوره، لأنه يقوم بتخريج جيوش من الجهلة وغير الأكفاء، حتى لو كان ضميرهم يقظا ويؤدون الصلوات الخمس فى مواقيتها، فتخيلوا أن يكونوا جهلة وضميرهم ميت وأخلاقهم منحطة!. هذه الفئة الأخيرة هى البيئة المثلى للفساد والإفساد. هل تدركون خطورة النموذج المتكرر الموجود فى غالبية المصالح الحكومية، خصوصا فى المحليات والأحياء، حينما يتلقى الموظف ورقة مالية «مكرمشة او مفرودة» تتراوح بين عشرين إلى مائة جنيه أحيانا، ويضعها بكل ثقة فى جيبه أو درج مكتبه، ثم يقوم ليتوضأ ويصلى الظهر أو العصر بضمير مستريح. الفساد الحقيقى من وجهة نظرى أن هذه النوعية زادت بنسبة كبيرة فى المجتمع، وبدأت تتعامل مع هذه الرشاوى ذات المسميات المختلفة من أول «إكرامية» إلى «الشاى» أو «صباح الخير» باعتبارها حقوقا مكتسبة. أما الأخطر فهو اقتناع من يقدمونها بأنها شىء عادى وطبيعى، وأن هؤلاء مظلومون ولا يحصلون على أجر عادل، وبالتالى وجب إكرامهم!. وحتى إذا سلمنا بهذا الكلام الغلوط والملتوى، فما الذى يدفع مسئولا كبيرا أن يرتشى بملايين الجنيهات.. هل هى الحاجة أم الطمع أم الفساد الشامل؟!. مرة أخرى جيد أن تقوم الرقابة الإدارية وسائر أجهزة الدولة ذات الصلة بتعقب ومطاردة ومحاربة الفاسدين، لكن لابد أن يقترن ذلك باستراتيجية ورغبة حقيقية فى مقاومة الفساد، خصوصا ذلك النوع الذى يتخفى خلف لافتات وتشريعات قانونية، والأهم القضاء على المناخ الذى يفرز ويشجع على الفساد. عندما يحصل مستشار على مكافأة مالية ضخمة بالقانون، فإنه يهدر حق الآلاف فى الحصول على رواتب معقولة، وعندما تكون هناك قوانين تحمى الفاسدين، فإنها تجعل الغالبية تكفر بأى أمل فى الإصلاح. خلاصة القول أن إصلاح هذا البلد لن يتم إلا بضرب كل رءوس الفساد وذيوله أيضا.