الشعر التجديدي ؛ البوليفونية في ( نائب الموت) للشاعر كريم عبد الله لقد شكك البعض في امكانية تحقيق البويفونية في الشعر الغنائي باعتباره فنا سلطويا و ذاتيا و غير منفتح على الاخر ، الا ان الرد لم يكن فقط من الاغراب على هذا القول بل من رفقائهم و في ذلك يراجع نقوضات مقولة باختين في ذلك حتى الروس منهم . و لقد كان الشعور حقيقيا بان القصيدة الغنائية بالطريقة التصويرية و المتشظية و الانغلاقية و التشطيرية لن تمكن من قدرة كبيرة لاجل الحوار البوليفوني ، و بهذا وجد اصحاب الشعر السردي الطريق الساحر في تحقيق بوليفونية عذبة و سلسة من خلال القصيدة السردية ، و اجاد في ذلك كثير من شعراء مجموعة تجديد منهم عزة رجب و عزيز السوداني و حميد الساعدي و حسن المهدي و انور غني و كريم عبد الله و رشا السيد احمد ليقدموا نصا غير مسبوق عربيا ، بل في بعض نماذجه غير مسبوق عالميا ، و لمن يريد المقارنة ليراجع القصائد البوليفونية المنشورة في مجلة الشعر السردي و مجلة تجديد و ما ذكر في الكتابات التي تناولت هذا الشأن . و من بين من اجادوا في ذلك هو الشاعر العراقي كريم عبد الله و لقد كتب مجموعة قصائد بوليفيونية باسلوب السرد التعبيري كان منها ( نائب الموت ) المنشورة في مجلة (الشعر السردي ) . نائبُ الموت كريم عبد الله ( قصيدة بوليفونية متعددة الأصوات ) في البلادِ البعيدةِ التي يتكاثرُ فيها الموت كانتْ الأزهار تنمو مسرعةً بلا أوراقٍ وسيقانها عارية مصابة ب ( أنيميا )* الفرح , يا للأغاني الحزينة مستمرة ردّدها الجميع حتى ( انكيدو )* , ( لارسا )* تألقت معابدها وبساتينها الخضراء اشارات مرور للمصفحات تزمجرُ وتعمّقُ الأخاديدَ في هديلِ كلِّ صباحٍ , مِنْ أينَ سيبدأُ الطوفان ويفتّحُ عيونهُ اليرقانَ ينتظرُ مَنْ يوقف شلاّلاتِ ليلٍ أحمقَ يتغشّى حكاياتٍ مكدّسة فوقَ الشفاه ! مَنْ أذنَ لنائبِ الموتَ في حقولنا ينبحُ وتغمسُ إبتسامتهُ تواشيحَ الأنين ويستهلكُ رصيدَ الأبتسامات ! . أناشيدُ البكاء معلّقة على أستارِ الريح تهزُّ سروجَ الخيولِ الضامئة وقدْ سوّرتها ذئابٌ تصهلُ عالياً , يا إلهي كمْ أمطرتْ السماء أزهاراً ملغّمةً فوقَ الرؤوسِ الراكضةِ بلا أجسادٍ ! لماذا لمَّ القمر ُ أذيالهُ الفضيّة منْ الأنهارِ خجلاً يتقمّصهُ وكلمّا تنامُ الحيتان الجديدة على أشجارِ الصفصاف مرغمينَ نحملُ أوزارَ تفاهاتها ؟ ! كمْ أنتَ رقيقٌ أيّها النائب حينَ تستلُّ بذورَ السعادةِ مِنْ بيادرهم ! . نائب الموت : هي نبوءة راودتني كثيرا قبل سقوط النظام بأيام قليلة , توقعت ان الموت سيرسل نائبه لهذه الارض وهو عنوان لأحدى مسرحياتي تتحدث عن نفس المضمون . أنيميا : فقر . انكيدو : صديق كلكامش الملك العراقي القديم لارسا : مدينة عراقية قديمة لها تاريخ حافل . ان للبوليفونية في الشعر مقومات هي كالشروط اهمها تعدد الرؤى و الاصوات ، فتجد النص مزيجا من التقاطعات ، اذا لم يتحقق هذا النظام و كان النص منسجما رؤيويا و صوتيا فان النص لا يكون بوليفونيا ، و من المظاهر الاسلوبية في النص البلوليفوني هو انخفاض صوت الشاعر امام صوت الشخصية و التكلم بلسانها لا بلسانه وهذا هو المظهر الاسلوبي للصوت في الشعر . في هذا النص نجد اصواتا متعددة و نجد رؤى متعددة و نجد خروج المؤلف عن الشخصيات و الحديث عنها من نقطة بؤرية خارجية حيادية بخلاف الغنائية السائدة . يقول الشاعر : ( في البلادِ البعيدةِ التي يتكاثرُ فيها الموت كانتْ الأزهار تنمو مسرعةً بلا أوراقٍ وسيقانها عارية مصابة ب ( أنيميا )* الفرح ) نلاحظ احضار ( الازهار التي تنمو مسرعة ) في مقطوعة موتية ، و هو لا يتحدث بلسان من يرى الموت يتكاثر بل بلسان المسارع و المبتهج بذلك الوجود ، اي بلسان المريدين . وهذا احد التقاطعات في النص ، و لو كنت الغانئية قوية لما كانت الازهار هنا تنمو بسرعة . وفي مقطوعة اخرى ( يا للأغاني الحزينة مستمرة ردّدها الجميع حتى ( انكيدو )* , ( لارسا )* تألقت معابدها وبساتينها الخضراء ) نجد صوتين واضحين الاول في الاغاني التي يرددها الجميع و الثانية في تألق معابد لارسا . كما ان الشاعر ايضا احضر هنا التقاطع بين اغناي الحزن و تألق المعابد فكان نظاما بين المريدين و غيرهم . في مقع اخر ( اشارات مرور للمصفحات تزمجرُ وتعمّقُ الأخاديدَ في هديلِ كلِّ صباحٍ ) نلاحظ هنا تجل واضح للبوليفونية و هو تخل كامل من قبل المؤلف عن صوته حيث ان المصفحات لها هديل كل صباح ، و الشاعر لم يترك شكا ان هذا الصوت ليس له ، و أي قارئ لا يدرك فن البلوليفونية لحصل له شيء من الارباك في استشعار الرضا في هديل الصباح ، لكن في الحقيقة المؤلف وضع نفسه موضع المصفحات و مريديها ز تخلى عن صوته تماما . ثم تأتي تداولية امينة و مخلصة يظهر فيها صوت الشاعر ( , مِنْ أينَ سيبدأُ الطوفان ويفتّحُ عيونهُ اليرقانَ ينتظرُ مَنْ يوقف شلاّلاتِ ليلٍ أحمقَ يتغشّى حكاياتٍ مكدّسة فوقَ الشفاه ! ) وهذه التداولية أي كشف الرأي و الشعور التأليفي للقارئ مهم في النص البلوليفوني اولا لتحقيق صوت المؤلف فيها و ثانيا لكي يعلم القارئ ان تلك الحالات المخالفة لهذا الصوت ليست صوت المؤلف و لا حالته . وهذا ما يمكن ان نصفه بالتموج الصوتي . أي ان النص يتموج في الاصوات و الشخصيات و مواقفها و تقاطعاتها و تبايناتها. ثم يعود الشاعر الى تخليه عن الغنائية فيقول ( مَنْ أذنَ لنائبِ الموتَ في حقولنا ينبحُ وتغمسُ إبتسامتهُ تواشيحَ الأنين ويستهلكُ رصيدَ الأبتسامات ! .) فبينما يظهر الشاعر موقفه السلبي من نائب الموت فانه يصف حضوره بالابتسامة وهذا من اتخاذ رؤية و موفق النائب و ليس من رؤية رافضه . و يختم الشاعر بمقطوعة تداولية الا انها متعددة الشخصيات حيث ( أناشيدُ البكاء معلّقة على أستارِ الريح تهزُّ سروجَ الخيولِ الضامئة وقدْ سوّرتها ذئابٌ تصهلُ عالياً , يا إلهي كمْ أمطرتْ السماء أزهاراً ملغّمةً فوقَ الرؤوسِ الراكضةِ بلا أجسادٍ ! لماذا لمَّ القمر ُ أذيالهُ الفضيّة منْ الأنهارِ خجلاً يتقمّصهُ وكلمّا تنامُ الحيتان الجديدة على أشجارِ الصفصاف مرغمينَ نحملُ أوزارَ تفاهاتها ؟ ! كمْ أنتَ رقيقٌ أيّها النائب حينَ تستلُّ بذورَ السعادةِ مِنْ بيادرهم ! . ) فنجد هنا الفاعلية او الشخوصية في ( الذئاب الصاهلة ، السماء الممطرة، الرؤوس الراكضة ،الحيتان النائمة ،النائب الذي يستل بذور السعادة ) هذه الحالات التي تلبست فيها الشخصيات بمواقفها الوصفية المستقلة و التي لم يتدخل الشاعر فيها حققت سردية قوية و تخلى الشاعر فيها عن غنائيته في سرد تعبيري ليس غايته الحكاية و القص و انما الرمز الى اعماق شعورية عارمة .