أن تمضى حياتك فى بلد لا يعرف إلا الفصل أو الفصلين هو أن تفتقد متعة تلون الفصول فتبقى أو تفضل أحيانا أن تلعن الفصول الأخرى. ولأن العرب أكثروا الغناء والتغنى بالربيع فراحت الفصول الأخرى خارج حساباتهم بل تحولت مرات إلى مجرد فصول بلا لون وطعم، أو ربما رسمها وكأنها تبعث على الكثير من الكآبة. أن تكون فى مدينة تعرف تلاوين الفصول هو أن تكون فى نيويورك بعيدا عن صخب تايم سكوير وقريبا من تلاوين سنترال بارك. هو أن تسقى عينيك بدرجات الأصفر من ورق الشجر المتساقط منه الذى يكسو الأرض وذاك الباقى على ما تبقى من الشجر. الخريف الفصل الذى ظلمه الكثيرون منا ربما لقلة المعرفة به أو لأننا نستخدم تعابير مثل خريف العمر ونربطه بكثير من السلبيات غير مدركين أن لكل مرحلة من العمر جمالها الخاص، خاصة وقد أصبح العالم مهووسا إلى حد الجنون بالمحافظة على الشباب من ازدحام المصطفين على عمليات التجميل من نساء ورجال وحتى شباب فى مقتبل العمر خوفا من أن تسرق منهم تلك الملامح أو نتيجة لحملة بشعة قامت بها الكثير من الشركات وبعض أطباء التجميل الذين تحولوا من قسم أبقراط إلى مجرد تجار فى أسواق الاستهلاك. هى بعض أو تلك التعابير والثقافة الجديدة على مجتمعاتنا التى ساهمت هى الأخرى فى وضع الخريف فى تلك المرتبة من السواد والوجوم. يفرض الخريف نفسه على المدن المتلونة، تلك التى تعرف أن هناك فصولا أربعة فى العام وليس فصلا واحدا، صيفا كثيرا أو صيفا متوسطا أو صيفا قليلا! أن يكون هناك صيف حار حد التخلى عن أكثر قطع من الملابس وهذا أمر يبدو طبيعيا جدا ويتماشى مع النمط الطبيعى للبشر وعكس من يتصور أن يتحمل غيض الصيف القاسى وهو أو هى تراكم قطع الأقمشة واحدة فوق الأخرى استعدادا لجهنم التى ستكون أقسى فى نهاية المطاف، غير مدركين أن الله عند كل الأديان أكثر رحمة من البشر وأنه غفور وهذه هى صفاته التى تعلمنا إياها. نفس الكتب التى يقرءونها بشكل مقلوب أو معكوس وهى نفسها التى تحولهم إلى شكل محنط لا يعرف سوى الكراهية. *** تتخلى الأشجار فى كثير من المدن ونيويورك إحداها، عن كثير من بقايا الخضار العالق من فصول سابقة. تتعرى الطبيعة وتعود لتكتسى بكل الألوان المشرقة من البرتقالى النارى حتى الأصفر الفاتح مرورا بالأحمر.. ترتسم ملامح جديدة ولا أمر أجمل من أن ترسم الطبيعة المزاج العام لمدينة فهى القادرة على إخراج سكان وضيوف تلك المدينة من طقس إلى طقس آخر ملىء بالبهجة الدافئة فهذه كلها ألوان الدفء النادر فى زمن برودة المشاعر حتى التجمد! تتساقط بعض الأوراق أو كثيرها فتغطى الأرض الأرصفة والشوارع والأعشاب فى الحدائق بكساء جميل يخلق موسيقاها الخاصة والأقدام تسير فوق الورق المتساقط فتخلق سمفونية الخريف الخاصة به. لا يمكن أن تسمع كل هذه الموسيقى فى فصل آخر من فصول السنة. كثيرون لا يدركون أن عملية تعرى الأشجار أو تخفيفها من عبء الكثير من الورق هو استعداد حقيقى لفصل الشتاء كما يفعل الكثير من البشر وخاصة منهم المقيمين فى المناطق الجبلية أو النائية حيث يعدون المؤن ويخزنون الأطعمة. هكذا تفعل الأشجار تستعد للانتقال من فصل إلى آخر، حيث فى فصل الشتاء يقل الغذاء ويكون من الصعب عليها أن تقوم بتغذية كل هذا الكم من الأوراق فتسقط لتبدأ حياة جديدة فى الشتاء ثم حياة أخرى فى الربيع وهكذا.. فالطبيعة أكثر احتفاء من البشر وإدراكا لمعنى تلاوين الفصول، فيما يتصور بعضنا أن الربيع هو فصل الرومانسية والحب والعشق. ربما يجد الكثيرون أن فصل الخريف هو الطقس الأكثر استعداد للبوح تحت شجر تعرى من الكثير وأرض رسمت الألوان الجميلة لتكون حضنا دافئا للأحبة عند الزواية وعلى الأرائك فى الحدائق الممتدة.. يقترب الأحبة ليلتحم الدفء بالدفء حيث تكون درجة المحبة الحقة.. تتعتق المشاعر فى حضور تلاوين الكون وكأنه هو الآخر يحتفى بهم.. هو الخريف إذن فأين يمكن أن تقوم الطبيعة برسم ملامح الإطار العام لاحتضان القلوب المتعبة. *** يأتى الخريف على نيويورك لتغتسل الأرض بكثير من فيض الغيوم التى لا تطيل البقاء فى سماء المدينة وما تلبث أن تبتعد فتعود الشمس تشرق لتخلق مزيجا من رائحة الشجر والأرض مع دفئها.. خليط من بقايا الصيف مع الشتاء القادم. فى الخريف ومع زخات المطر يعرف الكثيرون أن ذلك ما هو إلا لبعض الوقت وأن الشمس قادمة حتما فيبدو الاحتفاء بالمطر كالذى يغتسل لفرح قادم دوما، ومتلاحقين أو متلازمين المطر والشمس تطارد الواحدة الأخرى ومع كل حضور لأحدهما تتلون الأشجار أكثر وأكثر. هو الخريف مرة أخرى لا يمكن أن يكون هناك ربيع دون خريف ولا معنى للصيف والشتاء دونه.. هو الفصل الذى ظلمه بعضهم فأكثروا فى هجائه دون أن يعرفوا طعمه الحقيقى فى المدن المتلونة. ربما أننا بحاجة أن نعرف أسراره لندرك حجم تلاوينه ودفئه اللامتناهى. لا يمكن أن تكون فى نيويورك فى فصل الخريف وألا تتذكر «أوراق الخريف» تلك الأغنية الرائعة التى لا تموت ل«نكتنج كول».. بعض الأغانى كأوراق الخريف حقا لا تموت أبدا على الرغم من أن بعضهم ربطه كثيرا بالموت فهو الحياة التى لا تشبه أى حياة أخرى ربما. فخريف نيويورك هو حقيقة من أجمل ما يمكن أن تمنحه مدينة صاخبة للزائر القادم من مدن لا تعرف أن للطبيعة فصول إلا فى الأغانى وبعض كتب الجغرافيا!