برز اسم شارع "محمد محمود" على سطح المشهد السياسي/ الاجتماعي المصري بقوة خلال الأسبوع المنصرم، وصار علامة معتمدة تتداولها وسائل الإعلام والمنابر الإخبارية في أقطار الأرض، ليتابع الملايين الأحداث اللاهثة الجارية على رقعته المحدودة، تحت سطوة الغليان المحموم الذي جعله وجهة الاهتمام الأولى للمنخرطين في تيار الثورة المصرية ومتابعيها على حد سواء، خلال التداعيات التي تفجرت في أعقاب المليونية الأخيرة، إلى الدرجة التي استطاع معها هذا الشارع – الذي ظل هادئاً لعشرات من السنين الماضية – أن يخطف الأضواء من جاره الأشهر "ميدان التحرير". غير أن عنف الأحداث الخطيرة التي جرت على أرض "محمد محمود"(الشارع)، وخطورة التداعيات التي أرهصت بها في باطن الاحتمالات المستقبلية في المشهد السياسي المصري، حالت دون التفات الجميع صوب سيرة "محمد محمود" (الرجل)، ذاك الذي أورث اسمه للمكان، ويبدو أنه أورثه معه شطراً من سمعته باعتباره الوزير صاحب (اليد الحديدية). كما يبدو أن ما جرى بالمنطقة من أحداثٍ متناقضة - جمعت بين فخر المصريين بثورتهم وأسفهم لكثير مما ارتبط بها من أحداثٍ أخيرة – يعكس بدوره تناقض شخصية "محمد محمود"، الذي جمع في تاريخه بين شرف كونه صاحب فكرة تكوين أول وفد مصري للمفاوضات مع الإنجليز على الاستقلال، وبين كثير مما شاب سيرته من حوادث مؤسفة، توالت طوال توليه لحقيبة الداخلية، وبلغت حدها الأقصى خلال توليه رئاسة الوزراء؛ ليصير الرجل الذي سن سُنة تزوير الانتخابات البرلمانية تزويراً صريحاً لأول مرة في تاريخ مصر!!. وُلِد "محمد محمود" (باشا) (1878- 1941) بمدينة "ساحل سليم" بمحافظة أسيوط بصعيد مصر، وعين رئيساً لوزراء مصر في عهد الملك "أحمد فؤاد الأول". ويبدو أن الرجل كان ينطوي على شراسة جامحة، كان لا يأبه معها لما يصدر منه من شطط، حتى في حضور أرفع الشخصيات؛ وهو ما تدل عليه حادثة ذات دلالة، ففي أثناء وجوده بالفيوم زارها الخديوي "عباس حلمي"، ولكنه لم يكمل الزيارة احتجاجاً على هجوم "محمد محمود" على مأمور زراعة الخاصة الخديوية أمامه. ويعزز تلك الرواية ما أُثَر عنه من اعتداد شديد بنفسه، وهو اعتداد كان يصل أحياناً درجة الرعونة؛ إذ كان يؤكد دائماً أن أباه "محمود باشا سليمان" قد عُرِض عليه مُلك مصر قبل "الملك فؤاد" فأبى!!! تلقى "محمد محمود" تعليمه بمدرسة أسيوط الابتدائية عام 1892، ثم ألتحق بالمدرسة التوفيقية بالقاهرة، حيث أتم دراسته فيها عام 1897، ألتحق بعد ذلك بكلية باليول بجامعة أوكسفوردبإنجلترا، وحصل على دبلوم في علم التاريخ، وهو أول مصري تخرج من جامعة أوكسفورد. وعقب عودته من إنجلترا عين وكيل مفتش بوزارة المالية (1901- 1902)، ثم انتقل إلى وزارة الداخلية، وعين مساعد مفتش عام 1904، ثم سكرتيراً خصوصياً لمستشار وزير الداخلية الإنجليزي عام 1905. كان أول من أطلق فكرة تأليف وفد في سبتمبر 1918، للمطالبة بحق مصر في تقرير مصيرها وفقاً للمبادئ التي أعلنها الرئيس الأمريكي "ويلسون" عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وفي اليوم السابق للثورة - 8 من مارس 1919 - اعتقل الإنجليز "محمد محمود" مع "سعد زغلول" و"حمد الباسل" و"إسماعيل صدقي"، ونفوا إلى مالطة، مما أدى إلى تأجيج المشاعر الوطنية وانفجار الثورة. وعقب الإفراج عنهم، في 8 إبريل 1919، سافروا إلى باريس، وانضم إليهم بعد ذلك بعض أعضاء الوفد، وظل الوفد بين باريس ولندن في مفاوضات ومباحثات لمدة عامين. شكّل "محمد محمود" وزارته الأولى (25 يونيه 1928- 2 أكتوبر 1929) وتقلد فيها منصب وزير الداخلية، ليمارس سياسته الباطشة التي عُرِفت بسياسة (اليد الحديدية)، وجاءت وزارته بعد أن أصبح رئيساً للأحرار الدستوريين (1929- 1941). وحتى ذلك التاريخ كان "محمد محمود" هو الوحيد من رجال الحكم الذين تملكوا الجرأة أن يعطل الدستور بالكامل، وإعلان أنه سوف يحكم بما أسماه (اليد القوية)؛ ليلغي – بزعمه - الأوضاع المهترئة التي نجمت عن الحكم الحزبي. وتنم مجموعة الخطب التي كان يلقيها خلال هذه الفترة, والتي جمعت في كتاب بعد ذلك يحمل نفس العنوان, عن تصميم الرجل علي إهمال الحكم الدستوري, وهو ما حدث خلال عامي1928 1929. ومثل هذا العمل لم يجرؤ عليه الملك من خلال رجله "أحمد زيور", كل ما فعله في عهد وزارات هذا الأخير أن قام بتعطيل الانتخابات تحت دعاوى إدخال بعض التعديلات الدستورية, كما لم يجرؤ عليه "إسماعيل صدقي" - الذي يمكن اعتباره منافس "محمد محمود" الأوحد في القوة والبطش - والذي بدأ عهده بمحاولات لتعديل دستور1923, انتهت بإحلال دستور بديل, ولكنه لم يُلغ الدستور بتاتاً. ثم عُيّن الرجل رئيساً للوزارة للمرة الثانية (30 ديسمبر 1937- 27 إبريل 1938)، واحتفظ فيها أيضاً بمنصب وزير الداخلية، وبدأت الوزارة أعمالها بحل البرلمان الوفدي، وفصلت الموظفين الوفديين، وسيطرت على الانتخابات. محمد محمود إلى يسار الملك فاروق، صورة تذكارية التقطت بمناسبة تشكيل وزارة محمد محمود الثانية عام 1937. ثم شكّل وزارته الثالثة (27 إبريل - 24 يونيه 1938)، واستمرت في استخدام سياسة القوة، وأضافت إليها سلاحاً آخر؛ إذ استخدم "محمد محمود" الإدارة لإجراء التزوير الصريح لإسقاط مرشحي الوفد, مما شكل السابقة الأولي في تزوير الانتخابات البرلمانية في مصر, والتي اتبعتها حكومات عديدة بعدئذ! وأخيراً شكّل "محمد محمود" وزارته الرابعة (24 يونيه 1938- 18 أغسطس 1939)، والتي سقطت بعد عام واحد من تشكيلها بفضل مناورات "علي ماهر" رئيس الديوان الملكي. والطريف أن وزارة "محمد محمود" أرادت التشهير بعهود الوزارات السابقة، فشكلت لجنة برئاسة وزير الدولة لحصر الاستثناءات التى تمت فى ترقيات وعلاوات الموظفين والتعيينات التى تمت مخالفة للقوانين، وانتهت اللجنة الى نتيجة سلبية؛ إذ وجدت أن الاستثناءات لجأت اليها كل الوزارات السابقة بما فى ذلك وزارات "محمد محمود" ذاتها!! ورأت أنه ليس من العدل قصر إلغاء الاستثناءات على عهد دون آخر، وأنه إذا أُلغِيَت الاستثناءات التى تمت فى كل العهود لتم تسريح أكبر عدد من الموظفين، فبقيت الاستثناءات السابقة واللاحقة ولم يُنشر تقرير هذه اللجنة!! وهكذا؛ يأبى التاريخ الملتبس لرجل التناقضات "محمد محمود" إلا أن يمتد بيده (الحديدية)، ليضع بصمة حارقة فوق جبين شارعه الصغير الشهير، ترتفع سحب دخانها لتنعقد حول روائح الغازات المهيجة للأعصاب، التي لا تزال تزكم أنوف المارين به، وتُعشي معها ملايين العيون المحملقة في أحداثه التي لمّا تتكشف أسرارها بعد.