ليس عيبا أن يكون لأى وسيلة إعلامية موقف سياسى خفى أو معلن، لكن الكارثى أن تتخلى عن مهنيتها وتضلل قراءها أو مشاهديها. على عهدة تقرير بثه موقع بى بى سى الإلكترونى فى 13 نوفمبر الحالى، فإن من بين الصحف الأمريكية المائة الأوسع انتشارا فإن صحيفتين فقط كانتا مع دونالد ترامب الرئيس الأمريكى المنتخب، والباقى كله مع هيلارى كلينتون. ومن بين 200 صحيفة حصل ترامب على دعم 20 صحيفة فقط. ورغم كل هذا الحشد فاز ترامب، ليس فقط على هيلارى كلينتون ولكن على الصحافة والفضائيات وغالبية وسائل الإعلام التقليدية التى اصطفت ضده بطريقة غير مسبوقة. ترامب تبنى خطابا عنصريا متطرفا وفاشيا خصوصا ضد المسلمين والأقليات، لكن هذا ليس موضوعنا اليوم. الموضوع الجوهرى الذى يهمنا كإعلاميين اليوم هو الآتى: إذا كان يحق لأى وسيلة إعلام أن تتبنى موقفا من أى قضية، فهل يعنى ذلك أن تخفى الحقيقة عن قرائها أو مشاهديها. صحيفة «سان دييجو يونيون تربيون» ظلت طوال تاريخها الممتد 148 عاما تنحاز لأى مرشح جمهورى فى الانتخابات، لكنها هذه المرة خالفت خطها العام وانحازت لهيلارى كلينتون. معروف بالطبع ان الصحف والفضائيات الامريكية تعلن قبل الانتخابات الرئاسية بأيام قليلة موقفها مع هذا المرشح أو ذاك، وتبرر للقراء أو المشاهدين اسباب ذلك. لكن السؤال الجوهرى مرة اخرى هو: هل يحق لها ان تتجاوز فى القواعد المهنية؟! للأسف فإن غالبية وسائل الإعلام الأمريكية التقليدية وقعت فى هذا الفخ، وثبت أنها تناست وتجاهلت الكثير من القواعد المهنية البديهية، حينما ركزت فقط على سلبيات ترامب، دون أن تكشف لجمهورها ان غالبية الديمقراطيين لم يكونوا متحمسين ليهلارى وربما كانوا أكثر ميلا إلى بيرى ساندرز، تحدثت عن ارقام صماء ولم تنزل إلى الميدان لتنقل الحقيقة. وربما كانت وسائل التواصل الاجتماعى الأمريكية اقل انحيازا وأكثر صدقا، لأنها نقلت على الأقل جانبا كبيرا من الواقع. وإذا كان هذا هو حال الصحافة والفضائيات الأمريكية، فقد كان طبيعيا أن تقع غالبية الإعلام العربى فى نفس الفخ، خصوصا أن معظمها ينقل نقلا حرفيا من الإعلام الأمريكى والغربى. الإعلام العربى كان منحازا أيضا فى معظمه لكلينتون. شاهدت فضائيات تستعين بخبراء يتحدثون عن أن ترامب خاسر لا محالة، ومن دون ان يكلفوا أنفسهم عناء النظر إلى الجانب الآخر من الصورة. ربما كانت فضائية «سكاى نيوز عربية»، قد خالفت هذا الانجراف الأعمى، وسارعت بإرسال ألمع مذيعيها ومراسليها إلى الولاياتالمتحدة، ومنهم الإعلامى الكبير عمرو عبدالحميد الذى كان يقدم فقرة يومية عن مجريات الانتخابات، وبعده المذيعة إيمان لحرش. وكان المهم هو وجود مراسل لها فى مقر حملة ترامب. واستضافت خبراء ومعلقين من المعسكرين. البعض ركز على التكنولوجيا والصور ذات الابعاد الثلاثية، وهو أمر تقنى مهم، لكن ما كان يهم القارئ والمشاهد أكثر هو الصورة المتكاملة. فى حين أن فضائيات أخرى كانت عريقة جدا وتقول انها تتبنى الرأى والرأى الاخر، قد وقعت فى فخ التبشير والانحياز الأعمى لهيلارى كلينتون انطلاقا من موقع سياسى ايديولوجى مسبق وليس من الاعتبارات المهنية. وكان عكس ذلك فى بعض وسائل الاعلام المصرية ليس انحيازا للقيم المهنية ولكن كرها فى هيلارى وحزبها الديمقراطى!!. مرة أخرى كتبت قبل ذلك وأكرر اليوم، ان خطاب ترامب فى حملته الانتخابية خطر على العالم والإنسانية وعلينا كعرب ومسلمين. لكن أتحدث اليوم عن خطورة غياب القواعد المهنية فى التعامل مع أى قضية. لان النتيجة أننا استيقظنا على خبر لم نكن نتصور مطلقا أنه سيحدث. ولذلك فان التمسك بالمهنية هو العاصم الرئيسى من الزلل. لكن هل لاحظتم أن الإعلام ليس هو الوحش الكاسر القادر على كل شىء كما يعتقد البعض؟!. وإنه فى أفضل الأحوال يؤثر إلى حد ما، لكنه لا يخلق شيئا من العدم، والأهم لا يغير كثيرا من الحقائق على الأرض. إعلام أمريكا وكل العالم حارب ترامب بضراوة، لكنه لم يستطع منعه من الفوز.