لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بسم الله الرحمن الرحيم الخطبة الأولى: الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم ارحمنا فإنَّك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير . اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عباد ك الصالحين . الثبات على الإيمان : أيها الأخوة المؤمنون ؛ موضوع الخطبة اليوم وسائل الثبات على الإيمان من خلال الكِتاب والسُنَّة الصحيحة ، وأما السبب الذي دعا إلى معالجة هذا الموضوع فالملاحظة الثابتة أن المسلم له إقبالٌ على الله عز وجل ، سريعاً ما يتراجع ، له فورةٌ سريعاً ما تخمد ، له تألقٌ سريعاً ما يخبو ، يُقْبِل ، ويتألَّق في مناسبات ، من هذه المناسبات شهر رمضان ، أو عقب سماع خُطْبَة مؤثرة يتألَّق يعزم على متابعة الطريق ثم يهْمد ، إثر حادث وفاة أحياناً ، عقب مصيبة ثم النجاة منها ، من خلال حدث تتبدَّى فيه عظمة الله عز وجل ، من خلال صحبةٍ عارضةٍ لمؤمنٍ متفوِّق ، من خلال حدثٍ تتبدَّى فيه عظمة الله عز وجل ، من خلال حادثٍ مؤثرٍ ، من خلال مصيبةٍ تراجعت بتوفيق الله عز وجل ، من خلال حادث وفاة لقريبٍ أو حبيب، من خلال كلمةٍ مؤثرةٍ ، أو خُطبة مؤثرة ، في مناسباتٍ تعبُّدية كرمضان والحج ، في هذه المناسبات المؤمن يتألق ، يُقْبِل ، لكن سريعاً ما يخبو هذا التألُّق ، سريعاً ما يفتر هذا الإقبال ، إذاً البطولة ليست في الإقبال ولا في التألق ولا في الغليان ولكن البطولة في الثبات ، في الاستمرار . فالإنسان إذا عاد إلى ما كان عليه لم يستفد شيئاً ، هذا الشأن لا يرقَى بالمسلم ، هذه الموجات النوبية ، هذه النفحات المتباعدة التي تأتيه هذه لا ترقَى به ، لابد من الثبات ، لابد من الاستمرار ، لابد من الإقبال المستمر ، لابد من التألُّق المستمر ، لابد من الغليان المستمر ، حتى ترقى ، وحتى تصل إلى ما ينبغي أن تصل إليه . إذاً أيها الأخوة ؛ هذا شيءٌ أقوله لكم وهو واضحٌ وضوح الشمس : البطولة في الثبات ، وفي الاستمرار والمداومة ، البطولة في الثبات ، والاستمرار ، والمداومة ، فقد ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ )) [ متفق عليه عن عائشة ] لزمت مجلس علم ثابر عليه ، لزمت تلاوة القرآن كل يوم ثابر عليها ، لزمت أن تصل أرحامك من حينٍ إلى آخر ثابر على هذا العمل ، ألزمت نفسك بدفع صدقةٍ ثابر عليها . (( أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ )) [ متفق عليه عن عائشة ] بطولة المؤمن أن يتخذ من هذا الدين منهجاً ثابتاً مستقراً : أيها الأخوة الكرام ؛ حقيقةٌ ينبغي أن تكون ماثلةٌ في أذهانكم جميعاً : أن بطولة المؤمن لا في تألُّقه العارض ، لا في إقباله النوبي ، لا في اندفاعه المؤَقَّت بمناسبةٍ أو بأخرى ، هذا شأن أي إنسان ، ولو وضعت كافراً في باخرةٍ وأشرفت على الغرق لنادى ربه بأعلى صوته ، ولدعا ربه من صميم قلبه ، ليست بطولتك أن تُقبل في حالات الشدَّة ، ولا في مناسباتٍ معينة ، ولا في أحداثٍ رهيبة ، ولكن البطولة أن تتخذ من هذا الدين منهجاً ثابتاً مستقراً ، هذا هو موضوع الخُطبة ، وهذا الموضوع من عادة الخطباء أن يعالجونه ، أو أن يعالجوه بعد رمضان ، لأن الإنسان أحياناً يتوهَّم أن شهر رمضان ولَّى ، فلْنَعُد إلى ما كنا عليه من اختلاط ، من ندوات ، من سهرات ، من أعمال لا ترضي الله ، هذا المسلم الذي يفعل ويتراجع ، يقبل ويدبر ، يتألَّق ويخبو ، هذا المسلم لا يمكن أن يصل إلى الله ، لأنه حركة متراجعة ، حركة لا تقدم ولا تؤخر . الوسائل الفعَّالة من خلال الكتاب والسُنَّة التي تعين على المتابعة والاستمرار : 1 الإقبال على القرآن الكريم : أيها الأخوة الكرام ؛ إلى موضوع الخطبة : الوسائل الفعَّالة من خلال الكتاب والسُنَّة الصحيحة التي تعين على المتابعة والاستمرار ، على مداومة الإقبال ، على مداومة الطاعة ، على مداومة التألُّق ، على مداومة الإقبال على الله . . الشيء الأول هو : الإقبال على القرآن الكريم ، لأنه حبل الله المتين ، لأنه النور المبين ، لأنه الصراط المستقيم ، هذا منهج الله ، كيف نقبل عليه ؟ نقبل عليه تلاوةً ، ونقبل عليه حفظاً ، ونقبل عليه فهماً ، ونقبل عليه تطبيقاً . تلاوةً ، وحفظاً ، وفهماً ، وتطبيقاً ، إليكم الدليل قال تعالى : ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ﴾ [ سورة الفرقان: 32-33] إذا كان القرآن الكريم مُثَبِّتاً للنبي عليه أتَمُّ الصلاة والتسليم ، فكيف بنا نحن الضعاف ؟ كيف بنا نحن المُقَصِّرون ؟ إذاً القرآن الكريم ، الإقبال عليه ؛ تلاوةً ، وحفظاً ، وفهماً، وتدبُّراً ، وتطبيقاً ، هو أحد الوسائل الفعالة لثباتك على هذا الدين القويم . أيها الأخوة ؛ هو كلام الله ، ومن قرأ كلام الله كان مع الله ، لذلك قالوا : إذا أردت أن تناجي ربك فصلِّ لأن الصلاة ذكرٌ ، وإذا أردت أن يناجيك ربُّك فاقرأ القرآن ، إذا أردت أن تناجي ربك فصلِّ لأن الصلاة ذكرٌ لله عز وجل ، قال تعالى : ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [ سورة طه : 14 ] أما إذا أردت أن يناجيك ربك فاقرأ القرآن ، وقد قال بعض العلماء : إن القرآن هو روح الروح . روحٌ لنفسك ، هذا الجسم يحتاج إلى مدد ، يحتاج إلى طعام ، إلى شراب ، إلى راحة ، وهذه النفس تحتاج إلى روحٍ تتألق بها ، إنه القرآن الكريم ، هو كلام الله ، ومن قرأ كلام الله كان مع الله . أيها الأخوة الكرام ؛ ألا يكفينا قوله تعالى : ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [ سورة الرعد : 28] ما أكثر الأمراض النفسية ! ما أكثر الأزمات ! ما أكثر الأخبار المؤلمة ! إنك إن تلوت القرآن الكريم اطمأنت نفسك ، اطمأن قلبك ، وارتاحت نفسك ، واستبشرت بأنك مع الله دائماً ، لأنك مع المنهج الصحيح . تزويد القرآن الإنسان بالتصورات و الموازين الصحيحة : يا أيها الأخوة الكرام ؛ مع شيءٍ من التفصيل : القرآن يزودك بتصوراتٍ صحيحة، وكم يشقى الإنسان لو كانت تصوراته غير صحيحة ، تصور صحيح عن الكون ، وعن الحياة ، وعن الإنسان ، القرآن يزوِّد المسلم بالتصورات الصحيحة ، ويزوده ثانيةً بالقيم الصحيحة ، قد تنشأ قيم مادية ، قد يعيش الناس قيماً باطلة مستمدة من الحياة المادية ، فالقرآن دائماً إذا قرأته يعيدك إلى القيَم الأصيلة ، إلى القيم التي تنفعك بعد الموت ، إلى القيم التي ترفعك عند الله عز وجل ، أما إذا ابتعدت عن القرآن ، تحكَّمت فيك قيَم المادة ، تعظم أرباب الأموال ، تحتقر الفقراء ، تعظم الأذكياء ، ولو كان ذكاؤهم شَيْطَانياً ، فكلما اقتربت من القرآن الكريم ، اقتربت من القيَم الصحيحة ، وكلما ابتعدت عن القرآن الكريم اقتربت من القيم المزيفة الباطلة التي تتهاوى عند الموت وتسقط ولا شأن لها إطلاقاً . أولاً : القرآن الكريم يزودك بالتصورات الصحيحة عن حقيقة الحياة ، عن حقيقة وجودك ، عن حقيقة الكون ، عن حقيقة المصائب ، عن حقيقة الغِنى ، ويزودك بالقيَم الصحيحة التي إذا تمسكت بها نفعتك في الساعة الحرجة ؛ ساعة مفارقة الدنيا . أيها الأخوة الأكارم ؛ والقرآن الكريم يقدِّم لك الموازين الصحيحة ، التي تزن بها الأمور ، وكثيراً ما يشقى الإنسان من استخدام ميزانٍ غير صحيح ، قد تستخدم أنت ميزان المال فتشقى ، وقد تستخدم ميزان القوة فتشقى ، وقد تستخدم ميزان الوسامة في اختيار الزوجة فتشقى، أما إذا استخدمت الموازين الدقيقة التي جاءت في القرآن الكريم فتسعد ولا تشقى ، التصورات ، والقيم ، والموازين هي التي تصونك من الهلاك وتحميك من الشقاء . أيها الأخوة الكرام ؛ وإذا قرأت القرآن ، القرآن وأنت لا تشعر يردُّ على الشبهات ، التي تنشأ في نفسك ، فقد تجد إنساناً بعيداً عن الدين أشدّ البُعد ، يزداد قوةً وبأساً وغنىً ومضاءً وتألقاً وهو مقترفٌ لكل المعاصي ، فهذا الإنسان يوقع الخلل في تصوراتك ، فإذا قرأت القرآن ردّ لك الله عز وجل هذه الشبهة . . ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ*مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [سورة آل عمران: 196-197] ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [ سورة الأنعام : 44] إذاً فضلاً عن أن القرآن الكريم يقدم لك التصورات الصحيحة ، والقيم الصحيحة ، والموازين الصحيحة ، يرد لك على الشبه التي قد تنشأ في نفسك . أيها الأخوة الأكارم ؛ الإنسان رجلان إما أنه يُعْنَى بكلام خالق البشر ، وإما أنه يعنى بكلام البشر ، دقق فيمن حولك ، دقق في أقربائك ، في زملائك ، في جيرانك ، استمع إلى حديثهم ، هناك إنسان لا يعنيه إلا كلام البشر ، يعلق عليه أهميةً كبرى ، يأخذ هذا الكلام ويحلله ويدرس أبعاده وهو كلام البشر ، وكلام البشر لا يقدم ولا يؤخِّر ، لذلك فرقٌ كبير بين أن يمتلئ كيانك بكلام خالق البشر ، وبين أن يمتلئ كيانك بكلام البشر ، كلامٌ قد لا يعني شيئاً ، قد لا يُطابق الحقيقة ، قد يكون كذباً وزوراً ، قد يكون بُهْتاناً ، قد يكون تضليلاً ، قد يكون افتراءً، قد يكون إفكاً ، هذا كلام البشر ، لكنك إذا ملأت كيانك بكلام خالق البشر ، أنت مع الكتاب الذي لا ريب فيه . . ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [ سورة فصلت : 42 ] أيها الأخوة الكرام ؛ المؤمن الصادق يجعل همَّه الاعتناء بكلام خالق البشر ، وفضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه ، دقق أيها الأخ الكريم في هذه الآية الكريمة : ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [ سورة إبراهيم : 27 ] الإنسان إذا أمضى عمره مؤمناً بمبدأ غير صحيح ، تهاوى أمامه كما يتهاوى العَنكبوت ، ماذا يفعل ؟ رجل يعيش في بلاد الغَرْب ، يعيش في مستوى ثقافي رفيع ، وفي بحبوحة مادية كبيرة ، وفي شأن اجتماعي كبير ، انتحر قبل أشهر ، كُتِبَت عنه مقالاتٌ طويلة عن سبب انتحاره ؛ لا شيء يدعو إلى انتحاره ، إلا أن صحفياً واحداً كشف الحقيقة ووضع يده عليها ، لقد آمن بمبدأٍ ثبت بطلانه فاحتقر ذاته ، احتقر وجوده ، احتقر فكره ، الإنسان إذا تعلَّق بمبدأٍ أرضيٍ وضعيٍ تهاوى أمامه كما يتهاوى بيت العنكبوت ، بماذا يشعر ؟ يشعر بالإحباط ، إنك إن كنت مع الله عز وجل لن تزيدك الأيام إلا ثباتاً على هذا المبدأ ، إنك إن كنت مع الله عز وجل لن تزيدك الأحداث إلا يقيناً بهذا المبدأ ، لذلك إذا كنت مع القرآن ، ومع خالق البشر ، ليس في حياتك مفاجأة ، وليس في حياتك إحباط ، وليس في حياتك ندم ، هذا أيها الأخوة معنى قوله تعالى : ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ﴾ [ سورة إبراهيم : 27 ] الشيء الأول الذي يعينك على الثبات : الإقبال على القرآن ؛ تلاوته آناء الليل وأطراف النهار ، الاقتباس من تصورات القرآن للكون والحياة ، اقتباسك الموازين منه ، اقتباسك القيَم منه ، القرآن يرد على الشُبُهات التي تعيش في نفسك ، القرآن هو القول الثابت ، القرآن حقٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه ، القرآن كتابٌ لا ريب فيه ، القرآن كلام خالق البشر ، وينبغي للمؤمن أن يهتمَّ بكلام خالق البشر ، لا أن يهتم بكلام البشر ، كلام لا يقدِّم ولا يؤخِّر . 2 التزام شرع الله عز وجل والعمل الصالح : الشيء الثاني أيها الأخوة الذي يعينك على الثبات على الإيمان : التزام شرع الله عز وجل والعمل الصالح ، طالبني بالدليل ، قال تعالى : ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ﴾ [ سورة النساء : 66 ] ما الذي يعينك على الثبات على الإيمان ؟ على الإقبال على الله ؟ على التألق ؟ أن تلتزم شرع الله عز وجل ، إنك إن التزمت شرع الله فأنت على المنهج القويم ، وعلى الصراط المستقيم ، وعلى الطريق المُعَبَّد ، تركب مركبةً وأنت على الطريق المُعَبَّد ، وكل شيءٍ واضحٌ على هذا الطريق . هكذا أيها الأخوة التزام مبادئ الشرع في زواجك ، في تجارتك ، في شرائك ، في بيعك ، في احتفالاتك ، في كل مناسبات حياتك ، في كل مناحي حياتك ، التزام الشرع هو الذي يعينك على الثبات على هذا الدين . . ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ﴾ [ سورة النساء : 66] أيها الأخوة الكرام ؛ كان أصحاب النبي عليهم رضوان الله إذا عملوا عملاً أَثْبَتوه ، داوموا عليه ، وكانت السيدة عائشة إذا عملت عملاً لَزِمَتْهُ ، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فأنت لو لزمت مجلس عِلم ، حافظ على هذا المجلس ، يربو الإيمان في قلبك ، تتراكم الحقائق عندك ، هذه الحقائق إذا تراكمت حملتك على طاعة الله ، وعلى الاستقرار النفسي، وعلى السعادة الروحيَّة . الشيء الثاني إذاً أن تتعرَّف إلى أمر الله ، وأن يكون أمر الله في حياتك نافذاً ، قال تعالى : ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [ سورة الأنفال : 33 ] قال العلماء : ﴿وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ أيْ سُنَّتِكَ في حياتهم مُطَبَّقة ، إذا كان بيتك إسلامياً ، وعملك إسلامياً ، وأصدقاؤك إسلاميين أَنَّىَ لك الزَيْغ ؟ وأنى لك الانزلاق ؟ وأنى لك الشقاء ؟ وأنى لك الهلاك ؟ إنك مصونٌ بسياجٍ منيع من شرع الله عز وجل . 3 تدبُّر قصص الأنبياء : الشيء الثالث من الوسائل الفعَّالة على الثبات على الإيمان : تدبُّر قصص الأنبياء ، هذه القصص التي جاءت في القرآن الكريم ما ذكرها الله عبثاً ، وما ذكرها الله كقصةٍ تُمْتِعَكَ وتمضي بها وقت فراغك ، حاشا لله أن يكون كلام الله عز وجل تزجيةً للوقت ، وأن يكون متعةً فنيةً للقارئ ، إنه أخطر من ذلك ، دقق في هذه الآية أيها الأخ الكريم ، أنا أعطيك الدليل من كتاب الله من كل وسيلةٍ فعالة ، قال تعالى : ﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ سورة هود : 120] سيدنا إبراهيم ، لمَنْ هذه القصة ؟ لنا نحن ، هل من مصيبةٍ أكبر من أن تضرم النار أياماً عديدة إلى أن تبلغ أوج اتقادها فيلقى هذا النبي الكريم فيها ؟ فيقول الله عز وجل : ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ سورة الأنبياء : 69] الله فعَّال ، الغربيون يعتقدون أن الله خلاَّق وليس فعَّالاً . . هو في السماء إلهٌ وفي الأرض إله ، والأمر كله بيده ، فإذا كنت معه فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ سورة الأنبياء : 69] والمؤمن الصادق يرى لا بهذه الحِدَّةِ ، ولا بهذا الوضع المُعْجِز ؛ لكن يرى حالاتٍ كثيرة ومناسباتٍ عديدة تتدخل فيها العناية الإلهية فتنقذه من ورطته ، وتنقذه من محنته ، وتحميه من بأس الظالمين . . ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ سورة الأنبياء : 69] هذه القصة ليست للتسلية ، ولا للمُتْعَة ، وليست تاريخاً ، إنها درسٌ متجددٌ يقرؤه المؤمن فترتفع معنوياته ، ويرى أن الله معه ولن يتخلى عنه . أصحاب موسى : ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ﴾ [ سورة الشعراء : 61 ] فرعون بكل قوَّته ، بكل جنوده ، بكل بأْسه ، بكل بطشه ، يلاحق موسى وأصحابه ، إلى أن وصل موسى وأصحابه إلى البحر . ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [ سورة الشعراء : 61-62] هل من أملٍ ؟ القوة الكبرى وراءك والبحر أمامك ما السبيل ؟ إنها عناية الله عز وجل . . وإذا العناية لاحظتك جفونها نم فالمخاوف كلُّهن أمان * * * شيءٌ آخر : هل من مصيبةٍ أفظع وأخطر من أن تجد نفسك في بطن الحوت ؟ في ظلمة بطن الحوت ، وفي ظلمة الليل البهيم ، وفي ظلمة البحر المخيف ؟ ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ سورة الأنبياء : 87-88] لذلك يعدُّ تدبُّر قصص الأنبياء التي وردت في القرآن الكريم وسيلةً فعالةً من وسائل الثبات على الإيمان ، ويمكن أن نضيف على ذلك أن قصص العلماء الصادقين الموحِّدين ، الذين طبَّقوا أحكام هذا الدين ، وأخلصوا لله رب العالمين ، إن قصص هؤلاء أيضاً وسيلةٌ فعالةٌ في الثبات على الدين ، وإذا كان الإنسان يأْنَسُ بالقصة فإنه يسعد بقصة رجلٍ مؤمنٍ عرف الله سبحانه وتعالى وقَطَفَ ثمار إيمانه . . القصة أيها الأخوة حقيقةٌ مع البُرهان عليها ، ولا تنسوا قوله تعالى : ﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [ سورة هود : 120] أنت تَثْبُتُ على الإيمان إذا لزمت شرع الله الحكيم ، وتثبت على الإيمان إذا تدبَّرت قصص الأنبياء ، وتثبت على الإيمان إذا أقبلت على القرآن . 4 الدعاء : لا زلنا في الوسائل الفعالة التي تعين المؤمن على أن يثبت على إيمانه ، ويأتيِ الدعاء كوسيلةٍ رابعة ، والدليل قول الله عز وجل : ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ [ سورة آل عمران : 8 ] الدعاء . . ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [ سورة البقرة : 250] الدعاء . ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) [ من الجامع لأحكام القرآن عن شهر بن حوشب] دعاء النبي . ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [ سورة يوسف : 33] دعاء سيدنا يوسف ، قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد يصرفه حيث يشاء . إذا علم الله منك الإخلاص في عبادته ثبت الله قلبك ، وإذا علم الزَيْغَ في قلبك ، الزيغ عن عبادته زاغ قلبك . . ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [ سورة الصف : 5 ] القلب مُحَرِّك ، وهو بيد الله ، لكنك أنت المُختار ، إذا اخترت طاعة الله ولو كانت العقبات كثيرة ثبَّت الله قلبك ، وإذا اخترت معصية الله ، ولو كانت المُسَهِّلات كثيرة زاغ قلبك ، لذلك أحد الوسائل الفعَّالة أن تدعو الله بالثبات ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان أكثر دعائه : ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) [ من الجامع لأحكام القرآن عن شهر بن حوشب] والقرآن الكريم يؤكد ذلك : ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ [ سورة آل عمران : 8 ] ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [ سورة البقرة : 250] هذه الوسيلة الرابعة : الدعاء ، أن تدعو الله دائماً بالتثبيت ، يا رب ثبتني على دينك ، يا رب قوِّ إيماني . ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [ سورة يوسف : 33] يا رب أعنِّ على طاعتك . وهذا معنى قوله تعالى : ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [ سورة الفاتحة : 5] بل إنه قد ورد : جمع القرآن في الفاتحة ، وجمعت الفاتحة في إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا حول على معصيته إلا به ، ولا قوة على طاعته إلا به ، فالدعاء إذاً أحد الوسائل الفعالة للثبات على الإيمان . 5 ذكر الله تعالى : عنصر آخر من عناصر التثبيت : ذكر الله تعالى ، الآية الكريمة : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ سورة الأنفال : 45] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾ [ سورة الأحزاب : 41] الأمر على " كثيراً " لا على الذكر . ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾ [ سورة الأحزاب : 41] لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً . ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ سورة الأنفال : 45] كان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمرٌ بادر إلى الصلاة ، كان يقول لبلال : ((أرحنا بها يا بلال )) [ أبو داود عن سالم بن أبي الجعد ] فذكر الله يُثَبِّت . . ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [ سورة الرعد : 28] آياتٌ كثيرة وأحاديث صحيحة ومواقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كلها تؤكد أن ذكر الله الذكر الكثير يدعو إلى الثبات . 6 الالتفاف حول العناصر المُثَبِّتَة : والعنصر السادس في موضوعنا : هو الالتفاف حول العناصر المُثَبِّتَة ، اسمع إلى قوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [ سورة التوبة : 119] لابدَّ من بيئةٍ إيمانية تحتويك ، لابد من جو صحي تعيش فيه ، لابد من إخوانٍ طيِّبين تأْنس بهم ، أما إذا وضعت نفسك في بيئةٍ سيئة ، ومع أصدقاء منحرفين ، ومع زملاء فاجرين أنَّى لك اليقين ؟ وأنى لك الثبات على دين الله القويم ؟ لابد من بيئةٍ صالحة . ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ [ سورة الممتحنة : 13] ومن يتوله منكم فإنه منهم ، لابد من أن تختار بيئةٍ مؤمنةٍ تعيش فيها ، لا بد من لقاءاتٍ مع المؤمنين ، أوقات الفراغ لا تُمْضَى مع الكفار الفاجرين ، وهذا كله تؤكده الآية الكريمة : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [ سورة التوبة : 119] ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [ سورة الكهف : 28 ] أيها الأخ الكريم ؛ الإنسان بشكل أو بآخر كهذا الوعاء الذي يستخدم لشرب الماء، وعاءٌ كبير ، له فتحةٌ علوية ، وله صنبور في أسفله ، أي شيءٍ تضعه فيه تأخذه من صنبوره الأسفل ، والإنسان وعاء ؛ التغذية الثقافية التي يتغذَّى منها هو الذي يعطيها ، فلو أحاط الإنسان نفسه بتغذيةٍ شيطانية ، بكلامٍ باطل ، بأخبارٍ فاحشة ، هذه التغذية السيِّئة تُعْطي السلوك السيِّئ ، أما إذا أحاط نفسه بمؤمنين صادقين ، إذا كان مع كلام رب العالمين ، مع سيرة سيد المرسلين ، مع سير الصحابة والتابعين ، إذا كان كذلك فكيف يتحرَّك ؟ ماذا يعطي ؟ يعطي الخير ، يعطي الحق ، يعطي الجمال ، فالتغذية الثقافية أخطر شيءٍ في حياة الإنسان ، قل لي من أين تتغذى ثقافياً أقل لك من أنت ؟ هذا معنى قوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [ سورة التوبة : 119] لابد من أن تكون مع المؤمنين ، مع أهل الحق ، لابد من أن تكون في بيتٍ من بيوت الله ، لابد لك من أن يكون لك مجلس علم تتغذَّى به ، فإن لم تتغذَّ بالعلم الصحيح تغذيت بالعلم المزور ، إن لم تتغذَّ بسِيَر الصالحين تغذَّيت بسير الفنَّانين ، وفرقٌ كبير بين هؤلاء وهؤلاء، انظر إلى التغذية الثقافية التي تتغذى بها إنها سبب السلوك المستقيم ، إنها سبب سعادة الدارَيْن . أيها الأخوة الكرام ؛ يقول عليه الصلاة والسلام : (( إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر ، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير )) [ الجامع لأحكام القرآن عن أنس بن مالك ] قد تصحب مؤمناً ، كل أبواب الخير تفتح على يده ، وقد تصحب فاسقاً هو مفتاحٌ للشر ، مفتاحٌ للدمار ، يدلُّك على عملٍ منحرف ، على كسب مال حرام ، على غَصْبٍ ، على عدوانٍ ، على بَغْيٍ ، على كذبٍ ، على زورٍ ، إن الفاجر والفاسق مفتاحٌ للشر ، أما إذا صحبت مؤمناً فهو مفتاحٌ للخير ، لذلك ورد في الحديث الصحيح : (( لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي)) [ من تفسير ابن كثير عن أبي سعيد ] هذه البيئة ، مع من تعيش ؟ مع من تسهر ؟ مع من تسافر ؟ مع من تتنزَّه ؟ هذه البيئة يجب أن تختارها من المؤمنين الصادقين . وفي الحديث الصحيح : (( خياركم الذين إذا رؤوا ذكر الله بهم )) [البيهقي عن عمر ] يقول بعض العلماء : كنا إذا اشتد بنا الخوف ، وساءت منا الظنون ، وضاقت الأرض ، أتينا شيخنا ، فما هو إلا أن نراه ، ونسمع كلامه ، فيذهب ذلك كلُّه عنَّا . أيها الأخوة الكرام ؛ لابد من أن تكون مع المؤمنين ، لابد من مجلس علمٍ يحضنك ، لابد من رجلٍ تثق بعلمه وورعه تستشيره ، لابد من أخٍ مؤمنٍ مخلصٍ ترتاح إليه ، تمضي وقت فراغك معه . إذاً الالتفاف حول العناصر المثبِّتة أحد الوسائل الفعالة في الثبات على الإيمان . 7 الدعوة إلى الله : بقي شيءٌ دقيقٌ جداً هو : أن تدعو إلى الله ولو كنت في أول الطريق . ما أثر الدعوة إلى الله في نفسك ؟ أنت حينما تدعو إلى الله ، وحينما تخلو مع نفسك ، وحينما تتحرك في بيتك ، وفي عملك ، هناك سؤالٌ خطيرٌ خطير يطرح عليك دائماً : هل أنت كذلك ؟ ماذا قلت للناس صباحاً ؟ هل أنت كذلك ؟ ألا تستحي منا ؟ أنت إذا دعوت إلى الله حاسبت نفسك بعدها حساباً عسيراً عسيراً عسيراً . لذلك أحد الضمانات إن لم تدع إلى الله عز وجل . . أيها الأخوة ؛ الحقائق النفسية الثابتة أن النفس إن لم تتحرك تأسَنْ ، وإن لم تنطلق تتعفَّن ، بالبيت ؛ لا يدعو إلى الله ، لا ينصح ، لا يأمر بالمعروف ، لا ينهى عن المنكر ، ليس له علاقة بأحد ، بعيد عن الناس كلياً ، متقوْقِع ، النفس إن لم تتحرك تأْسَن كالماء الآسن ، وإن لم تنطلق تتعفَّن ، إن الدعوة إلى الله وظيفة الرُسُل جميعاً ، إنها صنعة الأنبياء جميعاً ، إنها أعظم عملٍ على الإطلاق . . ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ سورة فصلت : 33] إن لم تدعُ إلى الله عز وجل فأنت في موقف الدفاع أمام الشيطان ، كلما جاءك سهمٌ اتقيته ، موقف المُدافع دائماً موقف ضعيف ، لكنك إن دعوت إلى الله كنت كمن يهاجم الباطل . أيها الأخوة الكرام ؛ بالدعوة إلى الله تتفجَّر الطاقات ، بالدعوة إلى الله تُنْجَز المُهمات ، دائماً وأبداً إذا دعوت إلى الله يأتيك هذا الخاطر اليومي ، الساعي : هل أنت كذلك ؟ تذكر ماذا قلت للناس ؟ هل أنت كذلك ؟ هذا الهاجس هو الذي يجعلك تضاعف الطاقات وتحث السير إلى الله عز وجل . أخواننا الكرام ؛ حقيقةٌ ثانية : نفسك إن لم تشغلها بالدعوة إلى الله شغلتك بالدنيا ، تقع في زخارف الدنيا ، تقع في تزيين البيوت ، في إنشاء البيوت في المصايف ، في إنشاء المزارع ، ويأتي مَلَك الموت فجأةً ولست مستعداً لمغادرة الدنيا ، إن لم تشغلها بالدعوة إلى الله شغلتك بالدنيا الفانية ، التي لا تنفعك عند الموت ، النفس فيها ديناميكية ، فيها حركة ، هذه الحركة إن لم توجِّهها توجيهاً صحيحاً تحرَّكت حركةً مهلكةً ، الإنسان عنده طاقات ، عنده حركة يومية ، أذكى إنسان ، وأعقل إنسان ، وأشد الناس توفيقاً هو الذي يوظِّف هذه الحركة في عملٍ ينفعه بعد الموت ، بإمكانك أن تعطي لأخٍ تثق بإيمانه شريطاً ، أن تعطيه مقالةً ، أن تذكره بآيةٍ، بحكمةٍ ، بحديثٍ . إن دعوت إلى الله أنت أول المنتفعين ، أول منتفع بالدعوة هو الداعي نفسه ، لأن العلم يزكو على الإنفاق ، يا كُمَيْل مات خُزَّان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، والمال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق . 8 الثقة بنصر الله : أيها الأخوة الكرام ؛ بقي عنصر أساسي في الثبات على الإيمان . الثقة بنصر الله ؛ النبي عليه الصلاة والسلام في أثناء طريق الهجرة كان ملاحقاً ، وكان مهدوراً دمه ، وقد وضعت قريش جائزةً كبيرةً كبيرة لمن يأتي به حياً أو ميتاً ، ولحقه سُراقة ، وحينما أدركه ساخت قدما خيل سراقة في الرمال – والقصة معروفة عندكم – لكن التعليق الذي يعنيني أن أقوله لكم : ماذا قال له النبي عليه الصلاة والسلام ؟ النبي ملاحق ، مهدور دمه !! قال له : ((يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى ؟)) [ من شرح الجامع الصغير ] كلامٌ لا يصدق ، أنت ملاحق ، أنت مهدورٌ دمك ، ماذا يعني كلام النبي ؟ يعني كلام النبي أنه سيصل إلى المدينة ، وسيُنْشِئ كياناً إسلامياً ، وسيحارب أعداء المسلمين ، وسينتصر عليهم ، وستسقط المدائن معقل الفُرْس ، وسيأتي الجنود بتاج كسرى وسواريه . هذا معنى كلام النبي وقد تحقَّق ، ودعا عمر بن الخطاب سراقة ؛ وألبسه تاج كسرى ، وسواري كسرى ، وأثواب كسرى وقال : " أُعَيْرابِيٌ من بني مدلج يلبس سواري كسرى ؟!! " . ماذا يعني هذا الكلام ؟ يعني أن النبي كان واثقاً بنصر الله ، وهذا شأن المؤمنين ؛ الله سبحانه وتعالى لا يتخلَّى عن المؤمنين ، ولا يتخلَّى عن دينه ، وحينما يتوهَّم المؤمن أو الإنسان أن الله ينصر الشِرْك على التوحيد والباطل على الحق نصراً ثابتاً مستقراً بحيث لا تقوم للحق قائمة ، فهو لا يعرف الله ، وقد أساء الظن بالله عز وجل ، وهذا الظن ظن الجاهلية ، الثقة بنصر الله ، أنت مع خالق الكون ، أنت مع مُبْدِع الكون ، أنت مع من بيده كل شيء ، مع من بيده ملكوت السموات والأرض ، كيف تخنع ؟ كيف تضعف ؟ ﴿مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [ سورة آل عمران : 146] هذا عنصرٌ أساسي : الثقة بأن الله لا يتخلى عن المؤمنين ، وأن الله لا يتخلى عن دينه القويم ، وأن الله سينصر دينه إن عاجلاً أو آجلاً ، هذا العنصر أساسيٌ جداً في الثبات على الدين . النبي عليه الصلاة والسلام في معركة الخندق حينما حاصر الكفار المسلمين ، وحينما نقض اليهود عهدهم كعادتهم مع المسلمين ، وحينما أصبح الإسلام قضية ساعات ، أصبح دمار المسلمين وإبادتهم عن آخرهم قضية ساعات ، حتى قال قائل قائلهم : أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قَيْصَرَ وكِسْرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ؟!! حتى أن الله أثبت قولهم في القرآن : ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ﴾ [ سورة الأحزاب : 12] ما الذي حصل ؟ قال : ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾ [ سورة الأحزاب : 11] أما الذين آمنوا فماذا قالوا ؟ قالوا : ﴿وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾ [ سورة الأحزاب : 22-23] إذاً الثقة بنصر الله هذا مما يقوي معنويات المؤمن ، وحقيقة الباطل يجب أن يعرفها المؤمن : ﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾ [ سورة الإسراء : 81] الباطل الاعتقادي ، النظريات الهدَّامة ، أي باطل سلوكي اعتقادي ، هذا الباطل له جولة ثم يضمحل ، وكم من أنواع الأباطيل تلاشت وأصبحت في مزابل التاريخ . أيها الأخوة المؤمنون . . كن مع الله تر الله معك واترك الكل وحاذر طمعك وإذا أعطاك من يمنعه ثم من يعطي إذا ما منعك؟ * * * حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني . * * * الخطبة الثانية : أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . الغشاء البريتوني : أيها الأخوة الكرام ؛ في الأمعاء الدقيقة غشاء يحملها أو يثبتها ، هذا الغشاء اسمه عند الأطباء الغشاء البريتوني ، لهذا الغشاء وظيفةٌ لا تصدَّق ، أولاً : لو أن الإنسان شرب ماءً يغلي ، فالأمعاء لا تشعر بالحر ، لأن حكمةً بالغة لله عز وجل أن الأمعاء الدقيقة والغليظة ليس فيها أعصاب حس إطلاقاً ، لذلك الأمعاء محاطة بغشاء ، هذا الغشاء له وظائف كثيرة ، من وظائفه أنه يحملها ويحملها بشكلٍ مرن ، أي يسمح لها بالحركة وهو يحملها ، وهذا من أدق الأعمال ، يحملها بشكلٍ مرن ، لأن في حركة الأمعاء يحصل الهضم الذي أساسه حركة ميكانيكية ، يحملها مع حركتها المرنة ، وهذا الغشاء فيه نهايات عصبية ، وهذا الغشاء فيه مراكز لمفاوية ، هذه المراكز بمثابة أجهز دفاع بالجسم البشري ، فلو أن التهاباً حاداً كان بالأمعاء وانثقبت الأمعاء ، الغشاء البريتوني يتحرَّك ليصنع مصلاً يلتهم هذه الجراثيم ، ويشعر الإنسان بالألم ، الآلام التي يحسها الإنسان في بطنه ليس مصدرها الأمعاء بل الغشاء البريتوني، الذي هو جهاز الإنذار الأول ، لو حدث انثقاب بالأمعاء أو التهاب حاد ، وصار هناك إنتانات ، فهذا الغشاء البريتوني فيه نهايات عصبية تشعر الإنسان بالألم . وهناك مراكز دفاع تستخبر عن طبيعة الجرثوم ، وتصنع مصلاً مضاداً ، وتلتهم الجرثوم ، وتطوِّق هذه المشكلة ، هذا الغشاء الرقيق تجده عند القصاب بين الأمعاء فيه عُقَد بلغمية صغيرة ككتل شحمية ، هذه العقد البلغمية أجهزة دفاع من أرقى الأجهزة ، فيها جنود تكتشف طبيعة العدو ، وفيها معمل للمصول ، وفيها جنود مقاتلة ، أنت ترى غشاء رقيقاً لا قيمة له عند القصَّاب ، فيه عُقَد صغيرة هذه العقد هي العقد البلغمية . وفي هذا الغشاء نهاياتٌ عصبية ، فكل آلام البطن تعدُّ جهاز الإنذار المبكر ، وكل هذه الغدد تعد أجهزة دفاع عن هذه الأمعاء التي هي أساسيةٌ في حياة الإنسان ، ولكن لحكمةٍ بالغة ليس في الأمعاء أعصاب حس ، لذلك جاءت الآية الكريمة – دققوا في هذه الآية- أعصاب الغشاء البريتوني متى تنقل الألم لصاحبها ؟ إذا حدث انثقاب في الأمعاء تصبح الآلام لا تطاق ، قال تعالى : ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾ [ سورة محمد : 15] إن قُطِّعَتْ الأمعاء شعر الإنسان بالألم ، إذا انثقبت الأمعاء شعر الإنسان بالألم . ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾ [ سورة محمد : 15] هذه الآية تتوافق مع أحدث مُعْطيات العلم ، ولولا أن القرآن كلام الله لما أمكن للنبي عليه الصلاة والسلام أن يكشف هذه الحقيقة ، طبيعة العصر الذي نزل فيه القرآن في كل معطياته العلمية لا تسمح بهذه الحقيقة ، هذا الغشاء الذي يتمتَّع بنهايات عصبية حساسة جداً لا يمكن أن تُشْعِرَ بالألم إلا في حالة انثقاب الأمعاء ، وأما الإحساس بالألم في الأمعاء فغير موجود ، لو أعطينا أمعاء الإنسان ماءً يغلي لا يشعر بشيء . ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً ﴾ [ سورة محمد : 15] متى يؤلمهم ؟ حينما يقطع أمعاءهم : ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾ [ سورة محمد : 15] أيها الأخوة الكرام ؛ كلما كشف الإنسان حقيقةً في جسمه ازداد تعظيماً لله عز وجل ، هذا كتاب الله ، هذا كتاب خالق البشر ، هو الكتاب المقرر ، هو المنهج الحكيم ، هو الصراط المستقيم ، هو النور المبين ، هو الحبل المتين . الدعاء : اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت ، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعزُّ من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك اللهمَّ ونتوب إليك . اللهمَّ هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تُهِنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا . اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير .