سفر الرّؤيا، السّفر الأصعب على الإطلاق في الكتاب المقدّس لما يحمله من رموز غزيرة المعاني، وصور تحمل في عمقها رؤية جديدة على تاريخ الخلاص، وتعلن للمؤمن فرح اللّقاء بالرّب الممجّد، وتكشف له عظمة الحياة الجديدة حيث المسيح جالس عن يمين الآب السّماوي، وتلمس روحه بنفحة الرّجاء. يمكننا أن نأخذ من أيّ كتاب ما نودّ أخذه، أو نفهم ما نرغب فهمه، إلّا أنّ كتاب الرّؤيا لا يحتمل أن نفهمه كما نريد؛ لأنّ المفتاح الوحيد لهذا الكتاب هو يسوع المسيح، كما هو الحال في كلّ أسفار الكتاب المقدّس. ما يعني أنّه لا يمكننا الوقوف عند المعنى الحرفيّ المحض لهذا السّفر، كما أنّه لا يمكننا شرحه بما يتوافق وعقولنا المحدودة وغير المدركة تماماً لعمق مقاصد الله. قد يقول البعض إنّ سفر الرّؤيا كتاب صعب ولا يجذب للقراءة كسائر الأناجيل والرّسائل، أو أنّه سفر مخيف يجنح إلى التّشاؤم. أو كما تشرحه بعض الشّيع والبدع، فتتحدّث عن نهاية العالم، وتنطلق من هذا السّفر وتفسّره كما يناسبها وتنشر الرّعب في نفوس المؤمنين، وبالتّالي ومن خلال هذه العمليّة، تغرقهم في بحر تعاليمها الضّالة. لمّا قرأ المسيحيّون الأوائل سفر الرّؤيا فهموه ببساطة وعاشوا إيمانهم وثباتهم على ضوء كلمة الرّبّ المحيية، واثقين بمن قال: "في العالم سيكون لكم ضيق، لكن ثقوا أنا قد غلبت العالم" (يوحنا33:16). ونحن اليوم مدعوّون للتّأمّل بهذا السّفر المميّز وقراءته بعيون جديدة، عيون يسوع المسيح القائم من الموت، وفهمه بفكرٍ جديد، فكر يسوع المسيح الممجّد. قراءة سفر الرّؤيا هو الدّخول في عالم الأمل والرّجاء، فالرّبّ يبيّن لكلّ من يتّسم بِسِمة الحمل أرضاً جديدة وسماء جديدة يتلألأ فيها الأبرار كالشّمس. كما أنّه يظهر أنّ الكنيسة لن تنهار ولن تقوى عليها أيّة قوى. لقد حفظ الرّب كنيسته في الماضي ويحفظها اليوم ويحفظها إلى الأبد فلا تقوى عليها أبواب الجحيم. بالتّالي ليس سفر الرّؤيا سفر الخوف والرّعب، فالفصل الأوّل يُفتتح بآية الرّجاء والفرح: "طوبى للّذي يقرأ وللّذين يسمعون أقوال النّبوة ويحفظون ما هو مكتوب فيها لأنّ الوقت قريب". (رؤ 3:1). ويُختتم في الفصل الثّاني والعشرين، الآية الرّابعة عشر: "طوبى للّذين يصنعون وصاياه لكي يكون سلطانهم على شجرة الحياة ويدخلوا من الأبواب إلى المدينة". كما أنّه ليس سفر نهاية العالم، ولا نضعنّ هذا الكتاب موضع الخيال، ونذهبنّ به إلى ما وراء الزّمن في نهاية العالم وكأنّ ليس لنا أيّ دور، أو كأنّنا ننتظر النّهاية باستسلام للأحداث. فلكلّ منّا دور في حقل الرّبّ، ولكلّ منّا دعوة للمشاركة في عمل الله الخلاصيّ. سفر الرؤيا يأتي من الّذي كان ويكون ويأتي، ولكنّه يتجسّد في عالمنا، ويدعونا نحن الّذين في العالم أن لا نهرب من العالم بل نسعى لنغلبه بالحبّ كما السّيّد. قال الرّسول بولس لأهل تسالونيكي وهو يقول لنا في خطّ رؤيا يوحنا: "لا تتزعزعوا سريعاً في أفكاركم ولا ترتعبوا من نبوءة أو قول أو رسالة كأنّها منّا تقول إنّ يوم الرب جاء. فلا يخدعكم أحد بشكل من الأشكال". عندما نقرأ سفر الرّؤيا علينا أن نعزّز قلوبنا وعقولنا بفكرتين أساسيّتين: – قد تأتي الحروب والمجاعات والزّلازل فيقول لنا يسوع: "ليس هو المنتهى بعد". وحين يبشّر بإنجيل الملكوت في المسكونة كلّها، شهادة للأمم، "عندئذ يأتي المنتهى". – إنّ المجيء الثّاني للمسيح لن يكون على أنقاض البشر. لطالما أنهكت الحروب قوى الإنسان إلّا أنّه يمكن من خلالها الدّعوة إلى التّوبة وقراءة الأحداث على ضوء الكلمة الإلهية. الحروب ليست من صنع الله وإنّما من صنع البشر، لكنّ الله هو سيّد التّاريخ وهو الّذي يمدّ يده ليحوّل الشّرّ إلى الخير. عيوننا الأرضية ترى القشور وتحدّد من خلالها مصيرها، فيأتي سفر الرّؤيا لينير بصائر القلوب لتعاين مجد الرّبّ في وسط الأحداث المؤلمة. ويجب ألّا يقودنا خيالنا أو فهمنا المحدود إلى أنّ الويلات والحروب والزّلال هي دلالة على نهاية العالم ومجيء المسيح، لأنّ النّهاية تكون متى بُشّر بإنجيل المحبّة في الأرض كلّها. ليست الويلات من تمهّد لمجيء المسيح وإنّما عملنا الدّؤوب في نشر كلمته الحيّة وتوطيدها في القلوب. ومن المهمّ أن نعلم أنّ العالم لا ينتهي وإنّما يتحوّل إلى أرض جديدة. "وها هو السّيّد، الألف والياء، البداية والنّهاية، الأوّل والآخِر، واقف على باب كلّ قلب وكل فكر، يقرع. إن سمع أحدهم صوته وفتح الباب، دخل وتعشّى معه. وحبّذا لو نسمع صوته وننفتح على محبّته اللّامتناهية. ومن يسمع فليقل تعال، ومن يعطش فليأتِ ومن يرد فليأخذ ماء حياة مجاناً." (رؤ 17:22).