أ.د.إلهام سيف الدولة حمدان – مصر إن "الضمير"كما يصفه الفلاسفة عبارة عن تركيبة من الخبرات العاطفية والحسِّية القائمة على أساس مفهوم الإنسان للمسئولية الأخلاقية في مجمل سلوكياته داخل المجتمع الذى يعيش بين ظهرانيه، والضميرهو الشيء الذي ليس له صفة "خلقية" ملموسة، وإنما الذي يحدده وضع الفرد داخل المجتمع وتأقلمه بحسب ظروف حياته وتربيته، ويتنامى إيجابيًا بحسب إيمان الفرد بالواجب المنوط به؛ والنابع من الوعي الكامل لدوره وتوجهاته ورسالته في الحياة . فالضمير (عند علماء النحو): هو ما تُضمِرُه في نفسك ، ويصعُب الوقوفُ عليه؛ وهو مادل على متكلم ك(أنَّا)، أو مخاطب ك(أنت)، أو غائب ك(هُو)، والجمع: ضمائر، أما الضمير المهني فهو مايبديه الإنسان من استقامة وعناية وحرص ودقة في القيام بواجبات المهنة التي يعمل بها أيّا كانت ، ويتبادل العامة الألفاظ المحمَّلة على اللغة كقولهم : تأنيب الضمير/عذاب الضمير/وخز الضمير، تعبيرًا عما يتخيلونه من أحاسيس الندم التي تعتري من ينحرف عن السلوك القويم، أو ارتكابه لأخطاء تخالف العادات والتقاليد الإنسانية البعيدة عن السماحة والرضا والقناعة ، ويقولون عمن يتصرف تصرفات عشوائية مجحفة للمجتمع بأنه فاقد الضمير أو معدوم الضمير . إذن فالضمير هو "القاضي العادل" الذي يعيش بداخل النفس البشرية ، ليكون هو الرقيب والحسيب؛ و"سوط" الردع الذي يرتفع ليلهب حواسك قبل ظهرك في التوقيت المناسب لدرء انحراف أو ارتكاب معصية أو نميمة؛ أو إيعاز على مخالفة شرع أو عقيدة أو مبدأ من المباديء الرفيعة السامية، وهو الذي يحذر من الخطر بالتنبيه في الوقت الملائم، ويضيء كل الإشارات الحمراء في الشرايين والدماغ، فيفيق الإنسان من غفلته أو من غفوة ضميره الذي يُخشى عليه من أن يذهب في سباتٍ عميق، فيضمُر، ويذبل، وينطفيء توهجه، ويخبو، ويموت !! فالمؤكد أن الإنسان بلا ضمير؛ يشبه محكمة بلا قضاة ! فالدولة قادرة على تطبيق وفرض القوانين الوضعية عليه؛ ولكنها أبدًا لاتستطيع أن تفرض عليه الالتزام بالأخلاق السويَّة القويمة، فهي لاتعلم ماتخفيه السرائر والنفوس، فالله وحده عز وجل " يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ"، وهذه بديهية يعلمها القاصي والداني ، ممن يعرفون الله فيعرفون أنفسهم . فما بالي اليوم؛ أتلفت حولي في ذهول لأبحث وأفتش وأنقب في جنبات المجتمع؛ عن هذا "الضمير الغائب" والتائه ؛ داخل شرائح عريضة للأسف تعيش بيننا الآن في مجتمعنا المصري، يستوي فيهم من يغيب ضميره جهلاً، أو عمدًا، أو جنوحًا إلى السبيل غير المستقيم، بغية ربح أو استغلال، أو تجارة يريدون لها الرواج بالفساد والإفساد، ومحاربة ممنهجة لقوام المجتمع وكيان الدولة، تنفيذًا لمخططات خارجية حاقدة تريد الإطاحة بكل ماهو جميل وأصيل وفطري في الإنسان المصري . ولعل المشاهد اللاأخلاقية التي لاتعبر عن جوهر وأصالة المصريين ونشاهدها في هذه الفترة الحرجة من تاريخنا المعاصر؛ في بعض القرى والنجوع في صعيد مصر، وترصدها وتنقلها الشاشات وصفحات الجرائد، تشي بانقلاب مثلث الأخلاق على رأسه داخل المجتمع، وتعد هذه المشاهد القميئة علامة واضحة على انعدام الضمير داخل تلك الفئة المغيبة المارقة؛ والتي لاتعبر إلا عن توجهاتها ومعدنها الصديء ؛الذي غابت عنه فلزات وكيمياء وعناصرالضمير الحقيقي . ولعل تلك الروائح الكريهة التي تنبعث من هذه المشاهد والتصرفات العبثية؛ نابعة من "جثة الضمير" الذى مات وطفحت عفونته داخل تلك الفئات التي لاترعى حرمة، ولا تحفظ الولاء للوطن الذي نشأوا على أرضه وأكلوا من طيب ثمراته وخيراته . وحين يموت الضمير؛ تموت ملكة الإبداع والابتكار والحب ؛ وتفقد الحواس خواصها وقيمتها؛ ليتحول الإتسان إلى "آلة" لاتعرف تروسها سوى طحن كل غالٍ ونفيس .. حتى أرواح البشر ! من هذا المنطلق نثمن مقولة الأديب المصري الكبيرتوفيق الحكيم؛ الشهيرة التي يضع بها دستور الحياة للإنسان : "ليس العقل ما يميز الإنسان عن الحيوان ولكن الضمير" ! وكم كانت تلك المقولة صادقة؛ ومعبرة بعمق عن البنية الحقيقية التي يجب أن تكون عليها الروح الإنسانية السمحة؛ والتي لاتساوي حبة خردل؛ إذا لم يغلفها ويحميها "الضمير" المتيقظ دومًا داخل القلب ؛ ويسري سريان الدماء في العروق ، وعلى هذا المنوال الذي يعطي الضمير الأهمية القصوى لاستمرار نهر الحياة في جريانه الطبيعي؛ وعنه قال فيكتور هوجو : "الضمير هو (صوت) الله الموجود في الإنسان" ، ويدعمهما أحد الشعراء بقوله:" لا خيرَ في نَيْل الحياة وعيشِها ** إذا ضاعَ مِفتاحُ الضمائرِ وانمَحَى ! ونعلم تمام العلم أن هناك شعرة رفيعة بين الطموح والطمع، وبين الاعتزاز بالنفس والغرور، وبين الحرية والفوضى ، فهل نحافظ داخل مجتمعنا وعلاقاتنا على الشعرة الباقية بين الإنسان ومجتمعه بضمان اليقظة المستمرة التى لاتغفو للضمير الإنساني ؟ وهل يستلزم لضمان توهج تلك اليقظة إضافة وزارة إلى التشكيل الحكومي؛ ونطلق عليها لقب "وزارة الضمير" ؟ بالتأكيد لسنا بحاجة إلى هذا؛ ولكن حاجتنا أشد إلى الإيمان بما انطوت عليه المقولات السابقة وغيرها؛ وعلينا أن نجعله باقيًا في أعماقنا ليرشدنا إلى الطريق المستقيم . وها أنا أكتب لكم بوازع من ضميري الحي ! أستاذ العلوم اللغوية أكاديمية الفنون