في الساعة الثالثة بعد الظهر بالتمام ظهرت امراءة تبدو في منتصف العمر، مترهلة، ترتدي يونيفورم أزرق باهت خاص بعمال النظافة في المصحة وقد قبضت قفل الباب المغلق بسلسلة حديد صدئة واعملت فيه المفتاح، انفتح الباب على مصراعيه، تحرر العشرات من الزوار الى الداخل للقاء ذويهم المرضى، كان معظمهم من النساء والأطفال، انتشروا في ساحة متوسطة المساحة تستخدم في الأيام العادية ممر للذين يدلفون الى داخل المصحة، أو مكان انتظار للمرضى وذويهم لحين يتم استدعائهم بعقيرة قوية بواسطة عامل "الأمن" الى الداخل للمناظرة بواسطة الأطباء. دارت عيناه تبحثان عنها كما اعتاد أن يفعل مع كل زيارة له منذ ان إضطر أن يأتي الى هذا المكان قبل بضعة اسابيع، ولما خاب أمله في التقاط صورة وجهها المليح استدار نحو عاملة النظافة التي مكثت واقفة بين الزوار تجيب على اسئلتهم عن أحوال ابنائهم وظروف معيشتهم، كانت المرأة تتعمد ان تطمئن الأهالي، وتحقق لهم الصورة أو الأمنية التي يتمنونها بخصوص انصلاح أحوال الأبناء وتغيير سلوكياتهم للأفضل، وتحليهم بالهدوء والامتثال للعلاج، أيضا كانت تحدثهم عن مدى اعجاب الأطباء بهم، وهذا كله كان واقعا مزيفا قصدت منه خلق حالة من الطمأنينة والرضى لدى اولئك الأهالي البؤساء الذين يتلمسون كلمة واحدة تطمئنهم على ابنائهم ولايجدونها سوى لدى تلك المرأة دائمة الحضور والابتسام والهدوء، ودائما تتشح بملامح الطيبة والنبل والروعة، وهذا الأمر كان سببا في ان يفتح عليها أبواب من الرزق معقولة من جانب الأهالي لم تكن في الحسبان على الرغم من إن هذا لم يكن هذا عملها الأساسي بالمصحة منذ ان التحقت بالعمل بها قبل عام. فهي مسئولة عن تنظيف اجنحة السيدات، واستلام زيارات أقارب المرضى وايصالها الى مسئولي الأجنحة المعنية لتفتيشها قبل تسليمها لأصحابها، وكذلك استلام النقود من الأهالي وايصالها الى مكتب الأمانات. كل هذه الأعمال والاحتكاكات مع المرضى وذويهم جعلها تقترب كثيرا من الجميع، حتى الاطباء والممرضين لم يملكوا سوى الثقة فيها والاعتماد عليها في الكثير من الأعمال الاضافية الطارئة. ونتيجة لذلك كان يتجمع لديها عقب كل زيارة على وجه الخصوص كمية اضافية من المال تحصل عليه سواء من المرضى أو ذويهم، تذهب به آخر اليوم الى ابنائها الخمسة الذين تركهم أبوهم ذات مساء واختفى منذ عامين اثنين عقب مشاجرة حامية الوطيس معها. بمجرد أن لمحت عينيه الحائرتين تستدعيها انسلت بهدوء من وسط مجموعة الأهالي، اقتربت حيث موضع جلسته فوق المقعد الحجري في انتظار اخاه الأصغر، احتوته بابتسامة كبيرة مريحة نضح منها فيض هائل من ذلك الحنان الذي كان يتعمد تجاهله دائما، لأنه يربط بين هذا الاقتراب الشديد منها تجاهه، وبين تلك النقود التي اعتاد ان يدسها في كف يدها الأبيض الغليظ في كل مرة يأتي لزيارة اخيه الأصغر الذي ساقه قدره على ادمان الهيروين المخدر منذ عدة سنوات، كما إنه لم يكن مهتما بالانجذاب تجاهها على الرغم من ثقته بسهولة اقامة علاقة معها في أي وقت. اكتفى فقط بالحصول على خدماتها، وكذلك الحصول منها على معلومات حقيقية تكشف عن مسار أخيه في العلاج، والذي اعتبره حتى الآن محبطا وسيئا وغير ذي جدوى بكل المقاييس وفقا للمعلومات التي كانت تمررها له بخصوص سلوكياته داخل عنبر العلاج. ومثل المعتاد استقبلها بابتسامة اوسع من بسمتها، استمدت القها وجاذبيتها من خلال نكاته المتميزة، وقفشاته، وبساطته في التعامل معها، الأمر الذي شجعها على تشغيل ماكينة أخبارها عن شقيقة وآخر المصائب التي تورط فيها بسبب اصراره على الخروج وقطع مسيرة العلاج، لكن هذا لم يكن يعنيه كثيرا، فقد مل من تكرار سماع مثل هذه الحكاوي السخيفة، والحقيقة إنه كان شغوفا بشيء آخر اضطره الى فصل ماكينة الحواديت المملة عن أخيه مغتما، أوقف استرسالها بسؤال مباغت عن مريض آخر اعتاد ان يكون معهم في مثل هذا الوقت بصحبة أخته الفارعة، توقفت عن الاسترسال والأريحية، امتقع لون وجهها وبهت، تغير من لون الحليب الى الاصفرار.لاحظ ذلك، أدرك إنه باغتها بطعنة غادرة، حاول استدراك الأمر على طريقته الملتوية، " قصدي الولد أخوها كان يشبه أخي في التصرفات". جلست جواره على المقعد الحجري، ترددت في البداية ثم أخبرته إنها سوف تستأمنه على أحد أسرار المصحة والذي يجب أن يظل داخلها لذا لايجوز له افشاء هذا السر، تملكه الذهول والاهتمام، تفحص عينيها يبحث فيهما عن الجدية، إكتشف لأول مرة إنها تبرق من شدة اللمعان، كانت عيناها شديدة البياض والاتساع، وهناك سواد رائع يغطيها أشبه بالكحل مثل عيون الظِباَء. لأول مرة يلحظ أيضا إن قلبه ارتجف بشدة، تمادى في التحديق، لم تتحمل عنف نظراته، أطرقت برأسها في الأرض، استرسلت من غير مبالاة "طلعت البنت موش أخته، دي واحدة صاحبته، ضاربة بطاقة على إنها اخته، وكانت تجيب له الهروين مع الزيارة، قرايبه جم وسط الاسبوع كشفوا الموضوع وخرجوه". لم يمهله تواتر نزول المرضى وصخبهم عند لقاء ذويهم أن يتم دهشته، كما إنها انتفضت بسرعة من جواره عندما لمحت وجه أخاه الأصغر ظهر من بعيد يحملق في الجالسين الذين كٌتب عليهم البؤس والشقاء. ومثل كل زيارة ارتفعت صيحات الغضب والاحتجاج والاتهامات ضد الأهالي طلبا للخروج. انزوى بأخيه الغاضب يتأمل ملامحه غير المريحة، واتهاماته له إنه يتعمد سجنه في هذا المكان من أجل ان يستولي وحده على ثروة ابيهم. ربما لم يعد بمقدوره ان يهتم بأي شيء يتعلق بالمصحة بعد الذي سمعه من المرأة بقدر اهتمامه باكتشافه الجديد، وقلبه الذي ما يزال يرتجف منذ اصابته تلك العيون المدهشة. رأى نفسه وقد انتظرها في سيارته حتى نهاية نوبة عملها، تعمقت دهشته أكثر حينما جاءت اليه متهادية مثل بطة سمينة لكن قوية وجميلة من دون يونيفورم المصحة. كانت ترتدي فستان وردي بسيط، وغطت رأسها بايشارب أحمر جذاب أضاف لقامتها القصيرة هالة وحيوية وجاذبية تضاف على ابتسامتها التي كانت تتسع كلما اقتربت من السيارة ومن جواره، أخيرا وبعد سنوات من الجفاف والظمأ والدوران في ساقية البؤس والشقاء والتصارع مع الأيام الصعبة والأبناء العفاريت، يحق لها الآن ان تنعم بلحظات قصيرة من الراحة تلتقي فيها مع انوثتها التي خرجت عنها منذ زمن بعيد، وكانت قد نسيت كل شيء عن الرجال والنساء وما يجري بينهما بخلاف المشاكل والصراعات، منذ اول لقاء وأول نظرة شعرت نحوه براحة وجاذبية لم يحدثا لها منذ كانت فتاة مراهقة صغيرة، يومها جاء يسأل عن الزيارة وعن أخيه المحتجز للعلاج منذ ايام، ومن وقتها ولم تستطيع كتم مشاعرها التي اهتاجت فجأة عن عينيها التي طفقت تبوح له بها في كل زيارة، والآن ربما تكون في طريقها لسرقة لحظة سعادة من دون أن تدري كيف ولا أين؟، فتحت باب السيارة على استحياء تطالع الناس خلفها وعن يمينها، استقبل جسدها البدين المقعد المريح جواره، طالع وجهها قبل ان يدير محرك السيارة، كان وجه صديقة المدمن زميل اخاه في المصحة والتي كان يتلهف عليها هو الذي ينظر اليه ويبتسم، وكان موشوما بعيون الظِبَا، ارتجت السيارة من قوة الدهشة والتأمل، سارت مسافة قصيرة قبل ان يعمل فرامله الحادة بقوة في الشارع من دون داع، اعتذر لها برقة غير معهودة، انزلها من السيارة وسط الطريق، فر بسرعة قبل ان يرصد دهشتها وتساؤلاتها واحباطها، قرر في نفس الثانية إنه لن يعود الى تلك المصحة أو الى زيارة اخيه مرة اخرى.