المشاط: توسيع التعاون مع القطاع الخاص في ظل الشراكة الاستراتيجية بين مصر والصين    استقرار "بيتكوين" فوق 91 ألف دولار بتعافيها برهانات خفض الفائدة الأمريكية    وزير الخارجية يجدد التأكيد على حل الدولتين ووحدة الأراضي الفلسطينية    وزير الخارجية يشارك في إطلاق "ميثاق المتوسط"    منذر طمين يقود الهجوم، تشكيل المصري أمام زيسكو في الكونفدرالية    ضربات أمنية مستمرة لضبط مرتكبي جرائم الإتجار غير المشروع بالنقد الأجنبي    إحباط محاولة جلب كميات كبيرة من الألعاب النارية وأجهزة اتصال لاسلكية ومنشطات داخل حاويتين    ضبط 3618 قضية سرقة تيار كهربائي خلال 24 ساعة    شيرر ينضم لكاراجر في هجومه على صلاح    المفوضة الأوروبية لإدارة الأزمات تتفقد آليات إدخال المساعدات من معبر رفح    تامر حسني يكشف حقيقة تدهور حالته الصحية    تعرف على سر أعلى معدلات أعطال السباكة فى الجمعة البنيّة    أحمد الشناوي: مواجهة بيرامديز ل باور ديناموز لن تكون سهلة    ذا أثلتيك: ريال مدريد يبلغ ليفربول بقرار حاسم حول ضم كوناتي    اسعار الاسمنت اليوم الجمعه 28 نوفمبر 2025 فى المنيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات والانهيارات الأرضية بإندونيسيا إلى 84 شخصًا    الدفاع المدني السوري: عمليات الإنقاذ في بيت جن مستمرة رغم صعوبة الوصول    الأرصاد الجوية تكشف توقعات الطقس للأيام المقبلة: خريف مائل للبرودة وانخفاض درجات الحرارة    محافظة الجيزة تعلن غلق كلى ل شارع الهرم لمدة 3 أشهر لهذا السبب    تحقيق عاجل بعد انتشار فيديو استغاثة معلمة داخل فصل بمدرسة عبد السلام المحجوب    شادية.. أيقونة السينما المصرية الخالدة التي أسرت القلوب صوتاً وتمثيلاً    تامر محسن يقدم ماستر كلاس في مهرجان الفيوم لأفلام البيئة    تحمل 25 ألف سيارة.. ميناء الإسكندرية يستقبل أكبر ناقلة سيارات في العالم    الصحة: فحص نحو 15 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأورام السرطانية    «السبكي» يلتقي وزير صحة جنوب أفريقيا لبحث تعزيز السياحة العلاجية والاستثمار الصحي    «شاشة» الإيطالي يناقش تحكم الهواتف المحمولة في المشاعر الإنسانية    استعدادات مكثفة في مساجد المنيا لاستقبال المصلين لصلاة الجمعة اليوم 28نوفمبر 2025 فى المنيا    خشوع وسكينة.. أجواء روحانية تملأ المساجد في صباح الجمعة    انقطاع الكهرباء 5 ساعات غدًا السبت في 3 محافظات    نقل شعائر صلاة الجمعة من مسجد الأزهر الشريف (بث مباشر)    أسعار البيض اليوم الجمعة 28 نوفمبر    الصحة: فحص 15 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأورام السرطانية    رئيس كوريا الجنوبية يعزي في ضحايا حريق المجمع السكني في هونج كونج    مصرع فتاة وإصابة أخرى صدمتهما سيارة ميكروباص بالبدرشين    "من الفرح إلى الفاجعة".. شاب يُنهي حياة زوجته بسلاح أبيض قبل الزفاف في سوهاج    مواقيت الصلاه اليوم الجمعه 28نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا    الجيش الإسرائيلي يقتل فلسطينيا ويصيب طفلة جنوبي غزة    جنوب الوادي.. "جامعة الأهلية" تشارك بالمؤتمر الرابع لإدارة الصيدلة بقنا    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 28- 11- 2025 والقنوات الناقلة    البترول: مجلس المعادن الأسترالى يبدى اهتمام بالتعاون الفني في قطاع التعدين    صلاة الجنازة على 4 من أبناء الفيوم ضحايا حادث مروري بالسعودية قبل نقلهم إلى مصر    بيونج يانج: تدريبات سول وواشنطن العسكرية تستهدف ردع كوريا الشمالية    45 دقيقة تأخير على خط «طنطا - دمياط».. الجمعة 28 نوفمبر 2025    محمد الدماطي يحتفي بذكرى التتويج التاريخي للأهلي بالنجمة التاسعة ويؤكد: لن تتكرر فرحة "القاضية ممكن"    أستراليا.. يعتقد أن ضحيتي هجوم القرش بشمال سيدني مواطنان سويسريان    رمضان صبحي بين اتهامات المنشطات والتزوير.. وبيراميدز يعلن دعمه للاعب    عبير نعمة تختم حفل مهرجان «صدى الأهرامات» ب«اسلمي يا مصر»    دار الإفتاء توضح حكم إخراج الزكاة للأقارب.. اعرف قالت إيه    حذر من عودة مرتقبة .. إعلام السيسي يحمل "الإخوان" نتائج فشله بحملة ممنهجة!    شروط حددها القانون لجمع البيانات ومعالجتها.. تفاصيل    إعلام فلسطيني: الاحتلال يشن غارات جوية على مدينة رفح جنوب قطاع غزة    القانون يحدد ضوابط لمحو الجزاءات التأديبية للموظف.. تعرف عليها    رئيس التصنيع بالصيادلة: استهلاك مصر من بنج الأسنان يصل إلى 600 ألف عبوة سنويًا    سيناريست "كارثة طبيعية" يثير الوعي بمشكلة المسلسل في تعليق    اليوم، ختام مسابقة كاريكاتونس بالفيوم وإعلان أسماء الفائزين    وزير الثقافة والمحافظ يشهدان ختام الدورة ال18 من ملتقى الأقصر الدولي للتصوير    أبوريدة: بيراميدز ليس له ذنب في غياب لاعبيه عن كأس العرب    الشيخ خالد الجندي يحذر من فعل يقع فيه كثير من الناس أثناء الصلاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وسائل الثبات على الإيمان – الغشاء البريتوني.
نشر في شموس يوم 10 - 11 - 2016


لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم ارحمنا فإنَّك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير . اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عباد ك الصالحين .
الثبات على الإيمان :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ موضوع الخطبة اليوم وسائل الثبات على الإيمان من خلال الكِتاب والسُنَّة الصحيحة ، وأما السبب الذي دعا إلى معالجة هذا الموضوع فالملاحظة الثابتة أن المسلم له إقبالٌ على الله عز وجل ، سريعاً ما يتراجع ، له فورةٌ سريعاً ما تخمد ، له تألقٌ سريعاً ما يخبو ، يُقْبِل ، ويتألَّق في مناسبات ، من هذه المناسبات شهر رمضان ، أو عقب سماع خُطْبَة مؤثرة يتألَّق يعزم على متابعة الطريق ثم يهْمد ، إثر حادث وفاة أحياناً ، عقب مصيبة ثم النجاة منها ، من خلال حدث تتبدَّى فيه عظمة الله عز وجل ، من خلال صحبةٍ عارضةٍ لمؤمنٍ متفوِّق ، من خلال حدثٍ تتبدَّى فيه عظمة الله عز وجل ، من خلال حادثٍ مؤثرٍ ، من خلال مصيبةٍ تراجعت بتوفيق الله عز وجل ، من خلال حادث وفاة لقريبٍ أو حبيب، من خلال كلمةٍ مؤثرةٍ ، أو خُطبة مؤثرة ، في مناسباتٍ تعبُّدية كرمضان والحج ، في هذه المناسبات المؤمن يتألق ، يُقْبِل ، لكن سريعاً ما يخبو هذا التألُّق ، سريعاً ما يفتر هذا الإقبال ، إذاً البطولة ليست في الإقبال ولا في التألق ولا في الغليان ولكن البطولة في الثبات ، في الاستمرار .
فالإنسان إذا عاد إلى ما كان عليه لم يستفد شيئاً ، هذا الشأن لا يرقَى بالمسلم ، هذه الموجات النوبية ، هذه النفحات المتباعدة التي تأتيه هذه لا ترقَى به ، لابد من الثبات ، لابد من الاستمرار ، لابد من الإقبال المستمر ، لابد من التألُّق المستمر ، لابد من الغليان المستمر ، حتى ترقى ، وحتى تصل إلى ما ينبغي أن تصل إليه .
إذاً أيها الأخوة ؛ هذا شيءٌ أقوله لكم وهو واضحٌ وضوح الشمس : البطولة في الثبات ، وفي الاستمرار والمداومة ، البطولة في الثبات ، والاستمرار ، والمداومة ، فقد ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ ))
[ متفق عليه عن عائشة ]
لزمت مجلس علم ثابر عليه ، لزمت تلاوة القرآن كل يوم ثابر عليها ، لزمت أن تصل أرحامك من حينٍ إلى آخر ثابر على هذا العمل ، ألزمت نفسك بدفع صدقةٍ ثابر عليها .
(( أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ ))
[ متفق عليه عن عائشة ]
بطولة المؤمن أن يتخذ من هذا الدين منهجاً ثابتاً مستقراً :
أيها الأخوة الكرام ؛ حقيقةٌ ينبغي أن تكون ماثلةٌ في أذهانكم جميعاً : أن بطولة المؤمن لا في تألُّقه العارض ، لا في إقباله النوبي ، لا في اندفاعه المؤَقَّت بمناسبةٍ أو بأخرى ، هذا شأن أي إنسان ، ولو وضعت كافراً في باخرةٍ وأشرفت على الغرق لنادى ربه بأعلى صوته ، ولدعا ربه من صميم قلبه ، ليست بطولتك أن تُقبل في حالات الشدَّة ، ولا في مناسباتٍ معينة ، ولا في أحداثٍ رهيبة ، ولكن البطولة أن تتخذ من هذا الدين منهجاً ثابتاً مستقراً ، هذا هو موضوع الخُطبة ، وهذا الموضوع من عادة الخطباء أن يعالجونه ، أو أن يعالجوه بعد رمضان ، لأن الإنسان أحياناً يتوهَّم أن شهر رمضان ولَّى ، فلْنَعُد إلى ما كنا عليه من اختلاط ، من ندوات ، من سهرات ، من أعمال لا ترضي الله ، هذا المسلم الذي يفعل ويتراجع ، يقبل ويدبر ، يتألَّق ويخبو ، هذا المسلم لا يمكن أن يصل إلى الله ، لأنه حركة متراجعة ، حركة لا تقدم ولا تؤخر .
الوسائل الفعَّالة من خلال الكتاب والسُنَّة التي تعين على المتابعة والاستمرار :
1 الإقبال على القرآن الكريم :
أيها الأخوة الكرام ؛ إلى موضوع الخطبة : الوسائل الفعَّالة من خلال الكتاب والسُنَّة الصحيحة التي تعين على المتابعة والاستمرار ، على مداومة الإقبال ، على مداومة الطاعة ، على مداومة التألُّق ، على مداومة الإقبال على الله . .
الشيء الأول هو : الإقبال على القرآن الكريم ، لأنه حبل الله المتين ، لأنه النور المبين ، لأنه الصراط المستقيم ، هذا منهج الله ، كيف نقبل عليه ؟ نقبل عليه تلاوةً ، ونقبل عليه حفظاً ، ونقبل عليه فهماً ، ونقبل عليه تطبيقاً . تلاوةً ، وحفظاً ، وفهماً ، وتطبيقاً ، إليكم الدليل قال تعالى :
﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ﴾
[ سورة الفرقان: 32-33]
إذا كان القرآن الكريم مُثَبِّتاً للنبي عليه أتَمُّ الصلاة والتسليم ، فكيف بنا نحن الضعاف ؟ كيف بنا نحن المُقَصِّرون ؟ إذاً القرآن الكريم ، الإقبال عليه ؛ تلاوةً ، وحفظاً ، وفهماً، وتدبُّراً ، وتطبيقاً ، هو أحد الوسائل الفعالة لثباتك على هذا الدين القويم .
أيها الأخوة ؛ هو كلام الله ، ومن قرأ كلام الله كان مع الله ، لذلك قالوا : إذا أردت أن تناجي ربك فصلِّ لأن الصلاة ذكرٌ ، وإذا أردت أن يناجيك ربُّك فاقرأ القرآن ، إذا أردت أن تناجي ربك فصلِّ لأن الصلاة ذكرٌ لله عز وجل ، قال تعالى :
﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾
[ سورة طه : 14 ]
أما إذا أردت أن يناجيك ربك فاقرأ القرآن ، وقد قال بعض العلماء : إن القرآن هو روح الروح . روحٌ لنفسك ، هذا الجسم يحتاج إلى مدد ، يحتاج إلى طعام ، إلى شراب ، إلى راحة ، وهذه النفس تحتاج إلى روحٍ تتألق بها ، إنه القرآن الكريم ، هو كلام الله ، ومن قرأ كلام الله كان مع الله .
أيها الأخوة الكرام ؛ ألا يكفينا قوله تعالى :
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
[ سورة الرعد : 28]
ما أكثر الأمراض النفسية ! ما أكثر الأزمات ! ما أكثر الأخبار المؤلمة ! إنك إن تلوت القرآن الكريم اطمأنت نفسك ، اطمأن قلبك ، وارتاحت نفسك ، واستبشرت بأنك مع الله دائماً ، لأنك مع المنهج الصحيح .
تزويد القرآن الإنسان بالتصورات و الموازين الصحيحة :
يا أيها الأخوة الكرام ؛ مع شيءٍ من التفصيل : القرآن يزودك بتصوراتٍ صحيحة، وكم يشقى الإنسان لو كانت تصوراته غير صحيحة ، تصور صحيح عن الكون ، وعن الحياة ، وعن الإنسان ، القرآن يزوِّد المسلم بالتصورات الصحيحة ، ويزوده ثانيةً بالقيم الصحيحة ، قد تنشأ قيم مادية ، قد يعيش الناس قيماً باطلة مستمدة من الحياة المادية ، فالقرآن دائماً إذا قرأته يعيدك إلى القيَم الأصيلة ، إلى القيم التي تنفعك بعد الموت ، إلى القيم التي ترفعك عند الله عز وجل ، أما إذا ابتعدت عن القرآن ، تحكَّمت فيك قيَم المادة ، تعظم أرباب الأموال ، تحتقر الفقراء ، تعظم الأذكياء ، ولو كان ذكاؤهم شَيْطَانياً ، فكلما اقتربت من القرآن الكريم ، اقتربت من القيَم الصحيحة ، وكلما ابتعدت عن القرآن الكريم اقتربت من القيم المزيفة الباطلة التي تتهاوى عند الموت وتسقط ولا شأن لها إطلاقاً .
أولاً : القرآن الكريم يزودك بالتصورات الصحيحة عن حقيقة الحياة ، عن حقيقة وجودك ، عن حقيقة الكون ، عن حقيقة المصائب ، عن حقيقة الغِنى ، ويزودك بالقيَم الصحيحة التي إذا تمسكت بها نفعتك في الساعة الحرجة ؛ ساعة مفارقة الدنيا .
أيها الأخوة الأكارم ؛ والقرآن الكريم يقدِّم لك الموازين الصحيحة ، التي تزن بها الأمور ، وكثيراً ما يشقى الإنسان من استخدام ميزانٍ غير صحيح ، قد تستخدم أنت ميزان المال فتشقى ، وقد تستخدم ميزان القوة فتشقى ، وقد تستخدم ميزان الوسامة في اختيار الزوجة فتشقى، أما إذا استخدمت الموازين الدقيقة التي جاءت في القرآن الكريم فتسعد ولا تشقى ، التصورات ، والقيم ، والموازين هي التي تصونك من الهلاك وتحميك من الشقاء .
أيها الأخوة الكرام ؛ وإذا قرأت القرآن ، القرآن وأنت لا تشعر يردُّ على الشبهات ، التي تنشأ في نفسك ، فقد تجد إنساناً بعيداً عن الدين أشدّ البُعد ، يزداد قوةً وبأساً وغنىً ومضاءً وتألقاً وهو مقترفٌ لكل المعاصي ، فهذا الإنسان يوقع الخلل في تصوراتك ، فإذا قرأت القرآن ردّ لك الله عز وجل هذه الشبهة . .
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ*مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾
[سورة آل عمران: 196-197]
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
[ سورة الأنعام : 44]
إذاً فضلاً عن أن القرآن الكريم يقدم لك التصورات الصحيحة ، والقيم الصحيحة ، والموازين الصحيحة ، يرد لك على الشبه التي قد تنشأ في نفسك .
أيها الأخوة الأكارم ؛ الإنسان رجلان إما أنه يُعْنَى بكلام خالق البشر ، وإما أنه يعنى بكلام البشر ، دقق فيمن حولك ، دقق في أقربائك ، في زملائك ، في جيرانك ، استمع إلى حديثهم ، هناك إنسان لا يعنيه إلا كلام البشر ، يعلق عليه أهميةً كبرى ، يأخذ هذا الكلام ويحلله ويدرس أبعاده وهو كلام البشر ، وكلام البشر لا يقدم ولا يؤخِّر ، لذلك فرقٌ كبير بين أن يمتلئ كيانك بكلام خالق البشر ، وبين أن يمتلئ كيانك بكلام البشر ، كلامٌ قد لا يعني شيئاً ، قد لا يُطابق الحقيقة ، قد يكون كذباً وزوراً ، قد يكون بُهْتاناً ، قد يكون تضليلاً ، قد يكون افتراءً، قد يكون إفكاً ، هذا كلام البشر ، لكنك إذا ملأت كيانك بكلام خالق البشر ، أنت مع الكتاب الذي لا ريب فيه . .
﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾
[ سورة فصلت : 42 ]
أيها الأخوة الكرام ؛ المؤمن الصادق يجعل همَّه الاعتناء بكلام خالق البشر ، وفضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه ، دقق أيها الأخ الكريم في هذه الآية الكريمة :
﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
[ سورة إبراهيم : 27 ]
الإنسان إذا أمضى عمره مؤمناً بمبدأ غير صحيح ، تهاوى أمامه كما يتهاوى العَنكبوت ، ماذا يفعل ؟ رجل يعيش في بلاد الغَرْب ، يعيش في مستوى ثقافي رفيع ، وفي بحبوحة مادية كبيرة ، وفي شأن اجتماعي كبير ، انتحر قبل أشهر ، كُتِبَت عنه مقالاتٌ طويلة عن سبب انتحاره ؛ لا شيء يدعو إلى انتحاره ، إلا أن صحفياً واحداً كشف الحقيقة ووضع يده عليها ، لقد آمن بمبدأٍ ثبت بطلانه فاحتقر ذاته ، احتقر وجوده ، احتقر فكره ، الإنسان إذا تعلَّق بمبدأٍ أرضيٍ وضعيٍ تهاوى أمامه كما يتهاوى بيت العنكبوت ، بماذا يشعر ؟ يشعر بالإحباط ، إنك إن كنت مع الله عز وجل لن تزيدك الأيام إلا ثباتاً على هذا المبدأ ، إنك إن كنت مع الله عز وجل لن تزيدك الأحداث إلا يقيناً بهذا المبدأ ، لذلك إذا كنت مع القرآن ، ومع خالق البشر ، ليس في حياتك مفاجأة ، وليس في حياتك إحباط ، وليس في حياتك ندم ، هذا أيها الأخوة معنى قوله تعالى :
﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ﴾
[ سورة إبراهيم : 27 ]
الشيء الأول الذي يعينك على الثبات : الإقبال على القرآن ؛ تلاوته آناء الليل وأطراف النهار ، الاقتباس من تصورات القرآن للكون والحياة ، اقتباسك الموازين منه ، اقتباسك القيَم منه ، القرآن يرد على الشُبُهات التي تعيش في نفسك ، القرآن هو القول الثابت ، القرآن حقٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه ، القرآن كتابٌ لا ريب فيه ، القرآن كلام خالق البشر ، وينبغي للمؤمن أن يهتمَّ بكلام خالق البشر ، لا أن يهتم بكلام البشر ، كلام لا يقدِّم ولا يؤخِّر .
2 التزام شرع الله عز وجل والعمل الصالح :
الشيء الثاني أيها الأخوة الذي يعينك على الثبات على الإيمان : التزام شرع الله عز وجل والعمل الصالح ، طالبني بالدليل ، قال تعالى :
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ﴾
[ سورة النساء : 66 ]
ما الذي يعينك على الثبات على الإيمان ؟ على الإقبال على الله ؟ على التألق ؟ أن تلتزم شرع الله عز وجل ، إنك إن التزمت شرع الله فأنت على المنهج القويم ، وعلى الصراط المستقيم ، وعلى الطريق المُعَبَّد ، تركب مركبةً وأنت على الطريق المُعَبَّد ، وكل شيءٍ واضحٌ على هذا الطريق .
هكذا أيها الأخوة التزام مبادئ الشرع في زواجك ، في تجارتك ، في شرائك ، في بيعك ، في احتفالاتك ، في كل مناسبات حياتك ، في كل مناحي حياتك ، التزام الشرع هو الذي يعينك على الثبات على هذا الدين . .
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ﴾
[ سورة النساء : 66]
أيها الأخوة الكرام ؛ كان أصحاب النبي عليهم رضوان الله إذا عملوا عملاً أَثْبَتوه ، داوموا عليه ، وكانت السيدة عائشة إذا عملت عملاً لَزِمَتْهُ ، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فأنت لو لزمت مجلس عِلم ، حافظ على هذا المجلس ، يربو الإيمان في قلبك ، تتراكم الحقائق عندك ، هذه الحقائق إذا تراكمت حملتك على طاعة الله ، وعلى الاستقرار النفسي، وعلى السعادة الروحيَّة .
الشيء الثاني إذاً أن تتعرَّف إلى أمر الله ، وأن يكون أمر الله في حياتك نافذاً ، قال تعالى :
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾
[ سورة الأنفال : 33 ]
قال العلماء :
﴿وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾
أيْ سُنَّتِكَ في حياتهم مُطَبَّقة ، إذا كان بيتك إسلامياً ، وعملك إسلامياً ، وأصدقاؤك إسلاميين أَنَّىَ لك الزَيْغ ؟ وأنى لك الانزلاق ؟ وأنى لك الشقاء ؟ وأنى لك الهلاك ؟ إنك مصونٌ بسياجٍ منيع من شرع الله عز وجل .
3 تدبُّر قصص الأنبياء :
الشيء الثالث من الوسائل الفعَّالة على الثبات على الإيمان : تدبُّر قصص الأنبياء ، هذه القصص التي جاءت في القرآن الكريم ما ذكرها الله عبثاً ، وما ذكرها الله كقصةٍ تُمْتِعَكَ وتمضي بها وقت فراغك ، حاشا لله أن يكون كلام الله عز وجل تزجيةً للوقت ، وأن يكون متعةً فنيةً للقارئ ، إنه أخطر من ذلك ، دقق في هذه الآية أيها الأخ الكريم ، أنا أعطيك الدليل من كتاب الله من كل وسيلةٍ فعالة ، قال تعالى :
﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾
[ سورة هود : 120]
سيدنا إبراهيم ، لمَنْ هذه القصة ؟ لنا نحن ، هل من مصيبةٍ أكبر من أن تضرم النار أياماً عديدة إلى أن تبلغ أوج اتقادها فيلقى هذا النبي الكريم فيها ؟ فيقول الله عز وجل :
﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
[ سورة الأنبياء : 69]
الله فعَّال ، الغربيون يعتقدون أن الله خلاَّق وليس فعَّالاً . . هو في السماء إلهٌ وفي الأرض إله ، والأمر كله بيده ، فإذا كنت معه فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟
﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
[ سورة الأنبياء : 69]
والمؤمن الصادق يرى لا بهذه الحِدَّةِ ، ولا بهذا الوضع المُعْجِز ؛ لكن يرى حالاتٍ كثيرة ومناسباتٍ عديدة تتدخل فيها العناية الإلهية فتنقذه من ورطته ، وتنقذه من محنته ، وتحميه من بأس الظالمين . .
﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
[ سورة الأنبياء : 69]
هذه القصة ليست للتسلية ، ولا للمُتْعَة ، وليست تاريخاً ، إنها درسٌ متجددٌ يقرؤه المؤمن فترتفع معنوياته ، ويرى أن الله معه ولن يتخلى عنه . أصحاب موسى :
﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ﴾
[ سورة الشعراء : 61 ]
فرعون بكل قوَّته ، بكل جنوده ، بكل بأْسه ، بكل بطشه ، يلاحق موسى وأصحابه ، إلى أن وصل موسى وأصحابه إلى البحر .
﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾
[ سورة الشعراء : 61-62]
هل من أملٍ ؟ القوة الكبرى وراءك والبحر أمامك ما السبيل ؟ إنها عناية الله عز وجل . .
وإذا العناية لاحظتك جفونها نم فالمخاوف كلُّهن أمان
* * *
شيءٌ آخر : هل من مصيبةٍ أفظع وأخطر من أن تجد نفسك في بطن الحوت ؟ في ظلمة بطن الحوت ، وفي ظلمة الليل البهيم ، وفي ظلمة البحر المخيف ؟
﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾
[ سورة الأنبياء : 87-88]
لذلك يعدُّ تدبُّر قصص الأنبياء التي وردت في القرآن الكريم وسيلةً فعالةً من وسائل الثبات على الإيمان ، ويمكن أن نضيف على ذلك أن قصص العلماء الصادقين الموحِّدين ، الذين طبَّقوا أحكام هذا الدين ، وأخلصوا لله رب العالمين ، إن قصص هؤلاء أيضاً وسيلةٌ فعالةٌ في الثبات على الدين ، وإذا كان الإنسان يأْنَسُ بالقصة فإنه يسعد بقصة رجلٍ مؤمنٍ عرف الله سبحانه وتعالى وقَطَفَ ثمار إيمانه . . القصة أيها الأخوة حقيقةٌ مع البُرهان عليها ، ولا تنسوا قوله تعالى :
﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾
[ سورة هود : 120]
أنت تَثْبُتُ على الإيمان إذا لزمت شرع الله الحكيم ، وتثبت على الإيمان إذا تدبَّرت قصص الأنبياء ، وتثبت على الإيمان إذا أقبلت على القرآن .
4 الدعاء :
لا زلنا في الوسائل الفعالة التي تعين المؤمن على أن يثبت على إيمانه ، ويأتيِ الدعاء كوسيلةٍ رابعة ، والدليل قول الله عز وجل :
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾
[ سورة آل عمران : 8 ]
الدعاء . .
﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾
[ سورة البقرة : 250]
الدعاء .
((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))
[ من الجامع لأحكام القرآن عن شهر بن حوشب]
دعاء النبي .
﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾
[ سورة يوسف : 33]
دعاء سيدنا يوسف ، قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد يصرفه حيث يشاء . إذا علم الله منك الإخلاص في عبادته ثبت الله قلبك ، وإذا علم الزَيْغَ في قلبك ، الزيغ عن عبادته زاغ قلبك . .
﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾
[ سورة الصف : 5 ]
القلب مُحَرِّك ، وهو بيد الله ، لكنك أنت المُختار ، إذا اخترت طاعة الله ولو كانت العقبات كثيرة ثبَّت الله قلبك ، وإذا اخترت معصية الله ، ولو كانت المُسَهِّلات كثيرة زاغ قلبك ، لذلك أحد الوسائل الفعَّالة أن تدعو الله بالثبات ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان أكثر دعائه :
((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))
[ من الجامع لأحكام القرآن عن شهر بن حوشب]
والقرآن الكريم يؤكد ذلك :
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾
[ سورة آل عمران : 8 ]
﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾
[ سورة البقرة : 250]
هذه الوسيلة الرابعة : الدعاء ، أن تدعو الله دائماً بالتثبيت ، يا رب ثبتني على دينك ، يا رب قوِّ إيماني .
﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾
[ سورة يوسف : 33]
يا رب أعنِّ على طاعتك . وهذا معنى قوله تعالى :
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾
[ سورة الفاتحة : 5]
بل إنه قد ورد : جمع القرآن في الفاتحة ، وجمعت الفاتحة في إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا حول على معصيته إلا به ، ولا قوة على طاعته إلا به ، فالدعاء إذاً أحد الوسائل الفعالة للثبات على الإيمان .
5 ذكر الله تعالى :
عنصر آخر من عناصر التثبيت : ذكر الله تعالى ، الآية الكريمة :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
[ سورة الأنفال : 45]
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾
[ سورة الأحزاب : 41]
الأمر على " كثيراً " لا على الذكر .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾
[ سورة الأحزاب : 41]
لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً .
﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
[ سورة الأنفال : 45]
كان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمرٌ بادر إلى الصلاة ، كان يقول لبلال :
((أرحنا بها يا بلال ))
[ أبو داود عن سالم بن أبي الجعد ]
فذكر الله يُثَبِّت . .
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
[ سورة الرعد : 28]
آياتٌ كثيرة وأحاديث صحيحة ومواقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كلها تؤكد أن ذكر الله الذكر الكثير يدعو إلى الثبات .
6 الالتفاف حول العناصر المُثَبِّتَة :
والعنصر السادس في موضوعنا : هو الالتفاف حول العناصر المُثَبِّتَة ، اسمع إلى قوله تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾
[ سورة التوبة : 119]
لابدَّ من بيئةٍ إيمانية تحتويك ، لابد من جو صحي تعيش فيه ، لابد من إخوانٍ طيِّبين تأْنس بهم ، أما إذا وضعت نفسك في بيئةٍ سيئة ، ومع أصدقاء منحرفين ، ومع زملاء فاجرين أنَّى لك اليقين ؟ وأنى لك الثبات على دين الله القويم ؟ لابد من بيئةٍ صالحة .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾
[ سورة الممتحنة : 13]
ومن يتوله منكم فإنه منهم ، لابد من أن تختار بيئةٍ مؤمنةٍ تعيش فيها ، لا بد من لقاءاتٍ مع المؤمنين ، أوقات الفراغ لا تُمْضَى مع الكفار الفاجرين ، وهذا كله تؤكده الآية الكريمة :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾
[ سورة التوبة : 119]
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
[ سورة الكهف : 28 ]
أيها الأخ الكريم ؛ الإنسان بشكل أو بآخر كهذا الوعاء الذي يستخدم لشرب الماء، وعاءٌ كبير ، له فتحةٌ علوية ، وله صنبور في أسفله ، أي شيءٍ تضعه فيه تأخذه من صنبوره الأسفل ، والإنسان وعاء ؛ التغذية الثقافية التي يتغذَّى منها هو الذي يعطيها ، فلو أحاط الإنسان نفسه بتغذيةٍ شيطانية ، بكلامٍ باطل ، بأخبارٍ فاحشة ، هذه التغذية السيِّئة تُعْطي السلوك السيِّئ ، أما إذا أحاط نفسه بمؤمنين صادقين ، إذا كان مع كلام رب العالمين ، مع سيرة سيد المرسلين ، مع سير الصحابة والتابعين ، إذا كان كذلك فكيف يتحرَّك ؟ ماذا يعطي ؟ يعطي الخير ، يعطي الحق ، يعطي الجمال ، فالتغذية الثقافية أخطر شيءٍ في حياة الإنسان ، قل لي من أين تتغذى ثقافياً أقل لك من أنت ؟ هذا معنى قوله تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾
[ سورة التوبة : 119]
لابد من أن تكون مع المؤمنين ، مع أهل الحق ، لابد من أن تكون في بيتٍ من بيوت الله ، لابد لك من أن يكون لك مجلس علم تتغذَّى به ، فإن لم تتغذَّ بالعلم الصحيح تغذيت بالعلم المزور ، إن لم تتغذَّ بسِيَر الصالحين تغذَّيت بسير الفنَّانين ، وفرقٌ كبير بين هؤلاء وهؤلاء، انظر إلى التغذية الثقافية التي تتغذى بها إنها سبب السلوك المستقيم ، إنها سبب سعادة الدارَيْن .
أيها الأخوة الكرام ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر ، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير ))
[ الجامع لأحكام القرآن عن أنس بن مالك ]
قد تصحب مؤمناً ، كل أبواب الخير تفتح على يده ، وقد تصحب فاسقاً هو مفتاحٌ للشر ، مفتاحٌ للدمار ، يدلُّك على عملٍ منحرف ، على كسب مال حرام ، على غَصْبٍ ، على عدوانٍ ، على بَغْيٍ ، على كذبٍ ، على زورٍ ، إن الفاجر والفاسق مفتاحٌ للشر ، أما إذا صحبت مؤمناً فهو مفتاحٌ للخير ، لذلك ورد في الحديث الصحيح :
(( لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي))
[ من تفسير ابن كثير عن أبي سعيد ]
هذه البيئة ، مع من تعيش ؟ مع من تسهر ؟ مع من تسافر ؟ مع من تتنزَّه ؟ هذه البيئة يجب أن تختارها من المؤمنين الصادقين . وفي الحديث الصحيح :
(( خياركم الذين إذا رؤوا ذكر الله بهم ))
[البيهقي عن عمر ]
يقول بعض العلماء : كنا إذا اشتد بنا الخوف ، وساءت منا الظنون ، وضاقت الأرض ، أتينا شيخنا ، فما هو إلا أن نراه ، ونسمع كلامه ، فيذهب ذلك كلُّه عنَّا .
أيها الأخوة الكرام ؛ لابد من أن تكون مع المؤمنين ، لابد من مجلس علمٍ يحضنك ، لابد من رجلٍ تثق بعلمه وورعه تستشيره ، لابد من أخٍ مؤمنٍ مخلصٍ ترتاح إليه ، تمضي وقت فراغك معه . إذاً الالتفاف حول العناصر المثبِّتة أحد الوسائل الفعالة في الثبات على الإيمان .
7 الدعوة إلى الله :
بقي شيءٌ دقيقٌ جداً هو : أن تدعو إلى الله ولو كنت في أول الطريق . ما أثر الدعوة إلى الله في نفسك ؟ أنت حينما تدعو إلى الله ، وحينما تخلو مع نفسك ، وحينما تتحرك في بيتك ، وفي عملك ، هناك سؤالٌ خطيرٌ خطير يطرح عليك دائماً : هل أنت كذلك ؟ ماذا قلت للناس صباحاً ؟ هل أنت كذلك ؟ ألا تستحي منا ؟ أنت إذا دعوت إلى الله حاسبت نفسك بعدها حساباً عسيراً عسيراً عسيراً .
لذلك أحد الضمانات إن لم تدع إلى الله عز وجل . . أيها الأخوة ؛ الحقائق النفسية الثابتة أن النفس إن لم تتحرك تأسَنْ ، وإن لم تنطلق تتعفَّن ، بالبيت ؛ لا يدعو إلى الله ، لا ينصح ، لا يأمر بالمعروف ، لا ينهى عن المنكر ، ليس له علاقة بأحد ، بعيد عن الناس كلياً ، متقوْقِع ، النفس إن لم تتحرك تأْسَن كالماء الآسن ، وإن لم تنطلق تتعفَّن ، إن الدعوة إلى الله وظيفة الرُسُل جميعاً ، إنها صنعة الأنبياء جميعاً ، إنها أعظم عملٍ على الإطلاق . .
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
[ سورة فصلت : 33]
إن لم تدعُ إلى الله عز وجل فأنت في موقف الدفاع أمام الشيطان ، كلما جاءك سهمٌ اتقيته ، موقف المُدافع دائماً موقف ضعيف ، لكنك إن دعوت إلى الله كنت كمن يهاجم الباطل .
أيها الأخوة الكرام ؛ بالدعوة إلى الله تتفجَّر الطاقات ، بالدعوة إلى الله تُنْجَز المُهمات ، دائماً وأبداً إذا دعوت إلى الله يأتيك هذا الخاطر اليومي ، الساعي : هل أنت كذلك ؟ تذكر ماذا قلت للناس ؟ هل أنت كذلك ؟ هذا الهاجس هو الذي يجعلك تضاعف الطاقات وتحث السير إلى الله عز وجل .
أخواننا الكرام ؛ حقيقةٌ ثانية : نفسك إن لم تشغلها بالدعوة إلى الله شغلتك بالدنيا ، تقع في زخارف الدنيا ، تقع في تزيين البيوت ، في إنشاء البيوت في المصايف ، في إنشاء المزارع ، ويأتي مَلَك الموت فجأةً ولست مستعداً لمغادرة الدنيا ، إن لم تشغلها بالدعوة إلى الله شغلتك بالدنيا الفانية ، التي لا تنفعك عند الموت ، النفس فيها ديناميكية ، فيها حركة ، هذه الحركة إن لم توجِّهها توجيهاً صحيحاً تحرَّكت حركةً مهلكةً ، الإنسان عنده طاقات ، عنده حركة يومية ، أذكى إنسان ، وأعقل إنسان ، وأشد الناس توفيقاً هو الذي يوظِّف هذه الحركة في عملٍ ينفعه بعد الموت ، بإمكانك أن تعطي لأخٍ تثق بإيمانه شريطاً ، أن تعطيه مقالةً ، أن تذكره بآيةٍ، بحكمةٍ ، بحديثٍ . إن دعوت إلى الله أنت أول المنتفعين ، أول منتفع بالدعوة هو الداعي نفسه ، لأن العلم يزكو على الإنفاق ، يا كُمَيْل مات خُزَّان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، والمال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق .
8 الثقة بنصر الله :
أيها الأخوة الكرام ؛ بقي عنصر أساسي في الثبات على الإيمان .
الثقة بنصر الله ؛ النبي عليه الصلاة والسلام في أثناء طريق الهجرة كان ملاحقاً ، وكان مهدوراً دمه ، وقد وضعت قريش جائزةً كبيرةً كبيرة لمن يأتي به حياً أو ميتاً ، ولحقه سُراقة ، وحينما أدركه ساخت قدما خيل سراقة في الرمال – والقصة معروفة عندكم – لكن التعليق الذي يعنيني أن أقوله لكم : ماذا قال له النبي عليه الصلاة والسلام ؟ النبي ملاحق ، مهدور دمه !! قال له :
((يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى ؟))
[ من شرح الجامع الصغير ]
كلامٌ لا يصدق ، أنت ملاحق ، أنت مهدورٌ دمك ، ماذا يعني كلام النبي ؟ يعني كلام النبي أنه سيصل إلى المدينة ، وسيُنْشِئ كياناً إسلامياً ، وسيحارب أعداء المسلمين ، وسينتصر عليهم ، وستسقط المدائن معقل الفُرْس ، وسيأتي الجنود بتاج كسرى وسواريه . هذا معنى كلام النبي وقد تحقَّق ، ودعا عمر بن الخطاب سراقة ؛ وألبسه تاج كسرى ، وسواري كسرى ، وأثواب كسرى وقال : " أُعَيْرابِيٌ من بني مدلج يلبس سواري كسرى ؟!! " . ماذا يعني هذا الكلام ؟ يعني أن النبي كان واثقاً بنصر الله ، وهذا شأن المؤمنين ؛ الله سبحانه وتعالى لا يتخلَّى عن المؤمنين ، ولا يتخلَّى عن دينه ، وحينما يتوهَّم المؤمن أو الإنسان أن الله ينصر الشِرْك على التوحيد والباطل على الحق نصراً ثابتاً مستقراً بحيث لا تقوم للحق قائمة ، فهو لا يعرف الله ، وقد أساء الظن بالله عز وجل ، وهذا الظن ظن الجاهلية ، الثقة بنصر الله ، أنت مع خالق الكون ، أنت مع مُبْدِع الكون ، أنت مع من بيده كل شيء ، مع من بيده ملكوت السموات والأرض ، كيف تخنع ؟ كيف تضعف ؟
﴿مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾
[ سورة آل عمران : 146]
هذا عنصرٌ أساسي : الثقة بأن الله لا يتخلى عن المؤمنين ، وأن الله لا يتخلى عن دينه القويم ، وأن الله سينصر دينه إن عاجلاً أو آجلاً ، هذا العنصر أساسيٌ جداً في الثبات على الدين . النبي عليه الصلاة والسلام في معركة الخندق حينما حاصر الكفار المسلمين ، وحينما نقض اليهود عهدهم كعادتهم مع المسلمين ، وحينما أصبح الإسلام قضية ساعات ، أصبح دمار المسلمين وإبادتهم عن آخرهم قضية ساعات ، حتى قال قائل قائلهم : أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قَيْصَرَ وكِسْرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ؟!! حتى أن الله أثبت قولهم في القرآن :
﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ﴾
[ سورة الأحزاب : 12]
ما الذي حصل ؟ قال :
﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾
[ سورة الأحزاب : 11]
أما الذين آمنوا فماذا قالوا ؟ قالوا :
﴿وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾
[ سورة الأحزاب : 22-23]
إذاً الثقة بنصر الله هذا مما يقوي معنويات المؤمن ، وحقيقة الباطل يجب أن يعرفها المؤمن :
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾
[ سورة الإسراء : 81]
الباطل الاعتقادي ، النظريات الهدَّامة ، أي باطل سلوكي اعتقادي ، هذا الباطل له جولة ثم يضمحل ، وكم من أنواع الأباطيل تلاشت وأصبحت في مزابل التاريخ .
أيها الأخوة المؤمنون . .
كن مع الله تر الله معك واترك الكل وحاذر طمعك
وإذا أعطاك من يمنعه ثم من يعطي إذا ما منعك؟
* * *
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الغشاء البريتوني :
أيها الأخوة الكرام ؛ في الأمعاء الدقيقة غشاء يحملها أو يثبتها ، هذا الغشاء اسمه عند الأطباء الغشاء البريتوني ، لهذا الغشاء وظيفةٌ لا تصدَّق ، أولاً : لو أن الإنسان شرب ماءً يغلي ، فالأمعاء لا تشعر بالحر ، لأن حكمةً بالغة لله عز وجل أن الأمعاء الدقيقة والغليظة ليس فيها أعصاب حس إطلاقاً ، لذلك الأمعاء محاطة بغشاء ، هذا الغشاء له وظائف كثيرة ، من وظائفه أنه يحملها ويحملها بشكلٍ مرن ، أي يسمح لها بالحركة وهو يحملها ، وهذا من أدق الأعمال ، يحملها بشكلٍ مرن ، لأن في حركة الأمعاء يحصل الهضم الذي أساسه حركة ميكانيكية ، يحملها مع حركتها المرنة ، وهذا الغشاء فيه نهايات عصبية ، وهذا الغشاء فيه مراكز لمفاوية ، هذه المراكز بمثابة أجهز دفاع بالجسم البشري ، فلو أن التهاباً حاداً كان بالأمعاء وانثقبت الأمعاء ، الغشاء البريتوني يتحرَّك ليصنع مصلاً يلتهم هذه الجراثيم ، ويشعر الإنسان بالألم ، الآلام التي يحسها الإنسان في بطنه ليس مصدرها الأمعاء بل الغشاء البريتوني، الذي هو جهاز الإنذار الأول ، لو حدث انثقاب بالأمعاء أو التهاب حاد ، وصار هناك إنتانات ، فهذا الغشاء البريتوني فيه نهايات عصبية تشعر الإنسان بالألم .
وهناك مراكز دفاع تستخبر عن طبيعة الجرثوم ، وتصنع مصلاً مضاداً ، وتلتهم الجرثوم ، وتطوِّق هذه المشكلة ، هذا الغشاء الرقيق تجده عند القصاب بين الأمعاء فيه عُقَد بلغمية صغيرة ككتل شحمية ، هذه العقد البلغمية أجهزة دفاع من أرقى الأجهزة ، فيها جنود تكتشف طبيعة العدو ، وفيها معمل للمصول ، وفيها جنود مقاتلة ، أنت ترى غشاء رقيقاً لا قيمة له عند القصَّاب ، فيه عُقَد صغيرة هذه العقد هي العقد البلغمية .
وفي هذا الغشاء نهاياتٌ عصبية ، فكل آلام البطن تعدُّ جهاز الإنذار المبكر ، وكل هذه الغدد تعد أجهزة دفاع عن هذه الأمعاء التي هي أساسيةٌ في حياة الإنسان ، ولكن لحكمةٍ بالغة ليس في الأمعاء أعصاب حس ، لذلك جاءت الآية الكريمة – دققوا في هذه الآية- أعصاب الغشاء البريتوني متى تنقل الألم لصاحبها ؟ إذا حدث انثقاب في الأمعاء تصبح الآلام لا تطاق ، قال تعالى :
﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾
[ سورة محمد : 15]
إن قُطِّعَتْ الأمعاء شعر الإنسان بالألم ، إذا انثقبت الأمعاء شعر الإنسان بالألم .
﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾
[ سورة محمد : 15]
هذه الآية تتوافق مع أحدث مُعْطيات العلم ، ولولا أن القرآن كلام الله لما أمكن للنبي عليه الصلاة والسلام أن يكشف هذه الحقيقة ، طبيعة العصر الذي نزل فيه القرآن في كل معطياته العلمية لا تسمح بهذه الحقيقة ، هذا الغشاء الذي يتمتَّع بنهايات عصبية حساسة جداً لا يمكن أن تُشْعِرَ بالألم إلا في حالة انثقاب الأمعاء ، وأما الإحساس بالألم في الأمعاء فغير موجود ، لو أعطينا أمعاء الإنسان ماءً يغلي لا يشعر بشيء .
﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً ﴾
[ سورة محمد : 15]
متى يؤلمهم ؟ حينما يقطع أمعاءهم :
﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾
[ سورة محمد : 15]
أيها الأخوة الكرام ؛ كلما كشف الإنسان حقيقةً في جسمه ازداد تعظيماً لله عز وجل ، هذا كتاب الله ، هذا كتاب خالق البشر ، هو الكتاب المقرر ، هو المنهج الحكيم ، هو الصراط المستقيم ، هو النور المبين ، هو الحبل المتين .
الدعاء :
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت ، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعزُّ من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك اللهمَّ ونتوب إليك . اللهمَّ هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تُهِنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا . اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.