لاشك أن جميع القضايا الأدبية شهدت تطورا بينا ،ساهم بشكل أو بآخر بفعل تراكم الدراسات النقدية المهتمة في تسحين جودة الإنتاج الأدبي، وأظهرت الخلل الذي يصيبها ويؤدي إلى رداءتها،فلم تستثني من ذلك قضية السرقات الأدبية،هذا المفهوم القديم الذي عوض منذ سنوات ستين القرن الماضي بمفهوم جديد هو"التناص"؛نظرا لمجموعة من العوامل التي لا يتسع الحيز لعرضها. يصبح من العادي أن يتوقف القارئ المتمرس للحظات عند عبارة او جملة معينة استدعته أن يتذكر ما شابهها في أحد الكتب .قد تصبح هذه العملية تقاطع في عمقها نصا آخر يخدم ذات الموضوع ليكرس ذات المعنى أو ينحو ليبني دلالة جديدة ،لكن بنفس النسج اللغوي. لم تحصر هذه القضية في إطار جنس دون آخر ،إنما شملت جميع الجناس ،وتناولت الشعر منه والنثر بشتى تفرعاته :السيرة ،القصة،الرواية،الرحلة…بمعنى أنه قد تدرس تحاور قصيدة شعرية مع نص من ذات جنسها ،أو تقاطع نصين متباينا عنها ،يأخذ خلالها النص تعابير نصوص أخرى ويحاكيها ،لتخلق صيغة حوارية بين إنتاجين أدبيين متصاحبين زمنيا أو متباعدين . تلا تطور مفهوم التناص ظهور أساليب حديثة لمظاهر هذا الأخيرمع الإبقاء على ماهية القضية،منها النصوص التفاعلية التي يتفق كتابها على وحدة الموضوع،ثم وضع اللمسة الشخصية التي تميز إبداع كاتب مقابل الآخر. من دواعي كتابة هذه المقالة قراءتي نصين تفاعليين لكاتبين متباينين ثقافيا وجنسيا؛الأول هو الكاتب العراقي صالح جبار خلفاوي والكاتبة اللبنانية سامية خليفة. هذه المحاولة لا محال تؤكد مدى اختلاف درجة التعامل مع ذات الموضوع إما بتجريده من الدلالات الخارجية والإخلاص لوحدة الموضوع ،وهو ما جاءت به سامية خليفة ،أو بتضمينه بعض المشاكل التي تعيق سيرورة الأمن في الواقع -المحيط،الشيئ الذي خص قصة صالح خلفاوي،هذه الوقائع المرافقة عاملة في جودة النص لقدرتها على إبراز كل ما هو مكون لخصوصية النص. إذا قمنا بقراءة قصة صالح خلفاوي "النمو" نجدها غنية بالأحداث الخارجية،منذ أول سطورها: "الشرطي الذي رصدنا…يغلق عينيه" كناية عن تربص عين المراقبة لأدق الأحداث أهمية،سواء كانت عيون التقاليد أو عيون القوانين المدنية المتمثلة في الشرطي ،ونجد الكاتب يبرز صفة الحزن الذي يلف كومة الفرحة الخرساء "وزغاريد مكتومة لئلا يجرح فسيلة النخلة".كما يظهر في فقرة أخرى غياب سلطة الأب أو اكتفائه بالصمت محاولة منه إخفاء ما يدور في فكره"وأبوه صامت بلا تعابير"،لم يتكتفي الكاتب بهذا ،إنما زاد في تكريس دور الأحداث العاملة حينما ذكر سبب غيابه ،ولما قد انقطعت اتصلاته :"كانت الخدمة الهاتفية رديئة بسبب ارتفاع درجات الحرارة …تتقلص لأجل أن يستفاد الأفاقون الذين انتخبناهم…كانوا يبيعون الكلام علينا بكريقة منمقة…" في هذا المقطع يختلط ما هو عاطفي بما هو اجتماعي و سياسي،فلا نتوقف عند انقطاع الاتصالات ،لكن نتجازها لنطلع على رداءة الشبكة الهاتفية واستفادة المنتخبون وقضاء مصالحهم الشخصية بعد تسخير المال وانتقاء ما يجود به أحسن الكلام للفوز في لعبة الانتخاب.ثم يعود بنا الكاتب إلى صلب الموضوع ليبوح بداعي الانفصال وهو الشك "ما زلت تفكرين بجارك؟"ويختار في النهاية الهروب والاستسلام"البقاء في الذاكرة انهمار للذكريات…/لذا سأنهي مقاييس تأخذ منحى المريدين…" القصة الخاصة بالسيد خلفاوي تعد مجالا يلعب فيه وتنقل عبره التحولات الاجتماعية والسياسية،و إذا قارناها بقصة "النمو"لسامية خليفة نجد أن الأخيرة فيها نوع من التحفظ في نقل المؤثرات الخارجية،ويكون بذلك الذوق مشتركا إلا من بعض الجوانب النسبية. طبعا بناء على هذا الشرط تتباين إمكانية التأويل،ونضيف شرطا ثانيا هو مدى القدرة على صهر الحدث ،فإما يزيد المعنى،وإما ينقص تبعا لمشكل النقص والتعارض. لن يواجهنا مشكل التعارض ،في هذا المقام،لأن الكاتبين يتفقان في وحدةالموضوع (الافتراق نتيجة تدخل ابن الجار،ورغبة أمه في زواجه من الفتاة قبل الخروج للجهاد،ثم موت وغياب الشخصية الأولية عن التواصل مع الفتاة بدافع الغيرة والشك(. كما يشتركان في بعض التعابير مثل:(وأصابعنا متشابكة…) يكمن وجه الاختلاف في الطابع الشخصي لكل من الكاتبين ،فإن كانت بصمة الكاتب تبرز في عرض العامل الخارجي،فإن بصمة الكاتبة تظهر في أسلوب التبرير والإفاضة في الشرح،الذي هو خصيصة نسائية. "لبنان أعادتني إلى الوراء …/لا تبرح خيالي عن آخر لقاء جمعنا …"تستسلم الفتاة الذكريات، وتضيع في متاهات التفسير والتبرير،لتؤكد عنصر الوفاء"فسيلة النخلة أنا من اعتنت بها…"،وتعلن من جهة أنها أخرى أنها تعلم غيرة الشاب وشكه الدائم"الغيرة أعمت إدراكك.."،ثم تعاتب خيانة الأرض واغترابه عنها مقابل وفاء ابن الجار لمهمته واستشهاده في المعركة "ابن جارنا استشهد بين يومين…/ ألم يشدك الحنين إلى تلك الأرض…/ثم في ليلة ظلماء انتزعت جدورك وتنكرت…". وفي النهاية تختم بوضعين :هي تخص نفسها بالوفاء"مضت سنون وأنا في انتظارك"،وهو تشرده من جميع مشاعره فتفرده بالغيرة"لم تسألني إلا على ذلك الجار.." وتخلق تناصا جديد مع الأساطير اليونانية"اخترت الغربة خنجرا مسموما طعنت به أجمل قصة حب".(أسطورة ديانيرا وهرقل.) خلاصة أقول إن الحديثين يختلفان بناء على اختلاف رؤية الكاتب للموضوع:الجار بالنسبة لصالح خلفاوي سبب الرحيل ،وهو عند سامية خليفة منبع الأمل..