بداية النهاية حيث كل شئ أخذ قيلولة الاطمئنان وخلو ساعات النهار من شحنها ، حيث لا مزيد من أماني أو خطط ، حيث البحث سراَ عن مخرج والتمعن في خلاصة معاركه مع الحياة ، يبدأ بأول السطور "……كان هناك ، في جميع الأحوال ، نفق واحد فقط مظلم وموحش : هو نفقي أنا ……" يضعنا أرنستو كل في موقعه بأرض المعركة التي بدأها بآلية الإنسحاب في نفقه وكأنه يحارب في صمت لا شئ إلا كل الأشياء بوضعها بمسافة مناسبة عنه أو بالأصح حفر لنفسه مهربا منها وكانت دلالاته وعزوفه واضحة تؤمن له أعذاراً منطقية جداَ لما آلت إليه الأمور حيث شبه الذاكرة " بنور باهت يضئ متحفاَ قذراَ من العار" وعلته أنه يتذكر ،جيداَ ،كل قذارات الماضي ومساوئه أكثر من حسناته" كل زمن مضي كان أسوأ " وأنه ليس كالأخرين الذين يلقون الماضي بالنسيان فيذكرون ، زيفاُ " كل زمن مضي كان أفضل " بسهولة متناهية يختصر السرد الطويل المقدم عليه بكلمات تختصر الحكاية "سأكتفي بالقول أنني "خوان بابلو كاستيل "، الرسام الذي قتل ماريا ايرببارتي" يعود بنا بنفس ترتيب عقله للأحداث ولا يفوت فرصة إلا ليدعم هذا الجنون الذي دفع به لقتل الإنسانة الوحيدة التي تمعنت وقرأت وتأثرت بلوحته وما رسمه خفية بلا داع فوقفت تتأمل وهو يترجم منها ما وصله بأنها من يجب أن يطرح عليه السؤال ، ماذا عنت لك النافذة في اللوحة ؟ يوهمنا أن قتله لها جاء من دافع الضرورة القصوى لقتل أي انسان مؤذ لأن هذا عمل صالح وكم أنه أضاع أكثر من فرصة لإتيانه ستاً أو سبعاً من نوعية هذه الأعمال الصالحة " لأنني أؤمن به إيماناً نزيهاً ومتأصلاً هذا إنسان مؤذ….ليتم القضاء عليه إذن ولينته الأمر. إن هذا ما أسميه عملاً صالحاً ………. ، يجب أن اعترف الأن باني أشعر بالأسف لأنني عندما كنت حراً لم أحسن اغتنام الفرصة ، فأقتل ستة أو سبعة من الأشخاص الذين أعرفهم ." حتي الحيلولة التي تدفع الإنسان للارتقاء بعيدا عن البشر بمكانة، ظنها ،أعلي كشرت عن حقيقتها بأنه مجرد قذر حقير حتي هؤلاء الذين يدَعون التواضع ماهم في الحقيقة إلا مصابين بغرور التواضع ، يسترسل أرنستو في سرد كل نظراته عن الحياة وهو يجانب آرائه كل الصواب بفلسفة ناعمة تجذبنا للتحاور معه بأقل فسحة كما حاله مع ماريا ، التي يجذبها منظر النافذة بلوحته " أمومة" التي رسم بها بعيدا جهة اليسار نافذة يلوح منها منظر شاطئ وامرأة تنظر إلي البحر وكانها تنتظر شيئاً ما يمثل وحدة مطلقة ومقلقة ولكن هذه الزاوية الصغيرة لم تلفت نظر أي من الحاضرين حتي النقاد منهم ويذكر مقدما أن الشخص الذي فهمه وانتبه له هو من قتله مؤكداً أنه لا يعطي نفسه أفضلية عن باقي البشر حتي في غرور التواضع الذي ذكره تختال فكرة مناداة هذه الفتاة التي مستها الوحدة المقلقة التي ظنها خوان بابلو ولكنها لا تتعدي الفكرة ملوحاً بخوفه من الرهان علي كل ما لديه وكما يتضح علي مدار السرد أنها ، ماريا ، الطرق الذي يبدأه أحدهم علي باب لا يعرف ساكنيه متخذاً وضعية يجازف بها بإلقاء كل ما وصل إليه للاشئ حيث أنه كان قد ركن لوقت إتقان قناعاته عن الجميع وعن كل الأشياء ، الوقت الذي يظنه أحدهم أن كل شئ علي ما يرام وعرف حرفياً متي تدق الساعة ومتي ينام ومتي تنبهه أن لا أحد ولا شئ قادم حيث لا مجال لصفحة بيضاء نسطر بها متعلقات لا نفهم منها شيئا وأسئلة قد لا ننجز في البحث عن إجابات مرضية قد ترمي بما تبنيناه من مواقف وآراء لنقطة الخطأ والندم والردم .يود أن يدعم خوان بابلو ظنه عن الفتاة ، يتمني أن تخبره أن اللوحة تمثل لها ما تمثله له أو تعطيه سبباً مقنعاً لرسمها بهذة الحرفية التي لا يعلم منها حقيقة ماذا تقصد . تبدو الفكرة بسيطة تأخذنا لقصة حب تحوي كل ما يصدمنا في الحياة وقناعاتها وأساليبها وغموضها ، سجنها لنا بوقت ظننا أننا أضحينا أحراراً ودعوتنا لها إذا بدر منها نسيانها لنا وترويضنا لقساواتها ، جلبة صاخبة نعافر لصمتها ثم جلدها عقاباً لهذا الخرس ثم نسد الآذان لبكائها الذي لا نحتمله ، حد الجنون الذي يقترب منه خوان بابلو بروية وعلي عجل ، حتي أن كل فقرة قد يخيل إليك أنها صالحة كسبب لقتله ماريا ولكنك تنتظر فرصة معرفتها جيداوتجميع أدلة إدانتها تماما كمحاولات خوان بابلو ، نعيش معه كيف ذهبت وكيف أنتظر الشهور لملاقاتها"وخلال الشهور التالية كنت لا أفكر إلا فيها ،وفي إمكانية رؤيتها مرة أخري وإلي حد ما ، كنت لا أرسم إلا من أجلها ، وكأن منظر تلك النافذة الصغيرة ، بدأ ينمو ويغزو اللوحة كلها وأعمالي جميعها " وكيف أضاعها للمرة الثانية حتي لاقاها وسألها عن اللوحة ولكنها تجيب " النافذة.. ؟؟؟ أية نافذة…؟ من هنا بدأت قصة الحب أو معركة الرسام ، جولات ومفاجآت وتفاصيل تحكي كل منها قصة لم تسردها ماريا ولكن خوان بابلو يضع الإحتمالات القاسية التي تؤجج أحزان ماريا ولكنها تقابله بإجابات مقتضبة تؤكد لنا أنها بمعركة أخرى ونفق آخر لا يختلف كثيرا عن نفق خوان بابلو وهي في بحثها الدائم عن هذا الذي سيشاركها الشاطئ البعيد الذي خطه خوان بابلو بلوحته ، يراها ويسألها وتهرب ويحاورها ويطلب لقاءها فتستجيب ولكن ترحل تاركة له رسالة يسلمها له زوجها ، يتضح أن ماريا متزوجة من أعمي ويأخذنا خوان إلي نفقه الذي حفر به كرهه للعميان وكيف زاد الأمر حيرة حين أخبره زوجها " مادام الخبر من ماريا فهو شئ غير ملح " ويفض الرسالة فتزيد كلماتها حيرته " وأنا أفكر فيك أيضاً " ، تبتعد في الوقت الذي تخبره فيه بأنها تهتم لأمره مع أنها متزوجة ، تخفي عنه الكثير الذي يستدل منه أنها كاذبة ، كلمات قليلة منها يظل يضع لها التحاليل والتفسيرات ويكاد يجن أنها لا تنكر إلا بدموعها وابتعادها حينا وقربها حينا آخر حتي يظن أنها ترائيه في حبها تماماً كخداعها لزوجها الأعمي ،يأخذنا قريبا جداً من ضلالاتها وبعيداً جداً لنفقه ، نصدقه ونكذبه وننعته بالغباءلأنه فض بكارة هذا المبتغي " روعة العالم أن تضحك حتي الموت " وكأنه كان يتامل الكون من هذه النافذة وبيد خفية أريد له أن يقذف بهذا النفق الذي سلب منه كل محاولات الحرية والعودة لما سبق فتتحول كل العذابات لحنو بالغ يهبه كاملاً لماريا فتعيدها، بدورها ، أكثر احتراقا"أنت تؤذيني يا خوان بابلو ، لماذا لا تقولين شيئاً…لماذا لا تجيبين؟ لم تقل شيئاً فصرخت لماذا ..؟ …؟ قالت أخيراً: لماذا يجب أن يكون لكل شئ جواب ؟؟؟ فيزيد في جلدها ثم يميل إلي العفو عنها وطلب المغفرة التي تصل إلي تقبيل قدميها ولكنه ، في كل مرة ، لا ينجح في استباق الصمت علي إتهاماته لها وعندما يشفق عليها يكون الوقت قد فات وتتسع المسافة بينهما ولكنه يصمم علي وجودها بحياته بشفقتها التي حوته بها سبباً لظنونه ، شفقة لا حب ، وإجابات نموذجية جداً تدعم كل ظنونه ولكنه لا يريد أن يصدق إلا كلماتها الصريحة التي لا تنطقها ، اطمئن إلي كونها يجب أن يخالجها الشك لينجو من الإدراك المؤدي إلي الجنون محاولاً جعلها النور الذي يحميه من نفقه المظلم "فتناقضات ماريا وتصرفاتها الغريبة جعلت مشاعري تتراوح طيلة تلك المدة بين حب في منتهي النقاء وكراهية لاتقف عند حدود" ولكنها تؤكد له أن ثمة أنفاق وأنفاق لن يصل أي منها للآخر ، ليس هناك بمكان لأي طهر أو مثالية أو نافذة فتخاطره فكرة الانتحار كونها اليقظة من هذا الكابوس ، ثانية واحدة وينهار كل هذا السخف ولكنه يتراجع فهو موقن أن لا حل بالارتماء في العدم المطلق والأبدي" تبدو الحياة في ضوء هذا الفهم كابوساً طويلاً ، يمكن الانعتاق منه بالموت ….الذي قد يكون نوعاً من اليقظة ، ولكن يقظة علي أي شئ …؟ هذا اللاحل بالارتماء في العدم المطلق والأبدي ، كان يصرفني عن جميع مشاريع الانتحار " يصل هذا الإدراك به إلي قرار قتلها حتي لا تذهب بعدما تكرر غيابها حيث أخبرته ، أخيراً ، بأمر النافذة وحتي يحتمل عدم وجودها ويخرس نزاعات الانفصال للأبد ويطرح إنكار سافر للتملص من أحلامنا التي كانت وكأنها لا تلبي ما أردناه من خيارات "يبدو لي أحياناً، كأنما كنا دائماً، نعيش هذا المشهد معاً. عندما وقع نظري علي تلك المرأة المعتزلة في نافذة لوحتك ،أحسست أنك مثلي وأنك تبحث أيضاً بصورة عشوائية عن أحد ما ، عن محاور ما أبكم " ، ينتظرها ولكن لا تأتي في النهاية فيذهب ويقتلها تاركاً زوجها الأعمي يدلل علي حاله فينعته بالأحمق لدي علمه بقتله لها دون أي محاولة من خوان بابلو لاستجوابه عن سبب نعته بالأحمق وهل كانت ماريا غير ما رسمها ، ينتحر الزوج لتطمس النقطة الأخيرة بنفق خوان بابلو . يتضح لنا كأن أرنستو يضع سرداً فريداً للموناليزا في روايته "النفق" كل منا يقرأ من زاوية ، يتعاطف ويشتم ويؤكد ويحاول الهرب ثم يعود طالباً التوبة والمغفرة ، نعيش كل الاحتمالات والتوقعات والإخفاقات بداية بمحاولات خوان بابلو البحث عن ماريا وتمنيات بالاكتفاء من هذا التوق الذي يصاحبه ويغمره ببصيص نور لا يتوقف حتي يحرقه ، لا يمنحه فرصة للسكن والاطمئنان واحتواء هذه اللحظات التي نستبدل فيها تكدرنا من الأحياء بود قد لا يعنيهم ولم نهبه لهم قبلاً ، نحرض الفجر علي المجئ فيما نوثق رغبتنا في ذلك إما بالنعاس وإما بعتابه وقتله علي هداياه . نظل بالفخ طويلاً حتي نهاية الأحداث ، نخمن أن ماريا ماهي إلا نفق لم يرد خوان بابلو فهمه وكذلك ماريا لم يكن بها أي رغبة لتوضح له أي ملامح وإن بدا أنها تنتظر منه رؤية ما رأته في لوحته دون كلام ودون مساعدة منها وإصرار منها بالنفاذ من نفقها بأكثر من نافذة لذلك تحررت أسرع وعلي يد أقرب نوافذها ، الحياة لا تعطي إجابات بل تعطي إحتمالات في محاولة لتكيف سريع وتقبل متاح للاستمرار وإلا كان الثمن نفقاً يلقي بنا للجنون أو الانتحار .