عندما يستحيل الصّوم طَبْعاً (5) ثمّة فرق شاسع بين أن يعتاد المؤمن على الصّوم وبين أن يصبح جزءاً لا يتجزّأ من حياته. فإذا دخل الصّوم دائرة العادة، فقد يجنح إلى ما يشبه نظاماً غذائيّاً. وأمّا إذا فعل فعله في الأعماق الإنسانيّة فسيتحوّل إلى انقطاع دائم عن العالم بالمعنى المسيحيّ للعبارة (أنتم لستم من هذا العالم)، وليس بمعنى الهروب من الواقع. "مَنْ يتخم معدته بالطّعام يوسّع أمعاءه، ومَنْ يجاهد ويقلّل طعامه يضمرها ويضيّقها، وإذا ضاقت الأمعاء لا تطلب غذاء كثيراً، وحينئذ نصير صوّامين بالطّبع" (القدّيس يوحنا السّلمي) إنّ ضبط الجسد والسّيطرة عليه من حيث تدريبه على الانقطاع عن الطّعام في سبيل تحقيق الهدف الرّوحيّ، ألا وهو فعل اقتراب من الله، يجذّر في داخلنا الشّوق إلى الله. وبالتّالي فكلّما اقتربنا منه انقطعنا أكثر عن العالم. وهنا ينتقل الصّوم من كونه فعلاً ليتحوّل إلى طبع إنسانيّ يرتقي بالإنسان إلى مستوى الحبّ الإلهيّ. وكما أنّ للإنسان أطباع عدّة تعرّف عن شخصيّته الإنسانيّة، يصبح الصّوم طبعاً يعرّف عن شخصيّته المتّحدة بالله. لذلك يرافق الصّوم الصّلاة والتّوبة. "الصّوم تنقية للصّلاة ونور للنّفس ويقظة للذّهن وجلاء لقساوة القلب وباب للخشوع وتنهّد منسحق وتحسّر فرح." (القدّيس يوحنا السّلّمي). الصّلاة، لغة التّواصل مع الله تحتاج إلى نقاء فكريّ وجسديّ وروحيّ، وبالتّالي فالصّوم/ الطّبع يحافظ على ثبات العلاقة مع الله، ويحفظ نقاءها لأنّ هذا الطّبع سيقود الإنسان تدريجيّاً لأن يحيا السّماء وهو بعد في العالم. والتّوبة والانطلاق نحو الله، يحتاجان إلى دليل رفيق يوجّه الفكر الإنسانيّ ويردعه عن السّقوط في ما يهين كرامته الإنسانيّة. فيأتي طبع الصّوم ليغلب الطّباع السّيّئة الّتي ورثها الإنسان أو اكتسبها. "لا نستطيع أن نطرح عنّا نقائصنا وعتاقة نفسنا وننتزع ثوب إنساننا العتيق ما لم نعبر طريق الصّوم الضّاغطة وسبيل الهوان الضيق" (القدّيس يوحنا السّلّمي). وإن كان الصّوم باباً ضيّقاً يدخل منه المؤمن، إلّا أنّه يصقل شخصيّته المرتقية نحو الله، ويختبر العلاقة الإلهيّة الإنسانيّة ولا يعود قادراً على العودة إلى إنسانيّته العتيقة.