أ.د.إلهام سيف الدولة حمدان – مصر هل تستطيع أن تذهب إلى طبيب تحيطه الأقاويل بأنه طبيب فاشل؛ أو أشيع عنه أن أدواته الجراحية لاتحظى بالتعقيم والنظافة ؟ بالتأكيد ستفكر عشرات المرات قبل أن تذهب إليه وتدفع ( الفيزيتة ) المقررة للكشف والجلوس بين يديه، فمهنة الطبيب مثلها مثل مهنة معلم أو محاسب أو مهندس أو سائق . لكنني الآن بصدد التعرض لمهنة أخرى تختص بالذوق والحس الفني واللغوي للجماهير التي تجلس أمام الشاشات؛ أو تنصت إلى الصوت الذي يبثه الراديو أو المذياع بلغتنا العربية الرصينة، وهنا أشير إلى مهنة ( المذيع ) الذي يجلس خلف الميكروفون أو أمام الشاشات الفضية، وفي لغتنا العربية نجد أن كلمة "مذيع" مرتبطة بالفعل؛ بمعنى الانتشار والإعلان عما كان خافيًا أو غير معروف إلى عدد ٍغفير من الناس، وعلينا أن نلاحظ الفارق بين المهمة المكلف بها من يتصدر لإذاعة نشرة الأخبار، وبين مهمة الوعاظ أو الخطباء الذين يعتلون المنابر للقيام بإذاعة ونشر القيم الدينية والعقائدية بالمسجد والكنيسة والمعبد؛ بغرض إثارة وتحريك الوازع الروحي في النفوس، أو ربما لمحاولة تحفيز الجماهير للإقدام على عمليات تحريك الماء الراكد في المجتمعات، أو تهدئة تلك العمليات؛ كلٌ بحسب المواقف التي يعتلون المنابر من أجلها . وكان هذا مقبولاً قبل ظهور وسائل الاتصالات بالتكولوجيا الحديثة، فقد اختلفت وظيفة المذيع واختلفت الأساليب التي يتواصل بها مع المجتمع، فليس من المعقول أو المقبول أن يمارس وظيفة "خطباء المنابر" نفسها؛ واستخدام الأساليب الخطابية عينها التي تعتمد على الألفاظ الضخمة والفخمة واستعراض الصوت الجهوري في التعبير، واستخدام كل المقومات التي تتناسب فقط مع عالم الممثل المسرحي وما يصاحبه من إشارات باليد أو ملامح الوجه ، وضرورة وصول صوته إلى آخر مقعد في صالة العرض، أما في المذياع فإن الخبراء يقولون عنه أنه وسيلة عمياء ؛ بمعني أنها تعتمد على الصوت المنبعث عبر موجات الأثير؛ دون مشاهدة لانفعالات وجهه وتقاسيمه ، ويتم التواصل عن طريق الصوت الذي يجب أن تتوافر فيه الشروط والمواصفات التي تشد انتباه المستمع ، ليس للمعاني والمضامين فحسب، ولكن باشتراط حسن التعامل مع اللغة العربية بكل جمالها وجلالها وبهائها، وهذا هو الأساس في الإضاءة على هذا الموضوع الحيوي في عالمنا العربي . ولذلك نشدد على أنه يجب على كل من يتصدى لقراءة النشرات الإخبارية؛ أن يكون صوته واضحًا وجهوريًا، لاسيما في إيضاح مخارج الحروف، وهذا يتأتي من إتقانه لقواعد اللغة العربية، ويجب ملاحظة أن هناك فارقًا كبيرًا بين المميزات المطلوبة للمذيع التلفزيوني؛ وتلك الواجب توافرها في المذيع عبر موجات الأثير في المذياع، وكذلك في الاختصاص ، فمواصفات مذيع البرامج الرياضية تختلف عن المذيع لنشرة الأخبار، أو مقدمي البرامج وفواصل الربط بين الفقرات ، فلكل مادة اذاعية أو تلفزيونية طابعًا خاصًا يستدعى علاقة خاصة بينها و بين مقدمها تختلف خلالها طريقة العرض والتقديم حسبما تمليه طبيعة المادة المذاعة . وفي إطار هذه الإضاءة على واجبات ومقومات النجاح للمذيع /المذيعة ، نشير بضرورة أن يكون محصنًا بثقافة عالية؛ مع الإلمام التام بمشاكل المجتمع والحلول المقترحة لها؛ ويمتلك القدر الوافر من الدبلوماسية في إدارة الحوار مع ضيوفه ، وهذا يتطلب الحياد التام دون فرض رأيه الشخصي على محاوره ؛ وضرورة أن يمتلك المخزون العالي من المعلومات الموثقة في كافة المجالات الحياتية الثقافية والفنية والسياسية والاقتصادية، لأنه في خلال مسيرته خلف الميكروفون أو أمام الشاشات الفضية خاصة مقدمي البرامج سيلتقي بالعديد من الشخصيات السياسية والفنية والإعلامية والعلمية، وهذا يتطلب أن يكون حاملاً لتأشيرة الدخول إلى تلك الساحات الشاسعة من الأفكار والمعارف ، يلي ذلك القدرات الصوتية والنبرة المميزة التي تمتلك قوة التأثير بطبقة الصوت المناسبة لكل حدث وخبر؛ بحيث يستحوذ المذيع على أذهان ومشاعر كل من يصيخ السمع إليه ؛ إضافة إلى التمتع بالمصداقية والشفافية التي تعبرعن توجهات القناة أو المحطة التي يمثل واجهتها؛ بل ويصبح عنوانًا لها بدوام المصداقية للحصول على أعلى نسبة من الاستماع أوالمشاهدة ، وقد جرى العرف في وسائل الاتصالات الحديثة على الاعتداد بمؤشرات التتبع العددي للمشاهدة والاستماع؛ التي تعود بالنفع المادي على القائمين عليها ، وتعد رسمًا بيانيُا لاكتساب المزيد من جمهور المستمعين والمشاهدين ، خاصة في القنوات الإذاعية والتليفزيونية الرسمية، لأنها تكون بمثابة ( فاترينة ) العرض لتوجهات الدولة وأهدافها . من هذا المنطلق، نهيب بالسادة القائمين على اختبارات واختيارات الجُدد من المذيعين؛ أن يتم الاختيار من العناصر التي تؤمن بمقدرات هذه المهنة وشرفها ومتطلباتها، وبعيدًا عن المجاملات والوساطات التي تضر بالمهنة والعاملين بها ، فالمذيع في تقديري مصلح اجتماعي يقوم بتقديم رسائل على الهواء لجمهوره لتعليمهم وتثقيفهم والترفيه عنهم، فهو ضيف كل بيت في المجتمعات التي يطل عليها، والبيوت لاتقبل الضيف الثقيل، كما ترفض الذهاب إلى الطبيب سيء السمعة ! أستاذ العلوم اللغوية بأكاديمية الفنون