(3) النحاة والحداثة قبل القرن العشرين: إن بعض اللغوية والنحويين والرواة في القرن الثاني للهجرة نظروا إلى الحداثة الشعرية على أنَّها خطأ يجب أن يُقاوم، ولاسيَّما في مجال التغيُّر اللُّغوى، فكلُّ انحرافٍ عن نظام اللُّغة أو دلالات الألفاظ أو المعايير النحوية والأنماط الصرفية من شأنه أن يُشين عظمة التراث وصحته، ويضيق آفاقه، ويحد من سلطته لمخالفة هذه الحداثة للقواعد المستنبطة والنصوص المدونة. إن هذه الطائفة اعتنت بجمع المادة اللغوية- لاستخراج القواعد- من فصحاء البادية وأعرابها، وتجسَّدت آراؤها عمومًا في خروج اَلْمُحدث على التركيب المنطقى للجملة العربية؛ في فصاحة ألفاظها وبلاغة سياقها، وكان النحو في معتقدهم نظامًا سكونيًّا لا حياة فيه ولا مرونة، وعلى الرغم من اقتدار اللغويين الظاهر على معرفة النحو والغريب ولغات العرب والصيغ الموروثة والأحكام النقدية الذوقية المتداولة والمهيمنة التى استخدمت فيصلًا ومقياسًا في4 الحكم على أصالة الشاعر تراثًا وطبعًا أو زيفه حداثة وصنعة، مع أن الحياة ليست واحدة، إنَّها شبكة معقدة ونص كبير لا يمكن أن يحدد ضمن سياقات ضيقة أو مقدرة ؟ لا سيما إذا كان الشكل السائد يميل إلى البساطة وصراحة التعبير. إن ثقافة اللغوي كان لها أثر في استمالة القارئ إلى الموروث القديم وقراءته ونشره. وبهذا أضحى هذا القديم ملاذًا يلجأ إليه كلُّ مَنْ تعذَّر عليه مُواكبة الجديد في رحابة وعمق، فإن اللغوي وبحكم تخصصه واستغراقه الطويل في قراءة النماذج الجاهلية خاصة، عبَّر عن عدم قدرته على تقبل الرؤية الشعرية الوليدة والجديدة، لهذا خاصم الشعراء- مثل هجوم أبى نواس على ثعلب، وهجوم ابن الرومي على الأخفش الأصغر وثعلب- والنقاد المحدثون هاجموا هؤلاء اللغويين وعابوا أحكامهم وسفَّهوها، أنهم ليسوا أصحاب بصر بخفايا الشعر وجواهره، مثلما أُثر عن الجاحظ وعبد القاهر الجرجاني وابن الاثير وأبى بكر الصولى، الذي يخطئ صنيع اللغوي. وقرر عبد القاهر الجرجاني أن الشعر وسيلة لتحديد جودة الصياغة، وتبيان مواطن الجمال. وقد جعل للنحو وظيفة بنائية معنوية، وليس مجرد وظيفة تهتم بحركة الكلمة وبنائها. ولأن التراث في منظوره ثابت؟ والثابت أصل، بينما الحديث مُباغت واُلْمُباغت تشويهٌ لهذا الأصل، وتحريفٌ له لهذا لم يقر بأن الحداثة ليست نقضًا للتراث، بل هي إشكالية زمانية تتآخى فيها العصور وتتجاور ولاتتباعد أو تتنافر. والمفكر الإنساني بما في ذلك الفكر اللغوي العربى مؤسس على الانسجام والتناغم، بحكم القوانين الإلهية التي هي أصلاً مبنية على التوافق، بينما التناقض السلبي لا يقر بهذا التوالد الطبيعى، ولذلك فإن التراث اللغوي العربي لا يخلو من محاولات جادة للحداثة والتحديث، هذه الحداثة العربية تنطلق من التراث، تتجه لخدمته وترقيته وتحديثه وتطويره؟ كي يتناسب مع متطلبات العصر. وسأذكر فيما بعد بعض المحطات الحداثية التحديثية التي شهدها الدرس النحوي واللغوي العربي. لقد تعرض النحو العربي، ولا يزال للتحديث والحداثة، ومن أهم الأمثلة في هذا الشأن ما يأتي: أولًا: نقط المصحف وضبط الحروف العربية: لقد كان العرب ينطقون العربية ويكتبونها من دون نقط أو ضبط، ولكن بمرور الزمن وتبدُّل الأوضاع أصبحوا في أمسِّ الحاجة إلى أمر محدث (حداثى)،وهو ضبط الحروف العربية، وكذلك فإنهم بحاجة أشد إلى نقط المصحف؛ خوفًا من اللحن وما نحو ذلك، كل ذلك لأنَّ "الذي صور حروفها لم يضعها على حكمة ولا احتاط لمن يجيء بعده، وذلك أنه وضع خمسة أحرف على صورة غير مبينة للأخرى [التنبيه على التصحيف:ص72] ، وهذه الحروف: الباء والتاء والياء والنون والثاء، وكلها ترسم برسم واحد، وكذلك السين والشين، والحاء والخاء والجيم…. إلخ، والعرب كانوا ينطقون بها ولديهم المقدرة للتمييز بين هذه الحروف، وعندما جمع اللغويون اللغة أبقوا على رسم هذه الحروف كما هو. ولقد روى أن الصحابة- رضوان الله عليهم- جرَّدوا المصحف من كُلِّ شيءٍ، حتى من النَّقط والشَّكل، وروى أبو أحمد العسكري "أن الناس غبروا يقرأون في مصاحف عثمان- رضى الله عنه- نيفًا وأربعين سنة إلى أيام عبد الملك بن مروان، ثم كثر التَّصحيف وانتشر بالعراق، ففزع الحجاج الثقفي إلى كتابه، وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علاماتٍ، فيُقال إنَّ نصر بن عاصم (ت 91 ه) قام بذلك، فوضع النقط أفرادًا وأزواجًا، وخالف بين أماكنها بتوقيع بعضها فوق الحروف، وبعضها تحت الحروف، فغبر الناس بذلك زمانًا لا يكتبون إلامنقوطًا[شرح ما يقع فيه التصحيف، ص 13]. ولا ننسى المحاولات الحداثية في هذا الشأن لأبى الأسود الدؤلي (ت 69 ه) حيث إنه نقط المصحف وضبط الحروف العربية، ثم جاء الخليل بن أحمد (ت 175ه) وضبط الكتابة العربية، وهكذا هُدي الخليل إلى أن يصوغ شكل الأصوات صياغةً دقيقةً، مِمَّا جعله يدخل على النقط أو الأعوام علامات للروم (الإشمام والتشديد والهمزة المتصلة والمنقطعة، واخترع علامات الضبط التي لا نزال نستعملها إلى اليوم، إذ أخذ من حروف المد صورة مُصغَّرة للدلالة عليها، فالضمة واو صغيرة في أعلى الحرف، لئلا تلتبس بالواو المكتوبة… إلخ[المدارس النحوية، لشوقي ضيف، ص 33]