حلوى المولد أسيرة ارتفاع الأسعار.. والباعة: الغلا علينا وعليهم.. المولد موسم وشْمِ المسيحيين لهويتهم الدينية على أجسادهم.. والنساء فى الصفوف الأولى على طريق ترابى معروف ضمنا لسكان المنيا ب«طريق الشرفاء» والذى يأخذ اسمه من قرية «الشرفاء» يحتضنه الجبل من جهة والخضرة من جهة أخرى، بينما يمرق نهر النيل من حين لآخر يشق الخضرة، تبدأ الرحلة لزيارة دير العذراء فى جبل الطير باستقلال احدى وسائل النقل، حيث تتراص المنازل الصغيرة على شريط أحد مصارف مجارى المياه، وبدون أى حدود فاصلة أو لافتات تتغير القرى على امتداد الطريق وصولا لقرية «نزلة حسين» المتاخمة لقرية «جبل الطير»، ووحدهم سكانها يعرفون تلك الحدود الوهمية. يُلقى الجبل بظلاله على خضرة متنوعة تنبسط أسفله يزيدها النخيل جلالا، ويضيف ظهور النيل من وقت لآخر فى الصورة بهاء وأشعه الشمس تترقرق كقطع الألماس على صفحته الزرقاء، ويختفى الضجيج كلما تناقصت عدد المنازل وحل مكانها الخضرة وحظائر الماشية، ولكن يأبى القبح أن تكتمل صورة ثلاثية الأبعاد فبقليل من نفحات النسيم التى تهب تعلو رائحة الصرف الصحى الذى يجرى فى المصرف وتزاحمت على سطحه أكوام القمامة، وعبثت رائحة العفن والفضلات بجمال تلك اللوحة. فى مشهد مهيب يتكدس المئات على درجات السلم التى تربط قمة الجبل بسفحه، يحمل الرجال المتاع وخاصة مواقد الجاز التى يستخدمونها فى الطهى، ترفع النساء الأطفال على رءوسهن وأذرعتهن بينما يزاحم باقى الأبناء فى الإمساك بطرف الجلباب، ويستند العجائز على السور أو يُمسك بهم الأحفاد، ويتعالى الصياح بحثا عن الضائعين فى تزاحم الصاعدين والهابطين. تحت أشعة الشمس وفى درجة حرارة أعلنتها هيئة الأرصاد الجوية 42 يتدافع المئات فى الأزقة الضيقة وصولا للكنيسة الأثرية فى الدير، وهى الكنيسة التى شيدتها الملكة هيلانة والدة الملك قسطنطين سنة 328م وهى منحوتة فى الصخر تكريما لزيارة العائلة المقدسة لهذه الأرض. بالرغم من عدم هطول الأمطار إلا أن الطين يُغطى معظم تلك الشوارع الضيقة مما يجعلها زلقة وصعبة خاصة أثناء التدافع، وتفوح رائحة الصرف الصحى نظرا لأن هذه المناطق محرومة من وسائل الصرف وتعتمد على شاحنات شفط الصرف. تختلط رائحة الصرف الصحى برائحة الذرة المشوى وساندويتشات «الحوواشى والسمين» والفواكه التى عطبت من الحرارة ففاحت حموضتها، بالإضافة إلى رائحة الدم المنبعثة من ذبح المواشى، وتجعل تلك الروائح المختلطة فى درجة حرارة مرتفعة وتكدس المئات فى حيز ضيق من التنفس عملية صعبة ويصبح الهواء أثقل، إلا أن الإيمان والبهجة لدى هؤلاء الذين جاءوا خصيصا من اجل الاحتفال بالعذراء يجعلان من تلك الصعوبات مجرد شكليات وتطوق البهجة رءوس معظم الموجودين من البسطاء. تتراص القبور والشواهد محفورة داخلها على جميع الطرق المحيطة بدير العذراء جبل الطير، ويرتفع كل منها عن الأرض حوالى 150سم، وبنيت المنازل بجوارها، كما بُنى فوق العشرات من تلك المقابر منازل صغيرة، فيجد الأطفال فسحة اللعب والركض فوق أسطحها المستوية وأمامها، ويختلط أصوات لعبهم وضحكهم بصمت ووحشة تلك القبور الأسمنتية. المجد للمهرجانات «للمولد صاحب وأغانيه غائبة» هكذا يمكن وصف الضجيج الذى طغى على مولد العذراء جبل الطير، وحلت أغانى المهرجانات محل الترانيم الدينية الخاصة بمدح صاحب المولد والتى اتبعت مؤخرا موسيقى أغانى المهرجانات إلا أنه رغم موسيقاها الصاخبة لم تصمد كثيرا أمام «آه لو لعبت يا زهر» و«مفيش صاحب يتصاحب»، وغيرها من المهرجانات الشعبية. لا يمنع هذا الجو الصاخب من تزاحم البسطاء على القساوسة وطلب البركة والدعاة منهم لأطفالهم، يبتسم القسيس ويضع يده على رأس الطفل ويهمس بالصلاة فى هدوء التى وإن قرر حتى تلاوتها بصوت عال لن يسمعها أحد، ويكتفى الأطفال بهز رءوسهم بينما يربّت ذووهم على صدورهم ثم يقبلون يد القسيس فى خشوع ويكملون سيرهم على درب المولد. قبل أن ينطلق مدفع الإفطار حيث واكب شهر رمضان احتفال مولد العذراء بجبل الطير لأول مرة منذ فترة طويلة يعاود اختلاط الأصوات مرة أخرى، تصدح السماعات بأغانى المهرجانات، ويحاول البعض تشغيل ترانيم من هواتفهم المحمولة، تعلو زغاريد النساء احتفالا بوفاء أحدهم بنذر، وتشدو مكبرات الصوت المعلقة على الجوامع البعيدة بالأذان، فيصبح من المستحيل التمييز بين أى من كل تلك الأصوات. لحظة نادرة تكتمل فيها صورة لمصر تقبل الجميع ويعيش فيها الكل بتناغم، وهى صورة محرومة منها محافظة المنيا بالذات، الأمر الذى دفع الأمن لفرض إجراءات استثنائية هذا العام من انتشار للقوات الخاصة وقوات الأمن على طول الطريق وتشكيل نقطة ارتكاز أسفل الجبل، للحؤول دون وقوع أى اشتباكات طائفية أثناء المولد خاصة بعد حادثة تعرية مسنة قبطية فى قرية «الكرم» مركز أبو قرقاص على أيدى مسلمين انتقاما من نجلها بعد إشاعة علاقة تجمعه بسيدة مسلمة. الوشم الدينى يتزاحم الشباب والرجال على أكشاك دق الصلبان والوشم المختلفة التى تتميز أغلبها بأنها ذات طابع مسيحى، وتصدر ماكينات الوشم أزيز مثير للقشعريرة، وعلى كرسى خشبى أمام احد الأكشاك تجلس فتاة صعيدية جميلة تتألم وتضغط على أسنانها لتتفادى الصراخ إلا أنها تظل تكرر بلكنة صعيدية عميقة وهى تنظر لرجل كبير فى السن «العيال يا عمى خد بالك امسكهم حلو»، تحاول مداراة وجهها عن عدسة الكاميرا فيُطمئنها الرجل بابتسامة ويبدو أنه أقل ريبة منها من التصوير. «دى بنت أخويا اللى بتدق الوشم.. هى بتحب القديس مارمينا وعملته السنة اللى فاتت بس اتمسح شويه.. وهى بتعيد عليه تانى.. أنا شخصيا مقدرتش استحمل غير دق الصليب.. انما هى جدعة وجامدة.. وانا فاكر السنة اللى فاتت جيه واحد بكاميرا برضو وصورنى» يوضح الرجل الذى يقف بجوارها لتشجيعها ويحمل عنها أطفالها لحين انتهائها إصرار ابنة شقيقه على اجتياز الألم مرة أخرى حتى تحصل على صورة واضحة لشفيعها. يدفع الآباء أطفالهم الصغار لدق الصلبان على أيديهم، منهم من يحتمل الألم ويعلو صراخه ويحوطه والده بقوة، ومنهم من يحاول الفرار بعد أن يسمع أزيز الماكينة وينجح فى أن يفلت من القبضة القوية، يحوم حول من سبقوه لينظر لأياديهم الموشومة والملطخة بالأزرق وتغطى الدموع خدودهم فيشعر بنشوة الانتصار لتجنبه مثل هذه المعاناة لوشم الهوية الدينية على الأجساد. حلاوة الصعيد تُسيطر الموضة المشوهة على ملابس النساء فى مصر، بعد أن تم اعتماد «تمصير» الأزياء العالمية بقطع زائدة لتناسب المجتمع المصرى، تفقد قطعة الملابس شكلها الطبيعى الذى صممت على أساسه، وتتحول إلى مجموعة من القطع غير المتجانسة، لم تعد على هويتها ولم تحصل بالزيادات على الهوية المصرية، ولكن فى قرى الصعيد المصرى أبقت المرأة المصرية على كثير من هويتها الشكلية وهو ما يتجلى بوضوح فى موالد صعيد مصر. كان الجلباب هو الزى شبه الرسمى لمعظم المتواجدات فى مولد العذراء جبل الطير، جلباب لا يشبه ما ترتديه النساء فى المناطق الشعبية فى القاهرة وريف الدلتا، وإنما جلباب ذو تصميم مختلف، النصف الأعلى محكم على أجسادهن ومكشوف من منطقة الصدر إما على شكل مربع أو سبعة، ومقسوم من الخصر ينسدل واسع فضفاض ويصل لبعد الركبة بقليل، ومن النساء من تلبس بنطلونا أسود ومنهن من تكتفى بالجلباب، وتطلق الطرحة السوداء المصنوعة من قماش يشبه التُل على رأسها ويتدلى من الخلف على ظهرها. تكحلت أعين النساء بكحل شديد السواد، وتشابهت النسوة العجائز اللواتى تعكسن وجه مصر الأصيل فى ارتدائهن تلك العقود المكونة من حبات بلاستيكية ملونة فى أعناقهن المكشوفة. يهرع الجميع كبارا وصغارا لركوب المراجيح، ومؤخرا أصبحت العربات العائمة فى حمام سباحة بلاستيكى أكثر الألعاب جذبا للأطفال، وتجلس الأمهات والجدات برفقة الأطفال فى العربات المعلقة فتطاير طرحهن السوداء كلما ارتفعت فى الهواء وتنطلق ضحكاتهم البريئة فيرفعن أياديهن لإخفاء أفواههن بخجل. بعد أسبوع من الحياة والمرح والصخب والخيام المنصوبة من ملاءات بسيطة، وخفوت صوت مواقد الجاز وغياب رائحة طهى الطعام، يُختتم مولد العذراء بجبل الطير باحتفالات الليلة الكبيرة مساء الأربعاء أكثر ما يميزها هو ذبح العشرات من المواشى وفاء للنذور التى سبق وقطعها زوار الدير للعذراء طلبا وتشفعا بها لأجل امنياتهم المرجوة. وعلى السلم ذاته الذى تكدس عليه منذ اليوم الأول زوار الدير فى بداية رحلتهم صاعدين بأمانيهم وطلباتهم وطمعهم فى بهجة تظللها العذراء ببركاتها، يهبطون بالمتاع ذاته وإن كان قد خف وزنه يودعون أسبوعا قضوه فى عزلة يغلفها بهجة المولد، وتبدأ رحلة العودة للحياة بمشاغلها وواقعيتها مرة أخرى، وبالرغم من مشقة الحر والزحام وصعود السلم ونزوله إلا أنها عقبات لا تثنيهم عن تكرار زيارتهم العام القادم لأجل بركة «عدرا جبل الدير».