الرئيس السلوفاكي الأسبق يعرب عن أمله في انتهاء انقسام سلوفاكيا بعد محالولة اغتيال فيكو    أخبار الأهلي : سؤال لكولر يثير الجدل فى مؤتمر مباراة الأهلي والترجي    الهلال السعودي يتعرض لضربة موجعة قبل الديربي أمام النصر    توماس توخيل يعلن رحيله عن بايرن ميونخ في هذا الموعد    الإثنين.. مناقشة رواية بيت من زخرف لإبراهيم فرغلي بمبنى قنصلية    تعرف على شروط التقديم على وظائف العمل المتاحة في محافظة القاهرة    25 ألف فلسطيني يؤدون صلاة الجمعة في الأقصى.. واستشهاد شاب بالضفة    الأونروا: أكثر من 630 ألف شخص نزحوا من رفح منذ السادس من مايو الحالي    الوضع الكارثى بكليات الحقوق    بعد إعادة انتخابها ل4 سنوات مقبلة.. المشاط تهنئ رئيسة البنك الأوروبي: حافلة بالتحديات    عيار 21 يسجل زيادة جديدة الآن.. سعر الذهب اليوم الجمعة 17-5- 2024 بالتعاملات المسائية للصاغة    رئيس الاتحاد الفلسطيني يكشف تحركاته نحو تعليق مشاركة الكيان الصهيوني دوليًا    متابعة جاهزية اللجان بتعليم الجيزة استعدادا للشهادة الإعدادية    رئيس COP28: العالم أمام فرصة استثنائية هى الأهم منذ الثورة الصناعية الأولى    أبرزهم يسرا وسعيد صالح.. نجوم برزت عادل إمام وحولته للزعيم بعد نجاحهم فنياً    ليلى علوي في موقف مُحرج بسبب احتفالها بعيد ميلاد عادل إمام.. ما القصة؟    متحف البريد المصري يستقبل الزائرين غدًا بالمجان    محافظ أسيوط ومساعد وزير الصحة يتفقدان موقع إنشاء مستشفى القوصية المركزي    بعجينة هشة.. طريقة تحضير كرواسون الشوكولاتة    مساندة الخطيب تمنح الثقة    مؤتمر أرتيتا عن – حقيقة رسالته إلى مويس لإيقاف سيتي.. وهل يؤمن بفرصة الفوز بالدوري؟    الإنتهاء من المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلى لمبنى المفاعل بمحطة الضبعة النووية    موعد عيد الأضحى المبارك 2024.. بدأ العد التنازلي ل وقفة عرفات    «جمارك القاهرة» تحبط محاولة تهريب 4 آلاف قرص مخدر    وزارة العمل تعلن عن 2772 فُرصة عمل جديدة فى 45 شركة خاصة فى 9 مُحافظات    إعلام فلسطيني: شهيدان ومصاب في قصف إسرائيلي استهدف مواطنين بحي الزهور    بوتين يعلن إنشاء منطقة عازلة في خاركيف بأوكرانيا    تحديث جديد لأسعار الذهب اليوم في منتصف التعاملات.. عيار 21 بكام    جوري بكر تعلن انفصالها بعد عام من الزواج: استحملت اللي مفيش جبل يستحمله    أحمد السقا: يوم ما أموت هموت قدام الكاميرا    هشام ماجد ينشر فيديو من كواليس "فاصل من اللحظات اللذيذة".. والجمهور: انت بتتحول؟    دعاء يوم الجمعة وساعة الاستجابة.. اغتنم تلك الفترة    أوقاف البحيرة تفتتح 3 مساجد جديدة    «تقدر في 10 أيام».. موعد مراجعات الثانوية العامة في مطروح    تناولها أثناء الامتحانات.. 4 مشروبات تساعدك على الحفظ والتركيز    اندلاع حريق هائل داخل مخزن مراتب بالبدرشين    كيف ينظر المسئولون الأمريكيون إلى موقف إسرائيل من رفح الفلسطينية؟    ما هو الدين الذي تعهد طارق الشناوي بسداده عندما شعر بقرب نهايته؟    ضبط سائق بالدقهلية استولى على 3 ملايين جنيه من مواطنين بدعوى توظيفها    المفتي: "حياة كريمة" من خصوصيات مصر.. ويجوز التبرع لكل مؤسسة معتمدة من الدولة    محافظ المنيا: توريد 226 ألف طن قمح منذ بدء الموسم    «المرض» يكتب النهاية في حياة المراسل أحمد نوير.. حزن رياضي وإعلامي    بالصور- التحفظ على 337 أسطوانة بوتاجاز لاستخدامها في غير أغراضها    كوريا الشمالية ترد على تدريبات جارتها الجنوبية بصاروخ بالستي.. تجاه البحر الشرقي    في اليوم العالمي ل«القاتل الصامت».. من هم الأشخاص الأكثر عُرضة للإصابة به ونصائح للتعامل معه؟    كيف يمكنك حفظ اللحوم بشكل صحي مع اقتراب عيد الأضحى 2024؟    أوقاف دمياط تنظم 41 ندوة علمية فقهية لشرح مناسك الحج    الاتحاد العالمي للمواطن المصري: نحن على مسافة واحدة من الكيانات المصرية بالخارج    تفاصيل حادث الفنان جلال الزكي وسبب انقلاب سيارته    وفد «اليونسكو» يزور المتحف المصري الكبير    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» موضوع خطبة الجمعة اليوم    سعر جرام الذهب في مصر صباح الجمعة 17 مايو 2024    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    "حزب الله" يشن هجوما جويا على خيم مبيت جنود الجيش الإسرائيلي في جعتون    أحمد سليمان: "أشعر أن مصر كلها زملكاوية.. وهذا موقف التذاكر"    محمد عبد الجليل: مباراة الأهلي والترجي ستكون مثل لعبة الشطرنج    «الأرصاد»: ارتفاع درجات الحرارة اليوم.. والعظمى في القاهرة 35 مئوية    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإيمان يضبط الغريزة – الإيدز.
نشر في شموس يوم 10 - 11 - 2016


لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر . اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الشّهوات و الغرائز :
أيها الأخوة الكرام ؛ متابعةً للموضوع الذي عولِجَ في الخطبة السابقة ، والذي انطلقَ من أنَّ في الإنسان شهوات ، أو دوافِعَ ، أو غرائِزَ ، قد تختلف الأسماء لكنّ المُسمَّى واحد ، يجمعها كلّها قوله تعالى :
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
[ سورة آل عمران: 14 ]
الله سبحانه وتعالى أوْدَعَ فينا هذه الشَّهوات ، وكما أقول دائمًا لِنَرْقى بها إلى ربّ الأرض والسموات ، لِنَرقى بها تارةً صابرين ، وتارةً شاكرين ، ولكن أيها الأخوة لو أنّ هذه الغرائز ، أو تلك الشّهوات ، او هذه الدوافع كانت بعيدةً عن تَوْجيه الإيمان ، وعن منهج الله عز وجل فعَلَتْ في الأرض ما لا يُصدَّق ، فكلُّ فساد الأرض ، وكلّ انحراف البشر بِسَبب طُغيان الشهوات على منهج الهل عز وجل .
فيا أيها الأخوة الكرام ؛ لِنَضْرب على ذلك مثلاً على الشهوة التي أوْدَعها الله فينا من أجل بقاء النّوع ، هذه لها سُلطان كبير ، بل إنّ بعض علماء النفس فسَّر بها السُّلوك البشري كلّه ، وهو ليس مُصيبًا في هذا .
أيها الأخوة الكرام ؛ تتجلَّى هذه الغريزة في الشباب أكثرَ ما تتجلّى ، لذلك حينما ورد في الأثر أنّ العدل حسن ولكن في الأمراء أحْسَن ، وأنّ الورَعَ حسن ولكن في العلماء أحسن، وأنّ الحياء حسن ولكن في النساء أحسن ، وأنّ الصَّبر حسن ولكن في الفقراء أحسن ، وأنّ السخاء حسن ولكن في الأغنياء أحسن ، من ضِمْن هذا القول ؛ وأنّ التوبة حسن ولكن في الشباب أحْسن ، لأنّ هذه الغريزة تتجلًّى على أشدّها في الفتوّة والشباب ، فالشباب تستقطب هذه الغريزة معظم طاقاته الحيويّة ، ودوافعَهُ النفسيّة ، وبِسَبب من قلَّة عِلْمه ، وضَعْف تجاربه في الحياة ربّما زلّتْ قدمُه ، لذلك ما من شيءٍ أكرم على الله من شابٍّ تائب ، وحينما يؤثِرُ الشابّ المؤمن طاعة ربّه يقول الله عز وجل لِمَلائكته : اُنظروا عبدي ترك شهوته من أجلي .
فيا أيّها الشباب ، بإمكانكم أن تصلوا إلى أعلى المراتب عند الله عز وجل حينما تضْبِطوا هذه الغرائز ، وفي مقدِّمتها غضّ البصر ، لأنّ الله سبحانه وتعالى حينما قال :
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾
[ سورة النور: 30]
جعل غضّ البصر قبل حفظ الفرْج تأكيدًا على أنّ طريق حفظ الفرج هو غضّ البصر .
الإيمان سبيل العفة و التحصن عن المعصية :
على كُلٍّ في القرآن الكريم نموذجٌ فذّ لِشابٍّ في رَيْعان الشباب ، يمتلئ حيوِيَّةً وفُتُوَّة ، تكتَمِلُ رجولتُه ، تَدعوهُ إلى نفسها امرأة ذات مَنْصبٍ وجمال ، ليْسَتْ من عامَّة الناس ، ولكنّها امرأة العزيز الذي هو في بيتها ، وهو عبْدها وخادمها والأبواب مغلّقة ، والسُّبُل ميسَّرة كما حكى القرآن ، قال تعالى :
﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ﴾
[ سورة يوسف: 23 ]
هذا النبي الكريم مثلٌ أعلى لِكلّ شاب ، راودتهُ التي هو في بيتها ، وهو عبْدُها، وخادمها ، وهو بعيدٌ على أهله ، وليس متزوِّجًا ، والأبواب مغلَّقة ، والسُّبل ميسَّرة ، ولا أحد يعلمُ بهذا الفِعْل ، ومع ذلك قال : معاذ الله ، أمام هذا الإغراء ، وتلك الفتنة قال كما قال تعالى :
﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾
[ سورة يوسف: 23 ]
تقول هذه المرأة ذات المنْصِب والجمال بعد حينٍ ، قال تعالى :
﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾
[ سورة يوسف: 32 ]
ومع ذلك كما قال تعالى :
﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾
[ سورة يوسف: 33 ]
يا أيها الأخوة الكرام ؛ هذا الامْتِناع ، وذاك الخوف ، وهذا الورع ، وهذا الاستحضار لِعَظمة الله عز وجل ، وهذه العبوديّة لله عز وجل ، وهذا الائتمار بما أمر الله عز وجل ، هذا جعلَ من هذا الإنسان بطلاً تُرْوَى قصَّته في القرآن على مدى العُصور والدُّهور ، وكم من شابّ دعتْهُ امرأة ذات منْصب وجمال فزلَّتْ قدمُه فصار في مزبلة التاريخ ، فصار مع القُمامة ، فصار مع الخِيانة .
أيها الأخوة الكرام ؛ ما ترك عبدٌ شيئًا لله إلا عوَّضه الله خيرًا منه في دينه ودُنياه ، أجمَلُ ما في الشابّ عِفَّتهُ ، أجمل ما فيه تحصُّنه عن المعصِيَة ، وما من إنسانٍ تزلّ قدمُه ويُفْتضح ؛ إما من جهة المال ، وإما من جهة النّساء ، والمؤمن بِفَضل الله عز وجل مُحصّن من هذين المَأخَذين الخطيرين ، من هاتين النقطتين الضعيفتين في شَخصية الإنسان .
ذكرتُ هذه القصّة لأُريَكُم أنَّ هذه الشَّهوة ، وتلك الغريزة ، وذاك الدافع – اختلاف الأسماء لا ضَيْر به لأنّ المُسمَّى واحد – لا يستطيع أن يقف أمامها إلا الإيمان ، فإذا أردْت للفساد أن ينحسر ، وإذا أردْت للبيوت أن تغدو نظيفة ، وإذا أردْت للمجتمع أن يغْدو مجتمعًا راقيًا ، فعليك بِوَازع الإيمان ، إنّ الوازع لا شيءَ يعْدلُهُ في كبْح جِماح الشهوات ، والحياة من دون إيمانٍ لا تُعاش ، تعُجُّ بالخِيانات ، تعُجُّ بالانزلاقات ، تعجّ باختلاط الأنساب ، تعجّ بِكُلّ منكرٍ وبِكُلّ فساد.
هذه غريزة من الغرائز التي أوْدعها الله في الإنسان ، إنَّهُ أوْدعها فيه لِيُؤسِّس أسرةً، لِتَغْدُوَ أسرتهُ جنَّته الصغيرة ، إنّ الله أوْدَع في الإنسان هذه الغرائز لِيَكون البيتُ عامرًا بالحبّ ، ولِينشأ الأولاد في ظلّ أبوَيْن متحابَيْن لا أن يكون الأولاد مشرَّدين ، والأزواج متفرِّقين ، والسِّفاح يحلّ محلّ النكاح .
العفة أول خصيصة من خصائص المؤمن :
يا أيها الأخوة الكرام ؛ من أولى خصائص المؤمن العِفَّة ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( الإيمان عفيف عن المحارم ، عفيف عن المطامع ))
[ كنز العمال عن محمد بن النضر الحارثي]
وما من شيءٍ يرقى بالإنسان كأن يُؤْثِر مرضاة الله على شهوته ، ولا شيءَ يكبحُ جِماح الشهوة إلا مراقبة الله عز وجل ، اعبُد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ، وأفضل إيمان المرء أن يعلم أنّ الله معه حيثما كان ، فإذا أردْتَ لهذه الشهوة التي أوْدعها الله فينا ، والتي أوْدعها من أجل أن ترقى بنا ، إذا أردْتها أن تنضبط ، وإذا أردْتها أن تتسايَر مع منهج الله عز وجل فلا بدّ من تنميَة الإيمان ، والله هناك قِصص لا تُعدّ ولا تُحصى عن شباب مؤمنين وقفوا مواقف بُطوليّة ، والإغراء من حولهم من كلّ جانب ، ومع ذلك قالوا : معاذ الله إنّهُ ربُّنا أحْسنَ مَثْوانا . ألم يقل هذا النبي الكريم ، قال تعالى :
﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾
[ سورة يوسف: 33 ]
أعْلنَ عُبوديّته لله عز وجل .
غريزة المقاتلة :
شيءٌ آخر أيها الأخوة ، في الإنسان غريزةٌ سمَّاها علماء النّفس غريزة المقاتلة، القوّة الغضَبِيَّة التي تدفعُ الإنسان لِيَرُدّ الصاع صاعَين ، تدْفعُه إلى التَّدْمير والانتقام ، وفيها يبْدو الإنسان كالوَحش الهائج ، وكالإعصار المُدمِّر جمْرةٌ من النار يُلقيها الشيطان في جَوْفه ، فتنْتفِخُ أوداجهُ ، وتحْمرّ عيناه ، وتبْدو وكأنّ له مخالبَ وأنيابًا ، ما الذي يُقلِّمُ أظافر هذه الشهوة ؟ ما الذي يُلقي على هذه الجمرة الملتهبة ماء الهدوء والسلام ؟ إنَّه الإيمان ، يحمِلُ المؤمن أن يكبت غيظَهُ ، ويعْفو عمّن ظلمه ، ويحلُم على من جهل عليه ، ويُحسن إلى من أساء إليه ، سيّدنا عمر قال : من خاف الله لمْ يصنع كل ما يريد ، من الذي يصنع كل ما يريد ؟ أيُّ خاطرٍ ينفّذهُ، وأيُّ غيْظٍ يُنْفذُهُ ، وأيُّ رَغْبةٍ يُحقِّقها ؟ هو الجاهل المتفلِّتُ من منهج الله عز وجل ، المُتفلِّت من رقابة الله عز وجل ، يقول هذا الإمام العادل : من خاف الله لم يصنع كل ما يريد ، ولولا يوم القيامة لكان غير ما تَرَوْن ، فالمؤمن مُقيّد بالشَّرْع ، لولا هذا القيْد ، ولولا تلك الرقابة ، ولولا ذلك الإيمان لتفوَّق على الكافر في مجالاتٍ يظنّها الكافر مجالاً لِبُطولته ، ولكنّ المؤمن مُقيَّدٌ بالشرع، بينما الكافر كالدابّة المتفلِّتة من كلّ قَيْد .
رجلٌ وجَّه كلامًا قاسيًا لِسَيِّدنا عمر بن عبد العزيز ، أساء إليه أشدّ الإساءة حتى أغْضبهُ ، وهو أمير المؤمنين ، فهمّ به عُمَر ثمّ أمْسكَ نفسهُ ، وقال للرجل : أردْتَ أن تسْتفزّني بِعِزّة الشيطان ، أردْت أن تسْتفزّني بِعِزّة السلطان ، فأنال منك ما تنالهُ منِّي غدًا ؛ أي في الآخرة، قُمْ عافاك الله لا حاجة لي في مُقاولتك .
أيها الأخوة الكرام ؛ شَهْوَة الغضب ، القوّة العُدْوانيّة ، شَهوَة التَّدْمير ، وردُّ الصاع صاعين ، هذا لا يكون من أخلاق المؤمن ، المؤمن منضبطٌ بالشرع ، المؤمن يعفو ، والمؤمن يرى أنّ الله سبحانه وتعالى أقْدرُ عليه منه على من دونه .
دخل رجلٌ إلى المسجد في الليل ، فجلسَ لِيَسْتريح ، فمرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يبْدو أنّهُ لم يرهُ فداسَ على طرف قدمهِ ، فتألّم هذا الرجل وصاح : أأعْمى أنت ؟ فقال عمر : لا ، فلمّا سُئل ؛ كيف تقول له هذا ؟ قال : سألني وأجبْتهُ ، وانتهى الأمر عند هذا .
أيها الأخوة الكرام ؛ هذه القوّة الغضبيّة ، قوّة الانتقام ، وقوّة الإيذاء ، قوّة التّدْمير لا يرْدعها إلا الإيمان ، تجدُ المؤمن ينْطوي على حلْمٍ ما بعدهُ حلم ، وعلى أناةٍ ما بعدها من أناة، وعلى تبصُّر ، وعلى مراقبة لله عز وجل .
غريزة الأنانية و حبّ الذات :
شيءٌ آخر أيّها الأخوة في الإنسان حبٌّ للذات ، غريزةٌ عاتِيَةٌ جبَّارة ، لا يكادُ يَخْلو منها إنسانٌ من عامّة الناس ، لها قوّة دَفْعٍ شديدة ، تدفع الناس إلى الأنانيّة ، وإلى التنافس على الدنيا ومتاعها ، وتدفعهم إلى المنازعة والاختصام ، وتدفعهم إلى أخذ ما ليس لهم ، وجحود ما عليهم من حُقوق ، تدفعهم إلى أكل أموال الناس بالباطل ، تدفعهم إلى كلّ سبيلٍ لا يُرضي الله عز وجل ، هذه الأنانيّة ، وإثبات الذات ، والرغبة في الغلبة ؛ هذه غريزة مودعةٌ في الإنسان، إنَّها حِيادية أودعَتْ به من أجل أن يرقى بها ، وكلّ غرائز الإنسان يمكن أن يرقى بها، ويمكن أن يهوي بها ، يمكن أن تكون درجات ترقى به إلى أعلى عِليِّين ، ويمكن أن تكون دركاتٍ تهوي به إلى أسفل سافلين ، لكن أيها الأخوة الكرام ؛ الإيمان إذا دخل هذه المعركة أطفأ لهيب الخُصومة فصارَتْ نارُها برْدًا وسلامًا ، حطَّم الإيمانُ طغيان الأنانيَّة فاستحالت تسامُحًا وإيثارًا ، وحلَّق المؤمن من المتاع الأدنى إلى المثَل الأعلى .
رجلان اختصما في عهد النبي عليه الصلاة والسلام في مواريث ليس لهما بيّنة إلا دعواهما ، كلاهما يقول هذا حقّي ، وينكر على أخيه حقّه ، واحتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وفي صدْر كلّ منهما فرْديَّتُه وأنانيَّته ، فيقول عليه الصلاة والسلام فيما روتْهُ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا ))
[ متفق عليه عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]
سمع الرجلان مقالة النبي عليه الصلاة والسلام ، أنّ النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيّد الخلق وحبيب الحق ، والذي يوحى إليه ، والمعصوم ، والذي جاء بالقرآن ، ولو حكم لأحدهما ، وكان هذا الذي حكم له غير محِقّ لا ينجو من عذاب الله ، فالقضيَّة مع الله ، والله يعلم ما تخفون وما تعلنون ، لذلك بكى الرجلان وقال كلٌّ منهما : حقّي لك يا أخي ، فقال عليه الصلاة والسلام : أما إن فعلتما ما فعلتما فاقْتسِما وتوخَّيا الحقّ ثم لِيُسامح كلّ منكما أخاه فيما يتوهّم أنّه من حقّ أخيه . وقد روى النبي عليه الصلاة والسلام قصَّة ، وللنبي عليه الصلاة والسلام قصص يرْويها ، من هذه القصص ما رواه ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال :
(( كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ اشْتَرَى عَقَارًا فَوَجَدَ فِيهَا جَرَّةً مِنْ ذَهَبٍ ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ وَلَمْ أَشْتَرِ مِنْكَ الذَّهَبَ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ بِمَا فِيهَا فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ ، فَقَالَ : أَلَكُمَا وَلَدٌ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : لِي غُلَامٌ ، وَقَالَ الْآخَرُ : لِي جَارِيَةٌ ، قَالَ : فَأَنْكِحَا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَلْيُنْفِقَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَلْيَتَصَدَّقَا))
[ابن ماجه عن أبي هريرة]
أيها الأخوة الكرام ؛ إنّ هذين الرجلين اللّذين حدَّثنا عنهما النبي عليه الصلاة والسلام لم يتنازعا على هذه الجرّة بل تدافعا هذه الجرَّة ، هذا فِعْلُ الإيمان ، ومثل هذه القصَّة نراها كثيرة بين المؤمنين ، كلٌّ من المؤمنين يريد أن يقدّم لأخيه ما يُرضيه ، قال تعالى :
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾
[سورة الحشر : 9]
الإيمان وحدهُ كفيل بِتَغيير العادات المستحكمة :
أيها الأخوة الكرام ؛ هذه الغريزة الثانية غريزة الأنانيّة ، بقيَ أنّ في كلّ إنسانٍ عادات مُسْتحكِمَة ، الإنسان قد يميلُ إلى شيءٍ ، ويستجيبُ لهذا الشيء ، ويفعلُ هذا الشيء ، ويُكرِّرُ فِعْل هذا الشيء ، حتى يغْدُوَ هذا الشيء جزءاً من كيانه ، وحتى تحفر المؤثِّرات والاستجابات في جهازه العصبي أخاديد تتَّسِع وتعْمق بِقَدْر هذه العادة ، وقد قيل : العادة مستحكمة ، ونحن أسرى عاداتنا ، وقد قال بعض الفلاسفة : الإنسان مجموع عادات يمشي على الأرض ، وقال بعضهم : العادة طبيعةٌ ثانية ، والطبيعة الأولى هي الفطرة ، والإنسان إذا شبّ على شيءٍ شاب عليه ، العادات المستحكمة في الطعام ، والشراب ، والنُّزهات ، والعلاقات الاجتماعيّة ، والاختلاط ، هذه عادات مستحكمة في كلّ مجتمع ، وقد يظنّ علماء النفس أنّ أحدًا لا يستطيعُ أن يغيِّرَ هذه العادات ، ولا أن يعدِّلَ مَسْراها ولا مَجراها ، ولكنّ الإيمان وحدهُ كفيل بِتَغيير هذه العادات .
أيها الأخوة الكرام ؛ حقيقة أضعها بين أيديكم ، في عام ألفٍ وتسعمئة وثمانية عشر صدر قانونٌ في أمريكا بالولايات المتحدة بِتَحريم الخمر ، لأنّ المجتمع اقتنع أنّها مدمِّرة للفرد والمجتمع ، مُضعفةٌ للاقتصاد ، فهذا القانون لمْ يصْدر من علٍ بل صدرَ من مجلس تَشريعي منتخبٍ بالاقتراع الحرّ ، ما الذي حصل ؟ أسطول بحري ضخم جُنِّدَ لِمُراقبة الشواطئ ، وأُسطول من الطَّيران جنِّد لِمُراقبة الأجواء ، كلّ وسائل الإعلان جنِّدَت لِمُحاربة الخمر ، يرْوي التقرير أنّ ستِّين مليون دولار أُنفق على أعمال الدِّعاية لِتَحريم الخمر ، طُبِعَتْ عشْرة بلايين صفحة لِتَوْعِيَة الشعب من ضرر الخمر ، أُعْدِمَ ثلاثمئة رجل ، وأودِعَ في السِّجن نصف مليون من الأشخاص عقابًا لهم على تعاطي الخمر ، أخِذ من الناس ستّة عشر مليوناً غرامات ، وصودِرَت من أملاكهم خمسمئة مليون ، وفي عام ألف وتسعمئة وثلاثة وثلاثين صدر قانون بإباحة الخمر إباحةً مطلقة ، لأنّ كلّ هذه الإجراءات ، وكلّ هذه الأساطيل ، وكلّ هذه الوسائل الإعلاميّة ، وكلّ هذه الغرامات ، وكلّ هذه القوانين ، وكلّ هذه المصادرات ، وكلّ هذه النشرات لمْ تقْنِع الإنسان في الامتناع عن شُرب الخمر ، ما الذي فعلهُ الإيمان ؟ وما الذي فعلهُ الإسلام؟
الخمر أيها الأخوة في العصر الجاهلي كان لها سريانٌ وانتشار ، حتى إنّ بعض الشعراء كان يقول :
إذا متُّ فادْفني إلى جنْب كرْمةٍ تُروِّي عظامي بعد موتي عروقها
***
كانت الخمر متغلْغِلَةً في كيان الإنسان في الجاهليّة تغَلْغُلاً لا حدود له ، أحصى علماء اللّغة للخمر مئة اسمٍ ، حتى أنّ امرأ القيس الشاعر الجاهلي ، وقد قُتِل أبوه ، قال : اليوم خمر ، وغدًا أمر !! أي آثر الخمرة على الأخذ بِثَأْر أبيه ! مع كلّ ذلك آيةٌ واحدة بعد آيتين اثنتين قال تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
[ سورة المائدة : 90]
لا ترى في المدينة سكَّة ولا زُقاقًا إلا وقد أُلقيَت فيه دِنان الخمر ، وكُسرَت الدِّنان، وأُغلقَت الخمور ، قال تعالى :
﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾
[ سورة المائدة : 91]
فكان أصحاب النبي رضوان الله عليهم يقولون : يا ربّنا انتهَيْنا ، انتهَيْنا ، الحياة لا تُعاشُ بلا إيمان ، لا تصلح الحياة بلا إيمان ، أقمْتُ هذه الموازنة بين إجراءاتٍ لا حدود لها ، أساطيل ، وأموال طائلة ، عشرة بلايين صفحة طُبِعَت لِتُقنعَ الشعب لترْك الخمر .
تعميق الإيمان في قلوب المجتمعات للتخلص من أسباب فساد و شقاء الإنسان :
لذلك أيها الأخوة ، هذه الغرائز ، العادات والتقاليد ، الأنانية ، حبّ الذات ، القوّة الغضبيّة في الإنسان ، الشهوة الجنسيّة ، هذه أساس فساد العالم ، وأساس شقاء الإنسان ، الإيمان يضبطها ، ويسمو بها ، ويرقى بها ، فإذا أردنا مجتمعًا نظيفًا ، ومجتمعًا منضبطًا ، إذا أردنا مجتمعًا يتعامل تعاملاً أخلاقيًّا ، فلا بدّ من أن نعمق الإيمان في قلوبنا ، والقصّة التي أرويها دائمًا ، هذا البدوي الذي لقيَهُ عمر بن الخطاب ، وقال له : بعني هذه الشاة وخُذ ثمنها ؟ قال : ليْسَت لي ، فقال : قل لصاحبها ماتَتْ أو أكلها الذئب ، فقال : ليْسَت لي ، قال : خذ ثمنها ؟ فقال : ليْسَت لي ، إلى أن قال هذا البدوي : والله لإني في أشدّ الحاجة إلى ثمنها ، ولو قلتُ لِصاحبها ماتَت أو أكلها الذئب لصدَّقني ، فإنِّي عنده صادق أمين ، ولكن أين الله ؟
لا نحتاجُ نحن إلى مَزيد علْمٍ ، ولا إلى مزيد آياتٍ أو أحاديث ، ولا إلى مزيد خُطبٍ أو توجيهات ، نحتاج إلى التطبيق ، وتطبيق ما تعلمنا ، ويكفي آيةٌ واحدة لو علمتها وطبَّقتها لتألَّقْت ، ولارْتَقَيْت ، هذا الأعرابي الذي تلا عليه النبي آيةً واحدة ، قال : قد كُفيت ، فقال عليه الصلاة والسلام : فقُهَ الرجل .
يا أيها الأخوة الكرام ؛ والله السَّماعُ لا يكفي ، والله حُضور خطب الجمعة لا يكفي، لا بدّ من أن يُجريَ الإنسان حسابًا دقيقًا مع ذاته ، لا بدّ أن يُحاسب نفسهُ حسابًا عسيرًا ليكون حسابه يوم القيامة يسيرًا ، لا بدّ من أن يضع ساعة مغادرة الدنيا أمام عينيه ، لا بدّ من أن يُعدَّ لهذه الساعة عُدَّتها ، لا بدّ من أن يسير وفْق منهج رسمه الله له ، لا بدّ من أن يُقيم الإسلام في عقله ، وفي قلبه ، وفي بيته ، ومع أهله ، وأولاده ، وفي طريقه ، وفي عمله ، أما أن يظنّ الإنسان أنّ التديُّن مجرّد صلاة نؤدِّيها ومالٍ ندفعه للفقراء ، ونعيشُ كما نريد مع شهواتنا، ومع تقاليد العصر وعاداته ، ومع صرعات الأزياء ، ومع فنون العصر نتابعها ، لو أنّ الإنسان تصوّر الدِّين هكذا ، عندها يكون الدِّين مجرّد طقوس لا تقدّم ولا تؤخِّر .
أيها الأخوة الأكارم ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الإيدز :
أيها الأخوة الكرام ؛ أخٌ كريم أطْلعني على أحدث تقرير عن مرض الإيدز ، سأتلو عليكم بعض فقراته لأنّ خطرًا جاثمًا يتهدَّد المسلمين ، خطرُ الهُجوم الثقافيّ الإباحيّ الغربي على العالم الإسلامي ، هذا الهجوم الثقافي عن طريق الأقمار الصِّناعيَّة ربَّما دمَّر الأسر ، وربّما أوْدى بِشَبابنا إلى متاهات الهلاك ، فهذا التقرير الأخير يقول : حتى الآن مات مليونا شخص مُصابين بهذا المرض ، عدد الموتى في العالم بهذا المرض مليونا شخص ، وحتى نهاية القرن الحالي يقدّر العلماء أنّ عشرة ملايين إنسان سوف يلْقَون حتفهم بهذا المرض ، وحتى نهاية هذا القرن يصبحُ عدد المصابين بالعالم أربعين مليونًا ! وقد قسّم بعض علماء الإحصاء حالات الوفاة على مِعيارٍ زمني فكانت النتيجة أنّه في كلّ دقيقة يموت واحدٌ من المصابين ، أما الأخطر من ذلك فأنّ حاملي هذا الوباء ليس لهم علامات تكشفُ أنّهم حاملو هذا الوباء ، هؤلاء أعدادهم كبيرة جدًّا ، وهؤلاء أخطر على المجتمع من الذين أُصيبوا بهذا المرض ، هذا المرض يكمنُ في الإنسان إلى عشر سنوات دون أن يظهر ، فهذا الذي يحمل هذا المرض أخطر من المريض نفسه ، وهذا المرض أيها الأخوة يهدِّد قارات بأكملها ، وعِلاجه طفيف جدًّا ، العِفَّة ، الاستقامة ، تطبيق أحكام الشرع .
فيا أيها الأخوة الكرام ؛ كلّ شيءٍ يدفعُ إلى المعصية يجب تركهُ ، ونحن عندنا قاعدة أصوليّة ؛ ما كان الواجب لا يؤدَّى إلا به فهو واجب ، وما لا يؤدَّى الفرض إلا به فهو فرض ، وما لا تؤدَّى السنّة إلا به فهو سنّة ، وأيُّ شيءٍ أدَّى إلى معصيَة فهذا الشيء التمهيدي معْصِيَةٌ أيضًا ، لأنّ الشريف كما قيل ليس الذي يهرب من الخطيئة نفسها ، بل الشريف هو الذي يهرب من أسباب الخطيئة ، لذلك ربّنا عز وجل لمْ ينْه عن الزنا ، بل قال : ولا تقربوا الزنا، وقال تعالى :
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾
[ سورة البقرة : 229]
وفي آية ثانية :
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾
[ سورة البقرة : 187]
فلا بدّ من أن يكون هامشُ أمانٍ واسعاً جدًّا بينك وبين المعصِية ، وأساس هذا الهامش غضّ البصر ، وصحبة المؤمنين ، وعدم اقتناء أجهزة اللّهو ، وعدم متابعة البرامج التي لا ترضي الله عز وجل ، هذا الذي قد يقي أسرنا وشبابنا ، وإلا فهو الخطر الأوّل الذي يتهدَّد العالم الإسلامي .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.