-1- لم يكن هناك غيرهما بالمقهى.. كل منهما وحيدًا على طاولة منعزلة. كانا يبدوان هادئين من الخارج، ولكن بداخلهما تدور مشاحنات عديدة. كان كلاهما يحدق فى لعبة "الطاولة" الموضوعة على رف بالمكان. كانت هى تفكر أنها تتمنى لو تجد من يعلمها لعب "الطاولة"؛ فقد كانت إحدى الألعاب القليلة التى لا تجيدها. وكان هو يفكر إذا كان من اللائق أن يطلب منها اللعب معه أم ستحسبه شخص مجنون أو على أقل تقدير غير مهذب لاقتحامه عالمها هكذا. أفاق على صوتها تطلب منه أن يعلمها، جفل للحظة، هل كان يحدث نفسه بصوت عال دون أن يدرى؟ أم هى استطاعت قراءة أفكاره بشكل ما؟ نظر إلى عينيها حيث كان خيط من شعاع الشمس يسقط عليهما فرأى انعكاس صورته فيهما. "بكل تأكيد" قالها ببطء وتردد كمن وقع تحت تأثير تعويذة سحرية يخشى أثرها عليه. ابتسمت وأدركت أنها فى تلك اللحظة اخترقت عالمًا جديدًا، وعلى عكسه لم تكن خائفة. أمضيا ساعات طويلة فى اللعب وتبادل الأحاديث. رأى فى عينيها لمعة طفولية وسعادة غريبة بتعلم اللعبة، ورأت هى على وجهه ابتسامة انتصار كمن وجد أخيرا شخصًا يحتاج إليه وينبهر بانجازاته صغرت أم كبرت، ابتسامة حرصت أن تحفزه عليها بعد ذلك بطلب رأيه فى كل شىء والتعبير عن حماستها بكل ما يحققه- دون إدعاء فقد كانت بالفعل مبهورة به. أما أحاديثهما فقد كانت سلسة ومرحة ليس بها كثير من شرح المعانى والنوايا فكأنهما شخص واحد يكمل كل منهما فكرة الآخر، وأحيانًا يرددان الكلام ذاته فى نفس اللحظة. لم يمرا بمرحلة التعارف التقليدية والتساؤلات العادية من نوعية ما هو أفضل لون لديك وأفضل أغنية وما شابه. لم يتبادلا حتى التعريف بالأسماء فقد بدت غير ذات أهمي؛ فقد تعارفا إلى روحاهما وليس إلى أشياء مادية لا تحدد كنههما. قال لها: أحبك.. فصدقته قالت له: أحبك.. فصدقها -2- لم يحددا قط موعد للمقابلة، ولكنهما تقابلا مرات عدة. لم يذهبا أبدا إلى المقهى فى أوقات أو أيام ثابتة، ورغم ذلك تمكنا من إيجاد بعضهما البعض. فى الأغلب كانت تذهب هى وهو يلاقيها؛ فقد كانت لديه قدرة غريبة على معرفة تحركاتها ورغباتها وما تخفيه من أسرار، قدرة لم تتمكن من معرفة سرها أو مجاراتها. كانا يحضران من عالمين مختلفين تمام الاختلاف، يفصل بينهما جدار ضخم تمكنا من اختراقه وخلق عالمهما الخاص داخل الجدار وعلى أطرافه. كانت هى أكثر منه تعاملا مع العالم ولكنها كانت تتعامل مع العالم بطبقات قلبها الخارجية فقط، أما العمق فظل فارغًا لم يصل له إلا هو، فقد أصاب ذاك العمق من اللحظة الأولى بشكل أفقدها اتزانها. أما هو فقد كان انعزاليًا لا يتعامل مع العالم الخارجى على الإطلاق، كان يعيش على حافته خوفًا من الألم، وخشية أن يرى أحد الظلام الذى يعيش بداخله. أثناء مقابلاتهما سقطت الكثير من الأقنعة وتخلصا من كل حسابات التزين والظهور بأفضل ما لديهما خوفًا من فقدان حب الآخر، فى الواقع كانا يتباريان فى إخبار أحدهما الآخر عن أسوأ ما فيهما. رغم دماثتهما فى عوالمهما إلا أنهما كانا فى غاية الفجاجة معًا، فجاجة محببة؛ فكأنما كل السباب الذى يتبادلانه هو أرق كلمات الحب التى كتبت فى قصائد العشق عبر التاريخ. كانا يقفزان فوق الجدار ويسبان ذلك العالم الذى يضيق بقصص الحب ويتسع للكراهية، وكأنما بهذا يتطهران من خطايا الإنسانية التى ستحرمهما من وجودهما معا لاحقًا. نعم، فقد كانا على وعى تام بأنهما سيفترقان، لذا عاشا وجودهما معا إلى أقصاه، حتى يفرض هذا الوجود نفسه، أو هكذا أملا . قالت له: سنفترق يوما ما.. فصدقها قال لها: سنفترق يوما ما.. فلم تصدقه -3- تحول الجدار إلى جدران.. بدأ الألم يتغلب على الحب، ويهدد هذا الوجود. لم تعد الجدران وحدها هى ما تهدد حبهما. تولد ذلك الفراغ الكبير بينهما، وكلما حاولا ملئه زاد اتساعًا حتى بات يبتلعهما، فأصبحا كتلتين فارغتين لا يمكن ملؤهما حتى بوجودهما معًا. لجأ كل منهما إلى عالمه الذى يعرفه، ولكنهما لم يتمكنا من معايشته مرة أخرى، كما لم يتمكن عالمهما من استيعابهما مجددًا. أصبح هذا الفراغ هو المكان الوحيد الذى يتسع لهما. حاولا أن يتقابلا مرات عدة ولكنهما كانا لا يدركا بعض، يحضر هو وتغيب هى.. تحضر هى ويغيب هو. حتى عندما قررا الاتفاق على موعد مسبقًا لم يتمكنا من المقابلة. لم يكن معلومًا متى بدأ هذا الفراغ فى التشكل، وكيف لم يدركا وجوده إلا بعد أن أصبح بهذا التوحش؟. تحول الحوار بينهما إلى تبادل للاتهامات، وأصبحت كلمات الحب مؤلمة، واتسم حديثهما ب"أدب الغرباء": كيف حالك؟ شكرا، آسفة، إذا سمحتى،…إلخ، بالإضافة إلى الاستئذان المهذب قبل كل الأفعال التى كانا يفعلانها بعفوية شديدة. كان ألمه- لا ألمها- هو ما أضعف قوتها فى مقاومة تلك الجدران، إضافة إلى عدم خبرتها فى التعامل مع المشاعر الحقيقية. اعتادت هى من قبل على تقديم كل المشاعر المطلوبة منها فى عالمها؛ فرحت وحزنت وتألمت بل وأحبت، ولكن باستخدام الطبقتين الصغيرتين على أطراف قلبها، ولم تشعر بمثل هذا الألم قط. أما هو فقد غرق فى ظلامه حتى لم يعد يراها، لكنه ظل يسمع أنينها بوضوح. عجزت عن انتشاله.. أسندت ظهرها على الجدار وقالت له: سأرحل.. ولم يصدقها. استلقى بمحاذاة الجدار، ومد يده ليطمئنها، أحست بلمساته وهدأت.. ثم ساد الصمت. ظن أنها رحلت، لكن الأرض كانت قد ابتلعتها قبل أن تتمكن من الاستغاثة به. نهض وأمسك بنصل واخترق به قلبه، وكتب بدمائه على الجدار: إنى راحل.. ثم ركض صوب الفراغ واحتضنه. أسماء يحيى الطاهر